مما لا شك فيه ان قضية استشهاد الامام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) تعد من القضايا الشائكة والمعقدة في مصادر التاريخ الاسلامي لما صاحبها من ملابسات وظروف غامضة القت بظلالها على ما بيّنه المؤرخيون على مر التاريخ حول هذا الامر ، فقد جاءت طروحاتهم مختلفة حول كيفية موت الامام (عليه السلام) فبعضهم قال ان الامام مات بصورة طبيعية ، وبعضهم الاخر اكد ان الامام (عليه السلام) مات مسموماً، ولأجل تسليط الضوء على حقيقة ما حصل يمكن معرفة ذلك من خلال الروايات التاريخية .
تشير المصادر التاريخية بأن الامام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) مات مسموماً، وكان ذلك بتدبير من الفضل بن سهل، فيما ذكر جمع من الباحثين ان الامام (عليه السلام) دس له السم بتدبير وتخطيط من لدن المأمون العباسي[1] . بينما تشير الرواية الثانية، ان الامام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) مات بصورة مفاجئة، انه كان يحب العنب وانه اكثر منه فمات [2].
وعند الوقوف والتحقق من هاتين الروايتين ترى ان الرواية الثانية لا تستحق الوقوف عندها وتحليلها، لأنها تصور حفيد النبي الاكرم الامام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) وكأنه يقدم على الانتحار من كثرة الاكل، وقد تناسى هؤلاء ان الامام كان زهداً وتقياً وعلماً، وان عقله وحكمته التي تقضي وتحتم عليه ان لا يأكل بشراهة وكأنه لم يرَ العنب في حياته ، ولعل الرسالة الذهبية في الطب التي كتبها (عليه السلام) الى المأمون تؤكد هذا الحقيقة ، فهي تنصح ضرورة الاعتناء بصحة الجسم وعدم الاكثار من تناول الاطعمة لان فيها من الضرر ما يفوق الفائدة.
اما الرواية الأولى والتي اتفق الجميع فيها على ان حفيد النبي الاكرم محمد (صلوات الله عليهم) مات مسموماً، حيث ان المأمون كان يرى في بقاء الامام خطراً محققاً عليه ليس هذا حسب بل وعلى كل بني ابيه من بعده.
وعلى الرغم من وجود الدلائل والبراهين التي تثبت ذلك ، فأن احمد محمود صبحي يرى ان مسمومية حفيد النبي الاكرم محمد (صلوات الله عليهم) هي من مختلفات الشيعة بقوله: "الذين لم يجدوا تناقضاً بين الحضوة التي كان ينالها من المأمون، ثم مبايعته له بولاية العهد... ، وبين ان يدس له المأمون السم في العنب، ثم يصلي عليه ويدفنه بجوار قبر ابيه الرشيد" [3].
مما لا شك فيه ان من ذكر هذا الرأي يحاول تبرئة المأمون العباسي من سم حفيد النبي الاكرم الامام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) حيث انه نسى المقولة الشهيرة "بأن الملك عقيم" وان سم حفيد النبي الاكرم (صلى اله عليه واله) ليس من مختلفات الشيعة او غيرهم بل هي حقيقة تاريخية سبقتها مثيلاتها من قبل المأمون فان التبريرات التي قدم لها صاحب هذا الرأي لم تكن تمنع المأمون من المضي قدماً من التدبير للتخلص من حفيد النبي الامام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) ، خاصة بعدما خلعت الخلافة عنه وثم تنصيب ابراهيم بن المهدي خليفة بدلاً عنه بسبب توليته الامام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) لمنصب ولاية العهد.
وتشير المصادر التاريخية ان الامام علي بن موسى الرضا اخبر خادمه هرثمة قبل موته هذا يعد دليلاً قاطعاً على ذلك ، فقد جاء عن هرثمة قوله: "دعاني سيدي الرضا (عليه السلام) فلما حضرت عنده قال لي هذا آوان رحيلي الى الله تعالى ولحوقي بجدي وابائي (صلوات الله عليهم) وقد بلغ الكتاب اجله وان هذا الطاغي قد عزم على سمي في عنب ورمان مفروك اما العنب فانه يغمس السلك في السم ويجذب الخيط في العنب واما الرمان فانه يضع السم في كف بعض غلمانه فيفرك الرمان بيده وسيدعوني اليه ويسألني اكله فاذا اكلته نفذ القضاء وجرى المحتوم ، فاذا مت سيقول اني اتولى غسله بيدي فقل له سراً لا تعرض لذلك فأن فعلت عاجلك من العذاب ما اخر عنك واذا انتهى ، سيشرف من مكان عالٍ على موضع الغسل وينظر ، وسترى ذلك فسطاطاً مضروباً في الدار فاحملني من فراشي وضعني على المغتسل داخل الفسطاط وقف خارجه الى ان يرتفع فتراني مدرجاً في اكفاني وسيقول لك المأمون: ياهرثمة اليس زعتم ان الامام لا يغسله الا امام مثله فمن يغسل ابا الحسن علي بن موسى وابنه محمد بالمدينة ونحن بطوس؟ فأجيبه بأن الامام وان وجب ان لا يغسله الا امام لكنه اذا تعدى متعدًّ وغسل الامام لم تبطل امامة السابق واللاحق ولو ترك ابو الحسن علي بالمدينة لغسله ابنه محمد ظاهراً مكشوفاً ولا يغسله الان الا ولده محمد من حيث يخفى ... واضاف الامام "عليه السلام" وسيجعل قبر ابيه هارون قبلة لقبري وهذا لا يكون ابداً فان المعاول لا تؤثر في ذلك اصلاً ولا مثل قلامة ظفر فإن اجتهدوا في ذلك فقل له اني امرت ان اضرب معولاً واحداً في قبلة قبر ابيك هارون الرشيد فانه سينفذ الى قبر محفور وضريح مشقوق ولا تنزلني حتى يمتلئ الضريح ماء ابيض ويصير الماء مع وجه الارض ثم تضطرب فيه حوت بطوله فاذا غاب الحوت وغار الماء فانزلني في القبر ولا يضع احد في القبر تراباً فان القبر ينطبق بنفسه" [4] . وفي اليوم التالي بعث المأمون خلف الامام علي بن موسى الرضا (عليه السلام)، فلما حضر عنده قام فعانقه وقبل ما بين عينه واجلسه الى جانبه واقبل عليه بحادثة وامر بعض غلمانه ان يأتيه بعنب ورمان...
وتبين الروايات التاريخية ، ناول المأمون الامام (عليه السلام) عنقوداً من العنب وقال له:" يا ابن رسول الله ما رأيت عنباً احسن من هذا" ، فرد عليه الامام (عليه السلام): "ربما كان عنباً حسناً منه في الجنة"، وطلب من الامام (عليه السلام) ان يتناول منه شيئاً فامتنع (عليه السلام) منه ، فصاح المأمون:" لعلك تتهمنا بشيء؟ "، وتناول الامام (عليه السلام) ثلاث حبات ، ثم رمى العنقود وقام فقال له المأمون:" الى اين؟" ، فنظر الامام (عليه السلام) وقال له بنبرات خافتة: "الى حيث وجهتني"[5] .
وتشير الروايات التاريخية، لما خرج حفيد النبي الاكرم محمد من عند المأمون مغطى الرأس ونام على فراشه يتقلب من حرارة السم. وبينما الامام (عليه السلام) على هذا الحال بعث اليه المأمون يطلب منه وصيته ونصيحته له فقال الامام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) لرسوله: "وقل له ان لا تعطي احداً ما تندم عليه" [6] .
وتؤكد الروايات ان حفيد النبي الاكرم الامام علي بن موسى الرضا بقي عليلاً يعاني الم السم، وفي اخر ايامه كان يغمى عليه ، ولما ثقل عليه حاله امتنع اهل بيته واصحابه عن تناول الطعام والشراب.
وفي ليلة السابع عشر من شهر صفر لسنة 203 للهجري، فاضت روحه الزكية الى بارئها، واخفى الخليفة المأمون خبر استشهاد حفيد النبي الاكرم (عليه السلام) يوماً، خوفاً من قيام الناس بالثورة ضده، الا ان ذيوع الخبر باستشهاد الامام بالسم على يديه ... كان شائعاً ومعروفاً بين الناس، فقد اوعز الى رجال امنه وقوات جيشه بضرورة الاستعداد لكل حادث يمكن ان يحدث[7] .
وتبين المصادر قد تم تشيع حفيد النبوة الامام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) تشيعاً لم ترى خراسان مثيلاً له، حيث اغلقت الدوائر الرسمية والمحلات التجارية وهرع الناس لتشيع الجثمان المقدس ، ورفعت الاعلام السود وسالت الدموع وتعالى الصراخ من كل جانب .
ودفن حفيد النبي الاكرم الامام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) بقرية يقال لها سناباد، وامر المأمون ان يحفر للإمام الرضا قبر خلف قبر ابيه وكلما ضربوا بالمعول لم تؤثر شيئاً فلما اعيّوا عن ذلك ، قال هرثمة للمأمون:" امرني الرضا ان اضرب معولاً واحد في قبلة هارون فينفذ الى قبر محفور"، فقال المأمون:" سبحان الله ما اعجب هذا الكلام ولاعجب من امر ابي الحسن فافعل ياهرثمة كما امرك سيدك" .
فضرب معولاً واحداً في الموضع الذي امره به (عليه السلام) فانكشفت الارض عن القبر المعد لخليفة الله في ارضه ، ونبع ماء ابيض حتى امتلأ القبر منه ثم ظهرت الحوت فيه فلما غابت الحوت وغار الماء ، وضع النعش على جانب القبر فغطي بثوب ابيض لم يبسطه احد ثم انزل الى القبر دون ان يروا احداً. فالسلام عليك من امام عصيب وامام نجيب وبعيد قريب ومسموم غريب.
جعفر رمضان
[1]علي بن الحسين بن محمد ابو الفرج الاصفهاني ، مقاتل الطالبيين، (القاهـرة: مقـر احيـاء الكتـب العربيـة ،1949م)، ص572؛ علي بن محمد بن احمد ابن الصباغ ، الفصول المهمة في معرفـة احـوال الائمـة ، (النجـف: المكتبة الحيدرية، 138هـ) ، ص205.
[2]، ابو الفرج جمال الدين، تاريخ مختصر الدول، (بيروت: المطبعة الكاثوليكية ، 1958م)، ص134؛ ابو العباس شمس الدين احمد بن محمد بن ابي بكر "ابن خلكان" ، وفيات الاعيان وانباء الزمان، (القاهرة :مطبعة السـعادة ، 1985)، ج2، ص432.
[3]احمد محمود صبحي ، نظرية الامامة لدى الشيعة الاثني عشر، (مصر: دار المعارف للنشر، 1969م) ، ص387.
[4]ابي جعفر محمد بن علي القمي الصدوق ، عيون اخبار الرضا،(النجف: المطبعـة الحيدريـة، 1970م)، ج2، ص247؛ رشيد الدين ابو عبدالله المازندراني ابن شهر اشوب ، مناقب آل ابي طالب، (قم ، المطبعة العلمية ، 1997 )، ج4، ص374-375؛ عبدالعظيم عطر الله الربيعي ، وفاة الرضا،(قـم: مطبعـة الشـريعت ،2000م) ، ص76-83.
[5]ابي جعفر محمد بن علي القمي الصدوق ، المصدر السابق ، ج2، ص243؛ ابو علي الفضل بن الحسن الطبرسي ، اعلام الورى،(طهران: المكتبة الاسـلامية، 1338هـ)، ص326-327.
[6]محمد بن شاكر بن عبدالرحمن الكتبي، فوات الوفيات، تحقيق: نبيلة عبدالمنعم ، ، (بغداد: مطبعة اسعد ،1991م) ، ج3،ص227.
[7]باقر شريف القرشي ، حياة الامام علي بن موسى دراسة وتحليل، (قم: منشورات سعيد بن جبير ،1380ه) ، ج2، ص375 .
اترك تعليق