كيف نتعامل مع تجربة القيادة المعصومة ... ثورة الطف انموذجا

مما لاشك فيه ان تجربة الطف تترأس صداره الموقع من بين كل التجارب، التي عملت على انتشال المواقع المأساوي للامة وتحفز مسارها وتعريفها على دورها وتكليفها ووظيفتها الرسالية، بعد ما فقدت مقوماتها الذاتية في المواجهة وغزتها الكثير من الافكار والنظريات الخاطئة حول طبيعة الصراع مع السلطات الحاكمة، حتى أضحت ظاهرة الاستسلام لقدرية الايام سمة واضحة وعلامة بارزة تستحكم مسيرة قواعدها الجماهيرية، وهي تشاهد مشاهد الظلم والاستبداد والتحزب والانفراد تحت مظلة الكثير من المنظومات الفاسدة التي قوضت جوهرها الفكري والنفسي العام واستنزفت طاقتها عبر تسويفها للقيم والمفاهيم وتحويلها الى فوضى تنشر الانفعالات وتؤسس سلوكيات التعصب والتشدد غايتها قمع الحركة الجماهيرية، واقصاء التعسكر الطبيعي تحت القيادة المعصومة واغتيال زمنها ووعيها وسلخ قناعاتها بالإكراه لفرض اهدافها وسلطانها واعلان مركزيتها عبر امتهان الكرامة الانسانية واغتيال هويتها وتحطيم جوهرها "لان هلكت لنسترقنَّ من بعدك" تعكس مدى انهيار الداخل الذاتي الذي احدثته السلطة الحاكمة في استحكام المنافذ الجماهيرية مما قاد عمليا فيما بعد الى ترتيب المقدسات ثانويا بعد الضرورات السياسية حين استهدفت السلطة الحاكمة على سبيل المثال لا الحصر  حركة عبد الله بن الزبير، وهاجمت المقدسات واستباحتها "مكة المكرمة والمدينة"[1] كمخطط استراتيجي يعطي رسالة واضحة لكل القواعد الجماهيرية المعارضة، اما ان تقبل الذل او الموت ولا خيار بينهما.

ويبدو ان هذا لا يتنافى مع استراتيجية السلطة الحاكمة، ولا هي بحاجة الى رافعة دينية او عقائدية، حيث كان ذلك واضحا لمن قرأ عن عبيد الله بن زياد كيف يحاور السيدة زينب بنت علي المرتضى(عليها السلام)  بقوله:" الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم واكذب احدوثتكم"   وهي ترده بقولها (عليها السلام): "الحمد لله الذي أكرمنا بنبيه محمد (صلى الله عليه وآله) وطهرنا من الرجس تطهيرا, وإنما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر, وهو غيرنا والحمد لله." وينكر عليها "كيف رأيتِ صنع الله بأهل بيتك؟!"  .

فتجيبه (عليها السلام):" ما رأيت إلا جميلاً, هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل, فبرزوا إلى مضاجعهم, وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاجون إليه وتختصمون عنده فانظر لمن الفلج يومئذ, ثكلتك أمك يابن مرجانة"!!، حتى غضب فاعلن تشفيه وحقده بقوله:" لقد شفى الله غيضي من طاغيتك الحسين والعصاة المردة من أهل بيتك".[2] ويمكن القول ان بذلك المنطق عملوا على تبني مشروع تحريف المقدسات وتطويعها بما يلائم استراتيجية سلطانهم. 

وفي الوقت نفسه، بقيت القواعد الجماهيرية تعيش تحت ضلال تلك المنظومة الفاسدة تستحكم أرادتهم وتزيف وعيهم وتسلخ قناعاتهم من مسؤولية تكليفهم في الدفاع عن مقدساتهم حتى احداث الوعي الثوري والتعاقب الزمني الذي احدثته تجربة الطف على مسار الصراع السياسي الفكري ، فظهرت على سبيل المثال لا الحصر "حركة عبد الله بن الزبير" في مكة المكرمة، وكذلك " حركة التوابين" [3]  التي تعد سكون الأنفس ومراجعة الذات عند الكوفيين والشعور بالذنب أصبح الدافع المحرك لمقارعة، ومناجزة السلطة الحاكمة تكفيراً لذنبهم، وكذلك " ثورة المختار بن ابي عبيده الثقفي" التي تعتبر الرد المباشر على مقتل المعصوم وان جاءت متأخرة الا انها منحت القواعد الجماهيرية فرصة التكفير عن ذنوبهم وتقاعسهم في نصرة المعصوم. بالإضافة الى ذلك كانت لثورته اصداء بعيده المدى سياسية واجتماعية واقتصادية ظهرت نتاتجها في الاحداث التي صاحبت السلطة الحاكمة وكانت اليد الطولى في اضعافها.

وبعد كل تلك الحركات والثورات بقيت تجربة المعصوم "ثورة الطف" تعيش الفضاء الاحادي الذي تنتعش فيه الحالة الوجدانية دون ان تختمر لتضحى مناخاً تتفاعل فيه الفكرة والعاطفة معا، كما هو الحال في عصر القيادة المعصوم التي عملت على اعداد هذه التجربة من اول معصوم دعا الى فتح باب التهيئة واحداث الوعي حينما مازج "الدمعة بـــ "بالفكرة" الى رسم الاستراتيجية وانتخاب قياداتها العسكرية الى تفعيل الوعي السياسي الى بيان اليوم التاريخي حتى أخرهم (عليهم السلام) عملوا على توظيف تلك التجربة واعلان نتائجها واستثمارها بالشكل الذي يثري الانشطة والمستويات ويبقيها حية فاعلة في النفوس بما تحمله من مسار تقدمي شمولي وليس انغلاقاً عنصري لمكون دون آخر... حيث يؤكد ذلك المعصوم:" ما خرجت أشراً، ولا بطراً ولا مفسداً، ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدي محمد (صلى الله عليه واله)، ولأ آمر بالمعروف وأنهي عن المنكر". أي اصلاح أحداث الكثير من المتغيرات والمكتسبات في الدواخل الذاتية والاجتماعية، وفتح مسارات واخاديد وافرز انماط حولت التاريخ الى مجرى آخر بعد أن قلب الاحداث "عقبا على الرأس"، بعد ما كانت "رأسا على عقب" .

ويمكن القول ان ما تعرضت له القواعد الجماهيرية من تغييب وتقتيل للوعي وتفكيك للاصطفاف بسبب الحظر الذي افرضته السلطات الحاكمة فان الكثير من المفاهيم والافكار فقدت الماعيتها وجوهرها الاساسي حتى أضحت "ثورة الطف" هي الاخرى ضحية لذلك الحظر لفصل دورها عن واقعها وتضييقه وحبسه بالجانب المأساوي، وبالتالي استنزاف رصيدها الهائل الذي تركته موروثاً للامة ما زال لحد الآن بحاجة الى قسام يملك الادارة والصناعة لصناعة امة لا على اساس كيف تكون مظلومة فتنتصر... بل على اساس كيف تكون انسانة فتتعامل؟!! .

وعليه ان تتعامل تعامل المعصوم في يومياته ومنهجه وتجربته ومنظومته التي تشكل استثمارها وترشيدها عامل اثاره وتحفيز وانطلاق لتغيير حياة هذه الامة، واسترجاع دورها وتحريكها والدفع بها نحو مسار اكثر رفاه واكثر حياة واكثر انسيابية في المستقبل يحمل معالمه على اساس فكرة قابلة للوجود والتحقق تتخلق فيها من معالم الجهل والاقتتال والاغتصاب والتعذيب والاستعباد والعزلة والسخرية الاضطهاد والارهاب وكل ما وجدت تعبيرها الامثال في ذلك العار الانساني الذي يُدعى "العنف".

وكذلك الى معالم تستعيد وجودها التي تدرك بفطرتها وذاتها انها كرامة وحرية ورفاه عبر منطلقات تقف امام ذلك الانجاز المقدس الذي مثلته تجربة الطف بكل ما تمتلك من أبعاد ودلالات وما تختزله من معان هائلة وفاعلة تمتلك القدرة على قلب كل المعادلات والأيدولوجيات الداخلية والمعارضة على حياة هذه الامة وما تحدثه من تأثير فعال على ضوء معطيات الواقع المعاصر وتفعيل مضامينها في اطار المنظومة الاسلامية بغية عودة التجربة الى موقعها الطبيعي لاستثمار عطاءاتها في توعية الذوات الانسانية وتحقيق مبتغى الدين الاسلامي وتطبيق أحكامه.

لا على أساس تبني ضيق النظرة والزاوية والمنطلق الذي لم يدفع بــــ" المهاتما غاندي " ان يقول " تعلمت من الحسين بن علي كيف أكون مظلوماً فانتصر". فضلا عن امتلاكه أدنى رصيد لان يحرك شعرة واحدة من غاندي، فغاندي بقي على هندوسيته حتى بعد أن اخذ معالم أصول الانتصار من المعصوم فانتصر.

وان دل هذا الشي فيدل على مدى الابعد للاذعان بان المعصوم اكبر من اكبر كل التصورات والاطروحات والأيدولوجيات والمنظومات التي تحكم "الجزر المنعزلة" التي لا ترى الا ذواتها ووجودها ما زالت عاجزة لحد الان عن تحقيق هذه القيادة المعصومة في بناء الحياة الانسانية. فضلا عن معرفة هدف المعصوم والتعرف على منظومته التي عجزت كل الامم والحضارات ان توقع بالمعصوم غير وقوعها هي موتها وبقى المعصوم حقيقة تعلو الزمن لا يعرف الموت اليها سبيل رغم كل الاضافات الحضارية. 

جعفر رمضان الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة

 

 

 

 [1] للمزيد من التفاصيل حول حصار مكة وانتهاك المقدسات الإسلامية ينظر. احمد بن أبي يعقوب بن جعفر بن وهب بن واضح اليعقوبي،   تاريخ اليعقوبي، (بيروت: دار صادر، 1988)،ج 2، ص166-167؛ محمد بن يعقوب أبو جعفر الكليني، الروضة من الكافي، تحقيق: علي اكبر الغفاري،(طهران: دار الكتب الإسلامية، 1389هـ)، ج2، ص64؛ محمد بن يوسف الشامي، سبل الهدى في سيرة خير العباد، تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود، (بيروت: دار الكتب العلمية، 2005)، ج1، ص223.

[2] محمد بن محمد بن النعمان المفيد، الإرشاد(النجف، المطبعة الحيدرية، 1969)، ج 2 - ص 117 - 118  

[3] للمزيد عن حركة التوابين ينظر . محمد بن سعد ابن سعد، الطبقات الكبرى (بيروت، دار صادر، 1957م)، ج4، ص292؛ الخطيب البغدادي، احمد بن علي، تاريخ بغداد، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا،(بيروت: دار الكتب العلمية، 1417هـ)، ج1، ص216.

المرفقات