رؤوس تعتلي عنان السماء..

لوحة اخرى من إبداع الفنان التشكيلي المبدع عبد الحميد قديريان.. وهي من مكملات سلسلة اعمال معركة الطف الخالدة، والتي تعد أحد المفاصل المهمة في مجموعته الفنية العقائدية الحسينية بأغلب احداثها المفجعة التي اكتسبت قبولا واسعاً برموزها وعناصرها المعبرة ذات المنحى الفكري الاسترجاعي على مستوى المخيلة والذاكرة.. وهي محملة بشحنة عاطفية تعبيرية ذاتية استدعى الفنان من خلالها نشاطه التخيلي بكثافة ليمنح العمل مسحة خاصة في رؤيته الفنية لفكرة العمل واخراجه بهذه الصورة.

لو امعنا النظر في عناصر اللوحة وعبر انتشار المساحة اللونية المدركة للمتلقي، لوجدنا ان قديريان قد حاول نقل المتأمل للوحة إلى مكان الحدث والمميز بمسير قافلة السبايا والرؤوس الشريفة مرفوعة فوق الرماح، وكان ذلك عبر إنشائه المفتوح الذي يمكن من خلالها الولوج لفك شفرات الرموز الروحية التي انتقاها الفنان للتعبير عن الحدث، فهو يقيم علاقة ابتدائية بين ذاته والموضوع أولاً ومن ثم يهيئ المتلقي للتفاعل الوجداني عبر اتخاذه من الاجواء مادة أساسية للتعبير في محاولة للوصول إلى حقيقة المشهد، فأعطى بذلك إحساسا بالحزن والالم من خلال الالوان و وأرضية المكان فارضاً على المشاهد ان ينسحب ببصره نحو الأفق ومنه إلى هالة النور المميزة في اعلى السماء والمتمثلة بالسيدة الزهراء سلام الله عليها التي تتوجه إليها الأبصار والقلوب شاكية  لما حل بذريتها الاطهار، محققاً بذلك الغاية الأساسية في الربط ما بين الفن وعقيدته الدينية الشيعية، فالأثر الفني الذي يتركه الرسام المسلم لابد ان يعبر عن جوهر حقيقة قائمة بعيداً عن النقل او محاكاة الصورة الواقعية .

نفذ عبد الحميد اللوحة بتقنية  الزيت على القماش بأسلوب واقعي مع شيء من التحوير بغية تحقيق رؤيته الشخصية والهدف التعبيري المعتمد لديه، حيث أنشأ الفنان بُعداً منظورياً واضحاً لعناصر اللوحة رغم عملية التحوير وتزاحم الشخوص الواضح في اللوحة والذي اعتمده الفنان لخدمة هدفه التعبيري، فالعملية البنائية في هذا التكوين الفني تنطلق من الواقع باتجاه الكشف عن المعنى ولكن من وجهة نظر الرسام الذاتية.. فلو تأملنا اللوحة بروية للاحظنا وجود كتل لونية منسجمة داخل اللوحة مثلت بمجملها مراكز ثقل سيادية في اللوحة، تمثل بعضها بمجموعة من الهالات المنيرة الصفراء اللون والتي صورها الفنان وهي تحاول الارتفاع باتجاه مركز السيادة الاكبر المتمثل بهالة الضوء المرتفعة في فضاء اللوحة والتي تمثل شخص السيدة الزهراء سلام الله عليها، أمّا الكتل الأخرى فهي عبارة عن مجموعة من الشخصيات الانسانية والحيوانية المعدومة الملامح نوعا ما، اضافة الى بعض الظلال المهيمنة لمحاربين يحملون الرايات والرماح الحاملة لرؤوس شهداء الطف، اضافة عن بعض الكتل اللونية الأخرى التي تمتد في الأفق وعلى ارضية اللوحة والتي تمثل بقايا معركة ضروس وطريق شاق الى الشام.

حاول الفنان في هذا التكوين اللوني اظهار الصراع الأزلي القائم بين الخير والشر، فهناك قاتل ومقتول وظالم ومظلوم بدليل الرؤوس الشريفة المرفوعة على رؤوس القنا مصوراً اياها بالوان مضيئة لتكون أيقونة ثابتة فنياً للمقدس وانتصار الحق على الباطل ولتصبح شخوص معركة الطف من آل بيت النبوة واصحابهم رمزاً للحق وانتصار الدم على السيف..  ولتنتقل هذه الفاجعة الاليمة من جيل الى آخر كموروث حي وبرؤية متجددة ومختلفة، فالتعبيرية التي ارادها الفنان من هذه الرسمة مؤثرة جداً وجلية للمشاهد، فهناك تحديد واضح للمكان والزمان والأشخاص داخل اللوحة مما يكشف عن مرجعياتها التي تأثر بها الرسام، فإنها بلا أدنى شك تنتمي للتراث الشيعي لكن رؤية عبد الحميد قديريان في هذا العمل الفني واقرانه في معرض سماء كربلاء هي من تحدد الشكل التعبيري المؤثر في المشاهد.. وهذا ما نلمسه حين تعرضنا لهذه اللوحة، ولا شك في ان الصورة الشكلية التي طرحها رسام اللوحة والمعبرة عن رموز الوجدان الانساني المتمثل بآل بيت النبوة الاطهار عليهم السلام والمظلومية التي تعرضوا لها، هي رموز انفعالية وحيوية وافقت بين الموضوعي والذاتي، فأنتجت بمجملها مساحة قدسية فرضتها عقيدة الفنان والمشاهد المتأثر بموضوعة اللوحة ليكون التكوين العام للوحة يمثل صورة مستقلة مكتفية بذاتها من الممكن إدراكها إدراكا مباشرا بفعل ارتباطها بواقعة ألطف واحداثها، والتي شكلت بمجملها جماليات مؤثرة في النفس يتلقاها المشاهد بوضوح فور تعرضه للوحة فتنال عنده القبول والرضا  من خلال القيم الروحية والجمالية  التي أراد الفنان إظهارها عبر الاشكال والالوان بصورة أكثر واقعية وتعبيرية من خلال مخزونه العقائدي الروحي على مستوى المضامين .

السلام على الدماء السائلات.. السلام على الاعضاء المقطعات.. السلام على الرؤوس المشالات ورحمة الله وبركاته... 

سامر قحطان القيسي

الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة

المرفقات