تشير المصادر التاريخية ان عمّار بن ياسر لما رأى الرؤوس تتساقط، والأرض قد خَضَبَت بالدماء، وسارّ خلف ما اكتنز قلبه من الاسرار قائلاً: "صدق رسول الله هؤلاء القاسطون، إنه اليوم الذي وعدني فيه رسول الله أني قد أربيت على التسعين، فماذا أنتظر؟!"
نصف قرن من العطاء امضاها في خدمة هذا الدين.. كان عمار على موعد مع ربه، صوّرت له في ذلك اليوم صفحات من تأريخه، فعرضت عليه صورة أبويه وهما يعذَّبان ولَم يَرْفَقْ بِهِما، وعاملوَهُ بِشدَّةٍ وَعُنْفٍ على يد جبابرة قريش، ففَارَقَتِ روح أبويه الحياة ونَجا ومن معه من الانصار من التعذيب، واِسْترْجَع ما عاناه فى شيخوخته من التنكيل والتعذيب، وكل ذلك في سبيل مبدئه وعقيدته.
لقد ألْقَت هذه الذكريات في نفسه شوقاً عارماً إلى ملاقاة الله الخالق، فانفجر في البكاء وأخذ يدعو الله (عزوجل):" اللهم إنك تعلم أني لو أعلم أن رضاك أن أرمي بنفسي من هذا الجبل فأتردّى وأسقط لفعلت، وإني لا أعلم اليوم عملاً هو أرضى لك من جهاد هؤلاء الفاسقين، ولو أعلم من الأعمال ما هو أرضى لك منه لفعلته."
ثم توجَّه إلى أمير المؤمنين علي بن ابي طالب(عليه السلام)، ودموعه تجري على خديه، فلما رآه أمير المؤمنين قام إليه وعانقه، فالتفت إلى الامير قائلا:" يا أخا رسول الله، أتأذن لي في القتال؟" ، فقال له (عليه السلام) بصوت راعش النبرات: "مهلاً يرحمك الله!".. فانصرف ابن ياسر، ولم ينتظر إلا قليلاً، فرجع إلى الإمام علي بن ابي طالب قائلاً: "أتأذن لي فى القتال؟" فإني أراه اليوم الذي وصفه النبي الاكرم محمد (صلى الله عليه وآله)، وقد اشتقت إلى لقاء ربي، وإلى إخواني الذين سبقوني؛ والله يا أمير المؤمنين، ما تبعتك إلا ببصيرة، فإني سمعت رسول الله يقول يوم حنين:" يا عمار، ستكون بعدي فتنة، فإذا كان كذلك، فاتبع عليّاً وحزبه، فإنه مع الحقّ والحق معه، وسيقاتل بعدي الناكثين والقاسطين"؛ فجزاك الله يا أمير المؤمنين عن الإسلام أفضل الجزاء، فلقد أدّيت وبلغت ونصحت، ولم يجد الإمام بداً من إجابته، فقام إليه وعانقه، وقال له (عليه السلام) : "يا أبا اليقظان، جزاك الله عني وعن نبيك خيراً، فنعم الأخ كنت ونعم الصاحب".
تقدّم عمار إلى ميدان القتال، وهو فَرِح ومسرور بملاقاة ربه، وقد استردّ قوّته ونشاطه وارتفع صوته عالياً وهو يقول: "الجنة تحت ظلال العوالي، اليوم ألقى الأحبّة محمداً وحزب"[1]. وبعد كفاح رهيب، سقط عمار إلى الأرض صريعاً، وقد قتلته الفئة الباغية الّتي طبع على قلوبها بالزّيغ ونسيت ذكر الله فسبحت في ظلام قاتم.
فلما علم امير المؤمنين (عليه السلام) بسقوط البطل صريعاً ، ألم به الألم إلمامًا شاملاً وطغت عليه الهموم والأحزان، ومشى امير المؤمنين لمصرعه حزيناً باكياً، ووقف عليه فلمّا رأه صريعاً مخضباً بدمه، جعل يرثيه بكلمات تنمّ عن قلب موجع قائلاً: " إنا لله وإنا إليه راجعون إن إمريء لم يدخل عليه مصيبة من قتل عمار فما هو من الإسلام بشيء" ثم قال (عليه السلام): "رحم الله عماراً يوم يُسأل فوالله فقد رأيت عمار بن ياسر وما يذكر من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله ثلاثة إلا كان رابعاً ولا أربعة إلا كان خامساً. إنَّ عماراً قد وجبت عليه الجنة من غير موطن ولا موطنين ولا ثلاث، فهنيئاً له الجنة فقد قتل مع الحق والحق معه ولقد كان الحق يدور معه حيث ما دار فقاتل عمار وسالب عمار وشاتم عمار في النار"[2]. ثم تقدم امير المؤمنين (عليه السلام) فصلى عليه ثمَّ دفنه بيده المباركة.
وتبين الروايات التاريخية ان الامام الحسن بن علي وقف على مصرع عمار بن ياسر الذي ساهم بشكل كبير في بناء الدولة الاسلامية ، فأخذ يبين منزلته في الميزان النبوي ، فقال (عليه السلام): "إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال لأصحابه: ابنوا لي عريشاً كعريش موسى، وجعل يتناول اللبن من قومه وهو يقول: اللّهم لا خير إلا خير الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة، وجعل يتناول اللبن من عمار وهو يقول: ويحك يا بن سمية، تقتلك الفئة الباغية! وكذلك قال (عليه السلام): قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) للإمام علي(عليه السلام(:"الجنّة تشتاق إليك، وإلى عمّار، وسلمان، وأبي ذر، والمقداد". و قال (عليه السلام) ايضاً :" دم عمّار ولحمه حرام على النار أن تأكله أو تمسّه"[3]
وشَدَّدَ على الامام علي بن ابي طالب(عليه السلام) مقتل عمار، فهتف بربيعة وهمدان فاستجابوا له، فقال لهم: أنتم درعي ورمحي، فأجابه اثنا عشر ألفاً منهم، فحمل بهم وهو هائج غضبان، فلم يبق صفّ لأهل الشّام إلا انتقض، وأبادوا كلّ فصيلة انتهوا إليها، حتى قربوا من فسطاط معاوية، وقد بان الضعف في جيش معاوية، وتحطّمت جميع كتائبه وتفلّلت جميع قواه، حتى همّ بالفرار والانهزام[4].
جعفر رمضان
[1]أبي القاسم علي بن الحسن بن هبة الله" ابن عساكر"، تهذيب تاريخ مدينة دمشق الكبرى، تحقيق: عبد القادر بدران، (بيروت: دار المسيرة، 1979م)، ص465-469.
[2] ابي محمد احمد بن اعثم الكوفي ، كتاب الفتوح ،( حيدر اباد: دائرة المعارف الهندسية، 1971) ، ج ۳ ، ص۱6۰.
[3] الصدوق، عيون أخبار الرضا، تحقيق: حسين الاعلمي، (بيروت: مؤسسه الاعلمي ،1984)، ج1، ص 132.
[4] للمزيد من التفاصيل ينظر :باقر شريف القرشي، حياة الامام الحسن دراسة وتحليل،(بيروت: دار البلاغة) ،ج1، ص5 -
اترك تعليق