السيد علي الخير .. الشهيد الصابر

أكثر من عشرين رجلاً من أحفاد الإمام الحسن بن أمير المؤمنين (ع) تسوقهم يد الأقدار إلى مناياهم وهم مقيدون بالأغلال من أيديهم وأرجلهم وأعناقهم.

إنها سخرية الحياة التي تلد المهازل في كل حين فترفع الوضيع، وتضع الشريف وهذا ديدنها

ألم يقل عنها الصادق الأمين (ص): لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء ؟

ألم يقل الإمام أمير المؤمنين (ع): إليك عني يا دنيا, غرِّي غيري، إليّ تعرّضت أم إليّ تشوّقت ؟ هيهات هيهات ! فإنّي قد طلقتك ثلاثاً لا رجعة لي فيك, فعمرك قصير، وخطرك كبير, وعيشك حقير ؟

ألم يقل سيد الشهداء الإمام الحسين (ع): إن من هوان الدنيا على الله تعالى أن رأس يحيى بن زكريا أهدي إلى بغي من بغايا بني إسرائيل وإن رأسي سيهدى إلى بغي من بغايا بني أمية ؟

وها هي الدنيا تلعب لعبتها مرة أخرى وما أكثرها من مرات ؟

قافلة الموت

المنصور العباسي الذي وصل إلى السلطة بفضل العلويين وتربع على عرش الخلافة بشعار الدعوة إلى أهل البيت (ع) وكان من المستحيل أن يصل لأدنى منصب بغيرهم وبعد أن بايع محمد بن عبد الله بن الحسن المثنى بن الحسن السبط الملقب بـ (ذي النفس الزكية) مع أخيه السفاح ثلاث مرات بمكة المكرمة والمدينة المنورة والإبواء ينقض بيعته ويغدر بمن بايعهم ويأتي إلى المدينة ليلقي القبض على بني الحسن بهذه الطريقة الوحشية ويقودهم إلى المصير المجهول الذي ينتظرهم !!

أحضرهم المنصور وأسمعهم كلاماً بذيئاً ثم أوقفهم وعامة بني الحسن في الشمس مكشوفي الرؤوس وركب هو في محمل مغطى فناداه عبد الله بن الحسن المثنى بن الإمام الحسن (ع) الملقب بالمحض:

أهكذا فعلنا بكم يوم بدر ؟

يشير إلى صنع النبي (ص) بالعباس حين بات يئن، فقيل له: ما لك يا رسول الله لا تنام، قال: كيف أنام و أنا أسمع أنين عمي العباس في الوثاق ؟

فلم يهز هذا الكلام شعرة من بدن المنصور لأنه قد مات ضميره وانسلخ من آدميته تماماً

وكانت طفلة لعبد الله المحض اسمها فاطمة قد وقفت على الطريق لمّا مرّ محمل المنصور ومعه الأسرى من بني الحسن فالتفت اليها المنصور فقالت تخاطبه:

ارحمْ كبيــــــــراً سِنُّه متهدِّما   ***   في السجنِ بيـن سلاسلٍ وقيودِ

إن جُدتَ بالرحمِ القـريبةِ بيننا   ***   ما جـــــــدّنا مـن جدّكم ببـيعدِ

فلم يلتفت المنصور إليها أيضاً ولم يأبه لتوسلها وطلبها بمراعاة حرمة رسول الله (ص) فيها !

لقد تحوّل إلى وحش خالٍ من كل ما يمت إلى الإنسانية بصلة !!

ويرسم الشاعر ابن أبي زناد السعدي صورة مبكية لذلك المشهد الأليم وهو ينظر إلى أكثر من عشرين علوياً من أبناء فاطمة الزهراء وهم مكبلون بالسلاسل مكشوفي الرأس تحت لهيب الشمس وهم يساقون إلى الموت ويرفعون أيديهم رغم ثقل الحديد لتوديع أصحابهم وأهل بيتهم فيقول:

من لنفــسٍ كثيرةِ الإشفاقِ   ***   ولعيــــــــــنٍ كثيرةِ الإطراقِ

لفراقِ الذينَ راحوا إلى المـــــــــــوتِ عياناً والموتُ مرُّ المذاقِ

ثم ظلوا يسلـــمونَ علينا   ***   بأكفٍ مشـــــــدودةٍ في الوثاقِ

وجاء المنصور ببني الحسن إلى الهاشمية وحبسهم في محبس تحت الأرض فكانوا لا يعرفون ليلاً ولا نهاراً، ومن أجل معرفة أوقات الصلاة فإنهم جزّؤوا القرآن وعند انتهاء كل جزء يصلون وقتاً من الأوقات !

ويصف هذه الحادثة الشاعر أبو فراس الحمداني في قصيدته الميمية المسماة بـ (الشافية) فيقول:

بئـــسَ الجزاءِ جُزيتم فـــي بني حسنٍ   ***   أبـــوهمُ العـــــــلمُ الهــــادي وأمُّـــهمُ

لا بـــــيعة ردعــــتكمْ عــــن دمــائهمُ   ***   ولا يمـــــينٌ، ولا قــــربى، ولا ذِمــمٌ

هلا صفحتمُ عــــن الأسرى بلا سببٍ   ***   للصــافحيـــن بـــــبدرٍ عـن أسيركمُ ؟

بلا سببٍ ... أجل لقد غاض المنصور ميل الناس إلى العلويين وأثار حقده عليهم فضلهم على الناس فارتكب بحقهم هذه الجريمة كما صادر جميع أموالهم وأودعهم في السجون المظلمة ..

وكان من هؤلاء السادة الحسنيين عبد الله المحض, والحسن المثلث، وإبراهيم الغمر أولاد الحسن المثنى ابن الإمام الحسن (ع) وأمهم السيدة فاطمة بنت الإمام الحسين (ع) وعلي الخير بن الحسن المثلث وهو والد بطل فخ الشهيد الحسين بن علي.

علي الخير

ولد أبو الحسين علي بن الحسن المثلّث بن الحسن المثنّى ابن الإمام الحسن المجتبى (عليهم السلام) في المدينة المنورة عام (101 هـ) ونشأ في بيت تحفه التقوى والعبادة فاكتسب منه هذه السمات حتى لقب بـ (علي الخير) وعرف بـ (علي العابد) و(علي الزاهد) و(ذو الثفنات)

جدّه

من أعلام بني هاشم وسادة الطالبيين شهد يوم الطف مع عمه الحسين (ع) وقاتل معه حتى أثخن بالجراح ووقع على الأرض مغشياً عليه، ولما أراد جيش ابن سعد قطع الرؤوس وجدوا فيه رمقاً، فقال أسماء بن خارجة بن عيينة الفزاري ـــ وكان في جيش ابن سعد ــ : دعوه لي فإن وهبه الأمير عبيد الله بن زياد لي وإلا رأى رأيه فيه، فتركوه له, وأخذوه مع الأسرى محمولاً إلى الكوفة ووصل خبره إلى ابن زياد فقال: دعوا لأبي حسان ابن أخته وعالجه أسماء حتى برئ ثم لحق بأهل البيت في المدينة.

وكان السبب في ذلك أن أم الحسن المثنى كانت من بني فزارة وهي خولة بنت منظور الفزارية، توفي الحسن المثنى سنة (97 هـ) مسموما من قبل الوليد بن عبد الملك.

جدّته

هي السيدة الطاهرة فاطمة بنت الإمام الحسين بن علي (عليهم السلام), حفيدة الصديقة الكبرى فاطمة الزهراء (ع) وأشبه الناس بها خلقاً وخلقاً وعبادةً وخصالاً, ودل قول أبيها سيد الشهداء (ع) على كمالها وعظمتها حينما قال: إنها أشبه الناس بأمي فاطمة بنت رسول الله (ص)، أما في الدين فتقوم الليل وتصوم النهار، وفي الجمال تشبه الحور العين.

والده

والده هو الحسن المثلث بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب وكان يكنى بـ أبي علي وقد وصفته المصادر بأنه كان: (أحد عباد آل أبي طالب، متألهاً فاضلاً ورعاً راوياً للحديث روى عن أبيه الحسن بن الحسن، وأمه فاطمة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب وكان من أجلِّ بني الحسن المثنَّى) ولقب بـ (المثلث) تمييزاً بينه وبين أبيه الحسن المثنى.

وكانت نهاية الحسن في سجن المنصور عام (145 هـ) وله من العمر ثمان وستين سنة وله من الأولاد ستة هم: طلحة، والعباس، والحسن، وإبراهيم،  وعبد الله، وعلي العابد.

أمّه وزوجته

أما أُمّ علي الخير فهي السيدة أُم عبد الله فاطمة بنت عامر بن عبد الله بن بشر بن عامر (ملاعب الأسنة) بن مالك بن جعفر بن كلاب, وتزوج بنت عمه السيدة زينب بنت عبد الله بن الحسن المثنّى وكانت سيدة جليلة عابدة كزوجها فكان يقال لهما: الزوج الصالح.

أولاده

أشهرهم الشهيد أبو عبد الله الحسين بطل ثورة فخ ضد السلطة العباسية في زمن الهادي سنة (169 هـ) والتي استشهد فيها ولعلي الخير من الأولاد أيضاً الحسن الملقب بـ (المكفوف)، وعبد الرحمن، وعبد الله، ومحمّد

منزلته وصفاته

دلت الأوصاف التي أطلقت عليه على زهده وعبادته وتقواه وورعه وبلغ بها درجة رفيعة يقول السيد جمال الدين ابن عنبة الحسني في ترجمته:

أبو الحسن على العابد ذو الثفنات، استقطع أبوه عين مروان فكان لا يأكل منها تحرّجاً وكان مجتهداً في العبادة، حبسه الدوانيقي مع أهله فمات في الحبس وهو ساجد فحركوه فإذا هو ميت. (1)

وقيل مات في الحبس مقتولا.

وقال أبو الفرج الأصفهاني:

إن بني الحسن لما طال مكثهم في حبس المنصور وضعفت أجسامهم كانوا إذا خلوا بأنفسهم نزعوا قيودهم فإذا أحسوا بمن يجيء إليهم لبسوها، ولم يكن علي العابد يخرج رجله من القيد. فقالوا له في ذلك فقال: لا أخرج هذا القيد من رجلي حتى ألقى الله عز وجل فأقول: يا رب سل أبا جعفر فيما قيدني ؟. (2)

اليقين

وبلغ من عبادته أنه الله أكرمه باستجابة الدعاء يقول الشيخ محمد مهدي الحائري: (وكانت دعواته مستجابة، فقال له آل الحسن: اُدع الله لنا ينجينا من حبس المنصور، فقال: لنا درجات عند الله لا ننالها إلّا بالصبر على هذه البلية أو أعظمها، وللمنصور درجات في النار لا ينالها إلّا بما أجرى علينا من هذا الظلم أو أعظمه، فالصبر أجمل، ويوشك إن نموت ونستريح، فإن أبيتم إلّا الخلاص وانحطاط الأجر عنكم فها أنا ادعوا الله لكم، فقالوا: بل نصبر. فصبروا بالبلاء، وقُتلوا بعد ثلاثة أيّام وماتوا في الحبس.

وكان آل الحسن(عليه السلام) في الحبس لم يعرفوا أوقات الصلاة إلّا بتلاوة قرآنه، ولقد تُوفّي وهو ساجد، وكان يقول في الحبس: اللّهم إن كان هذا من سخط عنك علينا فاشدد حتّى ترضى. (3)

هل كانت الوحيدة ؟

يتضح من خلال الروايات العديدة أن المنصور فرّقهم واتبع عدة وسائل وحشية لتصفيتهم يقول العلامة الكبير السيد محمد صادق آل بحر العلوم: إن الحسن المثلث والد علي الخير مات في الحبس سنة (145 هـ) وذكرت المصادر أن ابنه علي الخير مات سنة (146 هـ)

ويقول أيضا: كانوا خمسة عشر رجلا وقيل سبعة حبسوا بالهاشمية عند قنطرة الكوفة في سرداب ما كانوا يعرفون فيه الليل والنهار ثم قتلوا بعضهم دُفن حياً, وبعضهم بُني عليه أسطوانة, وبعضهم سُقي السم, وبعضهم خنق، وقبرهم في موضع الحبس وتعرف قبورهم بالسبعة. (4)

كما تدل رواية الصدوق أن الجريمة التي ارتكبها المنصور بحق بني الحسن لم تكن الوحيدة بل كان يتتبعهم في كل مكان ــ صغاراً وكباراً ــ وكان يتفنن في قتلهم وتعذيبهم بوسائل تدل على ساديته ووحشيته يقول الصدوق:

بدأ المنصور يفتش على من بقي من العلويين فمن ظفر به جعله في الاسطوانات المجوّفة المبنية من الجص والآجر، حتى ظفر بغلام من ولد الحسن وكان حسن الوجه فسلمه إلى البناء وأمره أن يجعله في جوف اسطوانة ويبني عليه، فدخلت البناء رقة على هذا الولد الوسيم فترك له في الاسطوانة منفذاً يدخل منها الهواء، وقال للغلام: لا بأس عليك فاصبر فإني سأخرجك من جوف هذه الاسطوانة عندما يرخى الليل سدوله.

ولما جنّ الليل جاء البناء فأخرج العلوي المظلوم، وقال له: اتق الله في دمي ودم العملة الذين معي، وغيّب شخصك، فإني إنما أخرجتك في ظلمة هذه الليلة لأني خفت أن يكون جدك رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يوم القيامة خصمي بين يدي الله، وأكد عليه بأن يواري نفسه فطلب منه الغلام أن يخبر أمه لتطيب نفسها، ويقل جزعها، فهرب الغلام ولا يدري بأي أرض أقام، وجاء البناء إلى دار أم الغلام ليعلمها بخلاص ابنها من قبضة ذلك الطاغية فسمع دويّاً كدوي النحل قبل أن يدخل من البكاء فعرف أنها أمّه فأسرها بخبر ولدها، وانصرف عنها.

وقد اختلفت الروايات في كيفية استشهاد علي الخير (رضوان الله عليه) فقيل: مات في السجن وهو ساجد, وقيل: مات مخنوقاً, وقيل: هدموا السجن عليه وعلى من معه من ولد الحسن (ع), وكان يوم استشهاده هو (26 محرّم 146ﻫـ) بسجن الهاشمية ودُفن بنفس المكان.

محمد طاهر الصفار

.......................................................................

1- عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب ص 181 ــ 182

2 ــ مقاتل الطالبيين ص 129

3 ــ شجرة طوبى ص 161

4 ــ عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب ص 181 / الهامش

5 ــ عيون أخبار الرضا ج 1 ص 111

المرفقات

: محمد طاهر الصفار