جماليات رسوم الطف والوعي الجمعي..

وضع علماء النفس كثير من النظريات التحليلية لعملية الأبداع وجمالياتها وعلاقتها بالمتلقي في الفنون التشكيلية عموماً والرسوم الشعبية الدينية بشكل خاص، وقد اتفق البعض منهم على أن المتعة الجمالية في هذا النوع من الفنون هي محصلة علاقة المتلقي الخاصة مع العمل الفني.. و أذا ما نظرنا الى مجمل العلاقات الرابطة بين هذه الرسوم ومنفذيها ومتلقيها،  نجد ان هناك علاقات مختلفة منها عقائدية واجتماعية وسياسية وحتى اقتصادية.. تلقي بظلالها وتجعل من الرسوم الشعبية متنفساً يصرخ من خلاله المبدع ليعبر عن رفضه أو قبوله لما يحيط به في العالم الخارجي.

ان الفنون الشعبية هي وسيلة اتصالية لتفريغ الشحنات النفسية والمشاعر و التجارب الإنسانية المختلفة كما هو حال انواع الفنون الاخرى.. فهي تدور في سياق من الأحداث تؤثر في الفنان والمجتمع المنتمي اليه، والرسوم الشعبية لواقعة الطف هي احدى اهم تلك الوسائل الاتصالية في المجتمع الشيعي الموالي لآل بيت النبوة الاطهار سلام الله عليهم.. كونها تمثل مجموعة من الرسوم غير الخاضعة للقوانين والأسس والمعايير الفنية، وتتسم بحيوية اشكالها وسرعة انتشارها في المجتمع من خلال قوامها المؤثر، والمتمثل بمجموعة من الأشكال المتخيلة المستوحاة من المرويات والمرجعيات الفكرية والتاريخية التي تحاكي أحداث واقعة ألطف أو شخصياتها،  وذلك بما يمتلكه رسام هذه اللوحات من موهبة فنية واحاطة تاريخية عقائدية بفكرة الموضوع ،فهو يمتلك القدرة على أحداث تغير في شكل الخامة الطبيعي- سطح اللوحة - لتتحول الى صورة مبتكرة ذات صفات جمالية محملة بالمعاني والمضامين التي تستمد مقوماتها من الخلفيات المرجعية الآنفة الذكر، فيسعى الرسام لأبداع أشكال محملة بمضامين هذه المرجعيات لتولد متعة جمالية بصيغة تشكيلية مؤثرة في نفس المشاهد.

حاول الفنان الشعبي في اغلب منجزاته الابداعية نشر الخطوط وتنويعها بين أفقية ومائلة وشاقولية وأخرى منحنية، بغية اظهار الابعاد الجمالية في التعبير عن الشكل والمضمون، فأن تأثير الخط لا يبدو واضحا ما لم يتحقق اختلاطه مع أنواع الخطوط الاخرى، وهنا تظهر براعة التعبير الفني عند موافقة نسبة أنتشار الخط في محاولة التعبير عن مضمون العمل والشكل الفني، أما فيما يتعلق بالألوان فأغلب اللوحات الشعبية الدينية او الشعبية المتعلقة بالموروث الاجتماعي المحلي كانت ومازالت تظهر بانسجام لوني وتدرج رتيب للأشكال اللونية افقياً وعمودياً، فشدة اللون في بعض اللوحات تزداد في أسفلها او وسطها وتخفف بشكل تدريجي صعوداً الى الأعلى وذلك حسب تسلسل البناء التكويني للوحة كما في سلسلة اللوحات اعلاه المنجزة بريشة الفنان المميز حسن روح الامين، حيث وضح الفنان وفي اغلب لوحاته اللون القاتم على الأرض وبعض الاشكال الممثلة للشر والباطل.. ويلاحظ فيها الانسجام اللوني عبر أتخاذه اللون البني او اللون الأحمر ومشتقاته والذي يخفف من حدته وصولاً الى النور المشع في الطبقات العليا من اللوحة القريبة من مصدر إشعاعها المتمثل بمصدر الخير والنقاء – رأس الامام الحسين عليه السلام -، وقد عمد الرسام على اظهار البساطة وعدم التعقيد والفطرية في تحويل الأفكار الى صورة حسية،  فضلاً عن محاولته لنقل احداث لوحاته ومضامينها بصيغة واقعية وتعبيرية مما يساعد على أضفاء سمة جمالية عليا كونه يصور فيها أفكار دينية عقائدية  تخص مظلومية الامام الحسين عليه السلام واصحابه في معركة الطف.

أن استقراء المنجزات الفنية الشعبية وأطلاق الأحكام الجمالية عليها من خلال مشاركتها الوجدانية للمجتمع، هي التي تحدد موقفه منها بالرفض او القبول.. فيقبل منها ما يتفاعل ورغباته ويرفض منها ما يفصل بينه وبين الحياة، وهذه الرغبات في العادة مردها الى المسائل العقائدية والسياسية والاقتصادية والأخلاقية، وان جوبهت بالرفض من الآخر فالمتلقي لا ينفي الجماليات التي قامت عليها تلك الاعمال الفنية.. فيكون المتلقي ملزماً بالعمليات التنظيمية المقصودة التي تشكلت في اللوحة بناءً على قواعد منظورية خاصة ابدعها الفنان ، تتيح للمشاهد الاستقرار والمتعة حين تعرضه لأشكال اللوحة والوانها المتناوبة بين الغامق والفاتح وبالتالي تحققت اللوحة جمالياتها ومتعتها للمبدع والمتلقي بعيداً عن التأويل السلبي والمغالاة العقائدية او المذهبية.

أن موضوع الذائقة الجمالية في الفنون التشكيلية والرسوم الدينية الشعبية بشكل عام يحتاج الى التعلم والتدريب، لتتكون عند المشاهد خبرة جمالية تؤدي به الى الإحساس بجمال الأشكال والألوان وملمس السطوح والكيان الكلي لأي عمل فني، الا أن الخبرة الجمعية والمفهوم العام بموضوع الرسوم  الدينية الشعبية، تجعل من أي عمل فني محطة مشروعة للتوقف عنده وتأمله نظراً لما يحمله من محتوى عقائدي وجمالي، وهذا التوقف هو بالتحديد ما يؤدي الى تذوق العمل الفني.. انطلاقا من العمل الفني يحمل بين طياته أسساً ذاتية وموضوعية في آن واحد، أذ أن آلية البناء وربط الأجزاء بكلية المنجز الفني هو الذي يؤدي الى التطابق بين الأشكال ومحتواها.. وان كل انسان باستطاعته ان يتذوق الاشكال الفنية وله متعته الخاصة بمشاهدتها، وأي رفض أو قبول ورضا في التذوق يؤدي الى إصدار الاحكام بجمالية العمل من عدمها، وبتكرار هذه المواضيع واستمرار تداوليتها في كل موسم يحيى فيه ذكرى الموضوع - كما في رسوم واقعة الطف وثورة الامام الحسين عليه السلام - يؤدي الى تداولية هذه الرسوم وأثارة ما تحمله من الآم واشجان، وما تدور حولها من اشكاليات تستوقف الآخر وترتبط بمحتواها وطريقة بنائها والعلاقة بين الأثنين، وبالتالي تكون المنفعة ثلاثية الجوانب تحمل في أحد أطرافها ترسيخ العقيدة الدينية المشذبة لإنتاج أي موضوع فني ديني او سياسي بالنسبة للوعي الجمعي، ومن ثم بناء خبرة ذوقية عامة يبنى على أساسها اصدار الاحكام الجمالية بما  يقترب من اكتساب المقبولية والصدق بعد أتفاق المجموع، وثالثاً اعطاء الخبرة والمهارة لمنفذي هذه الأعمال والوصول بها الى حالة جمالية مستقرة عن طريق التدريب والتطوير والمران وصقل الخبرات .

سامر قحطان القيسي

الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة

المرفقات