استراتيجية الحق المغتصب... في فلسفة زيارة الاربعين

       تعتبر ثورة الطف من حيث منطلقاتها واساليبها ومن حيث اهدافها نقطة انبثاق مشرقة في حياة هذه الامة بما تمتلك من ابعاد متنوعة تلتقي جميعاً في خندق واخدود واحد تشد المتأسين بها وتمنحهم روحاً وفكراً ثورياً وتدفعهم نحو حياة  أكثر مواجهة من اجل استعادة المفقود والمغيب واستعادة الحرية والكرامة التي غيبتها آلات القهر وافكار الاستبداد والتي عملت على طول تسلطها على تنحية الاسلام عن واقع الأمة وجعله حبيس طقس ضيق من الطقوس .

فكانت تلك الثورة المباركة ومن خلال العطاء الذي بذله سيد الشهداء (عليه السلام) الجواب الشافي لكل التخرصات التي استهدفت طمس معالم الدين الاسلامي وجعلت من المستحيل لماكنات القهر وافكار الاستبداد ان تسيد وتعلو، بل عملت على تزييف جميع اشكال والوان التضليل والاستبداد وكشف الانحراف السياسي والفكري لماكنات الجور الحاكمة وتصحيح انحرافها وتقويم ارتدادها من خلال النموذج العلمي "ثورة الطف" التي وضعت شرعية تغيير السلطة الحاكمة موضع التطبيق وتحريك واقع الأمة والدافع بها نحو مسار اكثر رفاه وارتماء وارتقاء للانعتاق والحرية.

فكان ذلك الموقف الاسلامي المنبه المنذر لكل الطواغيت والعتاة الذين حاولوا ان يبتزوا الأمة ويزيفوا وعيها ويتسلطوا عليها بقوة الآلة، لهذا اتفقت كل البرامج السياسية والفكرية للأنظمة الحاكمة رغم تباين اساليبها على الوضع والمنهج الواحد وهو مواجهة ذلك الموقف والعمل على تغييبه عن واقع الأمة كي لا يشكل حافزاً تثويري ومواجهة وبالتالي اسقاط الاقنعة المزيفة التي تتآمر على مقدرات الأمة باسم الاسلام والشرعية .

وعلى ذلك كان لابد ان تقرأ زيارة الاربعين من منطلق ثورة الطف على اساس بعدها التقدمي الشمولي الأوسع دلالة من المكان الذي دارت رحى الحرب فيه لتعطي المديات الابعد من مدى اليوم الذي حدثت فيه ولندرك الواقع المميز الذي افرزته في دلالة الصراع السياسي الفكري بين القوة الغاصبة والحق المغتصب من خلال  ثلاثة عوامل رئيسية وهي:

اولا: حرص القيادة  المعصومة على توفير المناخ الملائم لإدامة حالة الصراع مع الطواغيت وانجاحه بأفضل وسيلة ممكنة وهو من اهم الابعاد الاستراتيجية في المنظومة السياسية لزيارة الاربعين، باعتبار ان تطويق الصراع واجهاض ادواته والعمل على تفكيك اجندته يتطلب مناخاً حياً لتفعيل حالة المواجه مع الخصم خصوصاً اذا كان الخصم بحجم السلطة المستبدة آنذاك.

ثانيا: عملت القيادة المعصومة على ترشيد القواعد الشعبية وترتيبها على الاساليب الفكرية للارتقاء بها الى وعي ثورة الطف والتعرف على مفرداتها وابعادها وملاحقة حاضناتها عبر منظومة من المفاهيم تهدف الى ربط القاعدة بالفكرة والمنظور والمشروع الاسلامي المطلوب.

لهذا حرصت القيادة المعصومة على توفير حملة فكرية شاملة وبمختلف الاساليب المتاحة وتوظيف الكثير من اتباعهم الواعين لها ، فكان لكل امام منهجه وسلوكه ومساره المميز بغية تحقيق ذلك الهدف عبر صناعة مستوى الوعي المميز من خلال تدجينها وتحصينها فكريا وعقائديا. لمن قرا عن الامام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) مثلا كيف عمل على توفير كامل المستلزمات على قوة الارادة وتربية الوعي الذاتي للإفراد لتحصين ثورة الطف بقوله للمفضل بن عمر :" كم بينك وبين قبر الإمام الحسين(عليه السلام)  قال :بأبي أنت وأمي يوم وبعض يوم أخر قال :فتزوره  قال: نعم , فقال: إلا أبشرك إلا أفرحك ببعض ثوابه, قلت: بلى جعلت فداك , فقال لي :إن الرجل منكم ليأخذ في جهازه ويتهيأ لزيارته فتباشر به أهل السماء, فإذا خرج من باب منزله راكباً أو ماشياً, وكل الله به أربعة ألاف ملك من الملائكة يصلون عليه حتى يوافي قبر الإمام الحسين (عليه السلام)"[1].

ثالثا: تحديث حالة التفاعل الفكري والارادي معاً وذلك من خلال برامج تهدف لإصلاح المسار النفسي والارادي، وتغير الاخاديد والانماط الفكرية الجامدة التي دجنتها السلطة الحاكمة في نفوس القواعد الشعبية لتمشيه مشروعها السياسي والفكري، والدفع به على حساب تحطيم المسار النفسي والارادي وبالتالي تحطيم المواجهة وتضييع الحق والتكليف الشرعي للقواعد الشعبية . 

فالقيادة المعصومة ادركت خطورة هذا المنحى الذي يلف واقع الامة لذلك انطلقت بقيادة حفيد النبي الاكرم الامام الحسين (علي السلام) باعتباره المسؤول الاول والراعي الأكثر تكليفا في ادارة الأمة ومراقبتها وتقويم ارتدادها وتصحيح انحرافها لتشخيص الوصفة التي تتكفل بإعادة حيويتها ودورها المفقود وبناء المستوى النفسي لقواعدها الجماهيرية من خلال النموذج العلمي "ثورة الطف"، التي اسست قاعدة تهدف لخلق جواً ومناخاً حاراً تتفاعل في اجواءه المفهوم والمنظور والفكرة ولتعطي المدى الأبعد في تفعيل حالة الصراع من خلال وضع استراتيجية الثورة في مكانها الصحيح وعلى يد قادتها واتباعها الواعين في زمن ما بعد الثورة. 

هو الذي دفعه (عليه السلام) إلى مواجهة السلطة الغاصبة ومؤيدها ممن غاب لديهم الوعي الاسلامي الذي احدث شرخاً كبيرا في المنظومة الاسلامية لأنه يتجاوز الخط العقلي والمفهوم المنطقي ويصنع وعياً موهوماً يقود لنرجسية ثورتة تنتج الفوضى وتغييب الوعي وسيطرة اللامنطق واللامركز، وسلب لتكون أداة تطيع توجهها كما تشاء "ما اريكم الا ما أرى"، وبالتالي تقليب الكثير من المفاهيم الراسخة في الوعي الى فوضى تنشر الانفعال وتؤسس سلوكيات الانشقاق والانحلال، في حين تبنت القيادة الطف رعاية حقوق الامة والدفاع عنها وتقوية ارادتها وتنمية احساسها وتربيتها على الاسلوب الاسلامي الصحيح وبيان دورها وتكليفها الرسالي وتعريفها على انها صاحبة الحق ازاء رسالتها الذي شدها ودفعها للانتهاض بوظيفتها الرسالية لتعمل على تطويق الانحراف ومواجهته، لهذا ان الواجب الديني أوجب على حفيد النبي الاكرم الامام الحسين (علي السلام) الخروج على السلطة الغاصبة دفاعاً عن الإسلام، على هذا الاساس تحدث الشيخ محمد عبده عن الحكومة العادلة والجائرة في الإسلام معرجا على خروج حفيد النبي الاكرم الامام الحسين (عليه السلام) على السلطة الجائرة ووصفه بأنه كان واجباً شرعياً عليه " إذا وجد في الدنيا حكومة عادلة تقيم الشرع وحكومة جائرة تعطله وجب على كل مسلم نصر الأولى وخذل الثانية...ومن هذا الباب خروج  الامام الحسين على إمام الجور والبغي الذي ولي أمر المسلمين بالقوة له من الكرامة والتواجب" [2] .

وتؤكد الروايات التاريخية هذا الحرص، حرص القيادة على ادامة الأجواء الثورية وبشكل مكثف من خلال ربط القواعد الجماهيرية باستراتيجية الثورة واساليبها وكيفية استمرارها حتى استطاعت تلك القواعد ومن خلال تفاعلها وانسجامها مع الثورة ان تضيق الخناق على طبيعة الاستبداد وتفتح منافذ اكثر تحرراً لحركة المنظومة الاسلامية بأسلوب تسخين الأجواء الثورية التي افرزتها الثورة، ومن ثم توظيفها واستثمارها في صناعة جيل ثائر باستمرار.

والامر الذي سجل نجاحاً في مستوى الصراع لصالح الاسلام واحدث تفاعلاً رائعاً للاصطفاف مع كل الشعارات الهادفة الى اسقاط مركزية السلطة كالاصطفاف الشعبي مع شعارات "ثورة الشهيد زيد بن علي" التي اعلنها على المعسكر الاموي الامر الذي اعطى الحكام درساً في قوة التأثير الذي يحدثه المناخ الحسيني في نفوس وارادات القواعد الجماهيرية .  

ولذلك عملت القيادة المعصومة على توفير المناخ الملائم لزيارة سبط النبي الاكرم، لأحياء ذكراه واثارة انتباه الافراد لما قدمه الامام (عليه السلام) فضلا عن تجديد العهد معه في نبذ العنف والذل وكسر جمود الوعي، والعمل على رفع القيم والمبادئ الانسانية[3] .

وحرصت القيادة المعصومة على توفير كامل المستلزمات لإقامة الشعائر الحسينية في يوم اربعين حفيد النبي الاعظم (صلوات الله عليهم) المصادف في العشرين من صفر كونها تشكل احياء لثورة الطف الاصلاحية وتعاليمها الاخلاقية ومبادئها النبوية فان ثورة سبط النبي الاكرم هي التي دفعت الأمة لمسار بناء الثقة في نفوس قواعدها وتقوية ارادتهم وتنمية احاسيسهم وبالتالي تحريكهم نحو الاصطفاف والالتفاف القيادي . وتأتي خصوصيتها ايضا في استذكار الفاجعة التي جرت على حفيد النبي واهل بيته في يوم العاشر من محرم الحرام، وما صاحبها من الماسي والآلام. 

ومن هنا فان زيارة الامام الحسين في العشرين من صفر، تعد اكبر مشروع اصلاحي لواقع الأمة، اصلاح يهدف لبناء الأمة وعياً وفكراً وارادةً لتستعيد من خلال ذلك موقعها الطبيعي في توظيف دورها وتشخيص مكامن الخلل في مسارها السياسي والفكري.   

ولذا جاءت توجيهات مرجعيتنا الرشيدة ممثلة بسماحة المرجع الاعلى اية الله السيد علي السيستاني (دام ظله الوارف) التي تدعو الى المحبة والتسامح حيث اكد سماحته:" ان من مقتضيات هذه الزيارة... استذكار تضحيات الامام الحسين (عليه السلام) في سبيل الله تعالى هو الاهتمام بمراعاة تعاليم الدين الحنيف من الصلاة والحجاب والاصلاح والعفو والحلم والادب وحرمات الطريق وسائر المعاني الفاضلة لتكون هذه الزيارة بفضل الله تعالى خطوة في سبيل تربية النفس على هذه المعاني تستمر آثارها حتى الزيارات اللاحقة وما بعدها فيكون الحضور فيها بمثابة الحضور في مجالس التعليم والتربية على الامام (عليه السلام) "[4].

وعليه نستنتج من ذلك، عملت القيادة المعصومة على توفير المناخ الملائم لزيارة سيد الشهداء الامام الحسين (عليه السلام) التي تمثل الطريق الناجح لبناء الاستقرار الاخلاقي والنفسي للشخصية الانسانية وبيان دورها وتكليفها الرسالي وتعريفها على انها صاحبة الحق ازاء رسالتها ، كما انها تشكل حصنا منيعاً للحفاظ على الهوية الاسلامية امام عواصف العولمة ورياحها العاتية، كما فعل سبط النبي الاكرم الامام الحسين بن علي(عليه السلام) حين وقف امام السلطة الغاصبة وقدم روحه قرباناً على مذبح الحرية في سبيل الله.  

جعفر رمضان

 

[1]  لأبي القاسم جعفر بن محمّد بن قولويه القمي البغدادي، كامل الزيارات، تحقيق: جواد القيومي، (قم : مؤسسة النشر الاسلامي، 1417ه)،ص375.

 [2] محمد رشيد رضا،  تفسير المنار، ( بيروت، دار الفكر، د.ت)، ج1، ص367.

[3] وليد  الحلي ، معالم المنهج الاصلاحي للإمام الحسين (عليه السلام)،ص147.

[4] المصدر نفسه، ص 150

المرفقات