رحى الحرب تدور في ساحة كربلاء

قد ضمت واقعة الطف من جميع الشرائح الاجتماعية رجالاً ونساء عبيداً واحراراً شيباً وشباباً، كما شملت جميع الابعاد الرسالية وتجسدت فيها اروع صور التضحية والفداء والشجاعة والاباء من جانب ومن جانب آخر برزت فيها ابشع وافظع صور التوحش والخروج عن حدود الانسانية.

مما لاشك فيه كان احد اسباب ثورة الامام الحسين (عليه السلام) هو ادراكه ان الامة وصلت الى حالة من الخدر في الحس وعدم الشعور بالمسؤولية، وجعلها لا تفكر في واقعها الاجتماعي ولا تعي الخطر المحدق بها بعد ان استخفها الحكام الأمويين، واستحوذوا عليها بأسلوبي الفساد والارهاب وهما من اخطر الاساليب التي تتعرض لها الامة لانهما يسلبان الامة الارادة والقدرة على الحراك، وهذا ما اكده الامام في خطبته لجيش عمر بن سعد قائلا:" سللتم علينا سيفاً لنا في ايمانكم وحشتم علينا ناراً اقتدناها على عدونا وعدوكم فأصبحتم البا لأعدائكم على اوليائكم بغير عدل افشوه فيكم ولا امل اصبح لكم فيها..."

وعليه ان نزول الامام الحسين بارض كربلاء كان في يوم الخميس الثاني من المحرم سنة61هـ[1] ، وهو ما اجمع عليه كتاب السير ورواة الأخبار، ولم يخالف ذلك إلا الدينوري حيث قال:" ثم أمر الحسين بإثقاله فحطت بذلك المكان يوم الأربعاء غرة المحرم منه سنة 61هـ " [2] .

وفي تلك الاثناء خرج عمر بن سعد من الكوفة في جيش قدّرته بعض المصادر بثلاثين الفاً، وان هذا الحشد الكبير من رجال وسلاح تدعمه سلطة الاموية وقوتها تم حشده لمقاومة عصبة لا تتعدى اثنين وثلاثين فارساً وأربعين راجلا يقودهم سبط النبي الامام الحسين(عليه السلام) وهم لا يملكون سوى الأيمان بعقيدتهم. هذا الموقف الصعب الذي وجد الامام (عليه السلام) نفسه فيه لم يثنه عن محاججة القوم بالوعود التي قطعت والعهود التي أبرمت بينه وبين أهل الكوفة، وألقى عليهم كل الحجج في سبيل اظهار الحق، وبين لهم سوء فعلهم هذا وغدرهم ونقضهم للوعود التي وعدوه بها من نصرته وتأييده[3].

وتشير الروايات، ان الامام (عليه السلام) جمع أصحابه عند قرب المساء. اذ اكدت السيدة سكينةَ بنت الحسين (عليها السلام)ذلك بقولها: "كُنتُ جالسةً .. وسط الخيمة، وإذا أنا أسمع من خلفها بكاءً وعويلاً، فخشيت أن يفقه بي النساء، فخرجت أعثر بأذيالي، وإذا بأبي (عليه السلام) جالس وحوله أصحابه وهو يبكي، وسمعته يقول لهم: أعلموا أنّكم خرجتم معي لعلمكم أنّي أقدم على قوم بايعوني بألسنتهم وقلوبهم، وقد انعكس الأمر لأنهم استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله، والآن ليس لهم مقصدٌ إلاّ قتلي وقتل من يجاهد بين يدي وسبي حرمي بعد سلبهم، وأخشى أنّكُم ما تعلمون وتستحون، والخدع عندنا أهل البيت محرّم، فمن كره منكم ذلك فلينصرف، فإنّ الليل ستير والسبيل غير خطير، والوقت ليس بهجير، ومَنْ واسانا بنفسه كان معنا غداً في الجنان نجيّاً من غضب الرحمن، وقد قال جدّي محمد (صلّى الله عليه وآله) ولدي الحسين يُقتل بأرض كربلاء غريباً وحيداً عطشاناً فريداً، فمن نصره فقد نصرني ونصر، ولو نصرنا بلسانه فهو في حزبنا يوم القيامة".

ثم تبين الروايات ان السيدة سكينة قالت: "فو الله ما أتمّ كلامه إلاّ وتفرق القوم من عشرة وعشرين، فلم يبق معه إلا واحد وسبعون رجلاً، فنظرت إلى أبي منكساً رأسه فخنقتني العبرة، فخشيت أن يسمعني ورفعت طرفي إلى السماء وقلت: "اللهم انّهم خذلونا فاخذلهم ولا تعجل لهم دعاءً مسموعاً، وسلط عليهم الفقر ولا ترزقهم شفاعة جدّي يوم القيامة"، ورجعت ودموعي تجري على خدي، فرأتني عمتي أم كلثوم، فقالت:" ما دهاك يابنتاه، فأخبرتها الخبر، فصاحت واجدّاه واعليّاه، واحسناه واحسيناه، واقلّة ناصراه، أين الخلاص من الأعداء ليتهم يقنعون بالفداء، تركت جوار جدّك وسلكت بنا بُعدَ المدى، فعلا منّا البكاء والنحيب". فسمع أبي ذلك فأتى إلينا يعثر في أذياله ودموعه تجري، وقال: "ما هذا البكاء ؟" فقالت: "يا أخي ردّنا إلى حرم جدّنا"، فقال(عليه السلام): "يا اختاه ليس لي إلى ذلك سبيل"، قالت:" أجل، ذكرهم محل جدّك وأبيك وأمك وأخيك"، قال (عليه السلام): "ذكّرتهم فلم يذكّروا ووعظتهم فلم يتعظوا، ولم يسمعوا قولي، فما لهم غير قتلي سبيل، ولا بدّ أن تروني على الثّرى جديلاً، ولكن أوصيكنّ بتقوى الله ربّ البريه والصبر على البلية وكظم نزول الرزيّة، وبهذا أوعد جدّكم ولا خلف لما أوعد، ودّعتكم إلهي الفرد الصمد، ثم تباكينا ساعة والإمام عليه السلام يقول﴿وَما ظلمُونا ولكنْ كانُوا أنفسَهُم يَظلمُون﴾.

انقضت ليلة العاشر، وطلع ذلك اليوم الرهيب يوم عاشوراء ، وطلعت معه رؤوس الأسنّة والرماح والأحقاد وهي مشرعة لتلتهم جسد الامام الحسين وتفتك بدعاة الحق والثورة ،فخاطب الامام الحسين أصحابه قائلاً:" قوموا رحمكم الله الى الموت الذي لابد منه، فان هذه السهام رسل القوم اليكم" [4] فتوجهوا الى القتال كالأسود الضارية لا يبالون بالموت ، وكان لا يقتل منهم احد حتى يقول :" السلام عليك يا أبا عبد الله" ويوصي اصحابه بان يفدوا الامام بالمنهج والارواح .

واستمرت رحى الحرب تدور في ساحة كربلاء، واستمر معه شلال الدم المقدس يجري ليتخذ طريقه عبر نهر الخلود وانتهت المأساة بمقتل الامام الحسين وأهل بيته (عليهم السلام)[5] ، واقتيدت نساؤهم سبايا الى دمشق[6].

جعفر رمضان

 

[1] أبي جعفر محمد بن جرير الطبري، تأريخ الرسل والملوك، تحقيق، محمد أبو الفضل إبراهيم،(مصر: دار المعارف، 1961م) ، ج5، ص409؛ محمد بن محمد بن النعمان المفيد، الإرشاد الإرشاد،(النجف: المطبعة الحيدريه، بلا، ت) ، ص253.  

[2]ابي حنيفة احمد بن داود الدينوري، الإخبار الطوال،(قم: منشورات الشريف ارضي، د.ت)، ص253.

[3]احمد بن أبي يعقوب بن جعفر بن وهب بن واضح اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي،(بيروت، دار صادر، 1988)ج2، ص 176.

[4] عبد الرزاق المقرم، مقتل الحسين،(بيروت: مؤسسة الخرسان، 2005م)، ص292.

 [5] أبي جعفر محمد بن جرير الطبري ، المصدر السابق، ج5، ص 453؛ ابن اعثم، مقتل الحسين، ص151؛ أبي المؤيد الموفق بن احمد بن محمد، المكي الخوارزمي، مقتل الحسين، تحقيق: عبد المنعم عامر،( بغداد: مكتبة المثنى، 1959م)،ج2، ص 39 -42.

[6] أبي جعفر محمد بن جرير الطبري ، المصدر السابق، ج5، ص 429 -430؛ أبي جعفر محمد بن الحسن بن علي الطوسي، أمالي، (قم: مؤسسة البعثة، د.ت)، ج1 ص91؛ احمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي، الاحتجاج، تحقيق: محمد باقر الخرسان ،(النجف: دار النعمان، 1966 م) ،ج2، ص29. 

المرفقات