الاستقراء الجمالي واللاشعور الجمعي

أن البحث عن الجماليات بمختلف أشكالها ونظمها والتي تعمل من خلال الحس لتؤثر في الذوق العام ، وتعكس صيغ مقبولة من الجمال في الفنون التشكيلية.. لا يقوم بمعزل عن التقبل والفهم الإنساني ، فمن وظائف الفنون المهمة هي الترسيخ والتفسير ولو بدرجات متفاوتة، فالفنون بشكل عام تعد بالنسبة للبعض من المتلقين مجرد وسائل للأثارة والمتعة،  وبالنسبة لكثير آخرين تعد اللغة التي كشفت بها النفس البشرية عن معاني عالمها الواقعي.

لقد وضع علماء النفس عملية الأبداع وجمالياتها قيد البحث المكثف.. وقد توصل البعض منهم الى أن المتعة الجمالية هي محصلة للعلاقة الخاصة والتفاعل مع العمل الفني، واذا ما نظرنا الى مجمل العلاقات الرابطة بين الاعمال الفنية التشكيلية ومنها الرسوم الشعبية الدينية بمبدعيها ومتلقيها.. فأننا سنجد ان هنالك علاقات مختلفة منها عقائدية واخرى اجتماعية وحتى سياسية واقتصادية، وهي تلقي بظلالها بشكل وبآخر وتجعل من الرسوم متنفساً يصرخ بداخله المبدع ليعبر عن رفضه أو قبوله لما يحيط به في العالم الخارجي .. حيث ان العالم الداخلي الخاص بكل فرد من المجتمع حينما يكون مدمراً ومفتقراً الى الحب يبدأ الأشخاص الذين أحببناهم وتأثرنا بهم بالتحول الى شظايا ونثار ومن ثم الانتقال الى اعماق الذاكرة وبالتالي قد يكونون في فضاء النسيان الفسيح، حينئذ يتوجب علينا أن نبدع عالمنا مجدداً و نعيد تجميع شظاياه وقطعه المتناثرة ونبعث الحياة فيها ونعيد أبداع حياتنا من جديد.. ولا يكون ذلك الا بالعودة الى الموروث واحياءه واحياء الروح به.

أن ما يحمله الموروث الشعبي من عادات وتقاليد اجتماعية ودينية لا يمكن تغييرها أو تبديلها وبالخصوص ما يتعلق منها بمظلومية ال بيت النبوة الاطهار سلام الله عليهم.. حتى وأن تبدلت الأجيال وتغيرت طباعها ومستوى تقدمها العلمي أو الثقافي لأن هذا الموروث ينتقل عبر الأجيال محفوظاً في الشعور واللاشعور، وكل محاولات التطوير التي قد تطرأ عليها تبقى ضمن النكهة الشعبية الخالصة، لأن أسس قيامها ترسيخ العقيدة وقيمها، وهي بالتالي تؤدي وظائف تعليمية ونفعية تعمل على تثبيت العادات والتقاليد والقيم الأخلاقية التي تتمسك بها الجماعة.. وللعمل الفني في هذا المجال بنية خاصة وتركيب زماني ومكاني وهو ضروري لوجوده.. فهو بحاجة ماسة الى البناء المكاني المتجسد من خلاله مظهره الحسي الذي يتجلى عليه بصفته موضوعاً جمالياً، فضلاً عن احتياجه للبناء الزماني الذي تظهر فيه حركته الداخلية ثم مدلوله الروحي الباطني الذي يعبر عن طابعه الإنساني، ومن هذ المنطلق يفترض علماء الجمال أن أي عمل فني لابد ان يشتمل على ثلاثة عناصر أساسية هي: المادة و الموضوع والتعبير وهذا ما امتدت له يد الفنان المسلم بالتأكيد فقد استخدم السطوح الورقية والجدران والسطوح النسيجية ومواد مختلفة فأحلها بجهده ومهارته الى مجموعة من التصورات والافكار المحاكية لقضية ما، فكون منها بنية جمالية محسوسة ومرئية تلامس روح المتلقي وعقيدته.

والرسوم الشعبية عادة ما تكون مستمدة من تعاليم أو أيدولوجيات تخص عقيدة دينية ما، وتوحي للمتلقي من النظرة الأولى بمفهومها العام ومن ثم تدفعه حيثياتها للانتقال نحو محاولة فك شفراتها المرسلة عبر رموز تشير اليها، وهذا ما يفسر ثبات الموضوع في الكثير من الرسوم الدينية مع اختلاف أسلوب التعبير.. والتعبير أو الأسلوب التعبيري هو الذي يرسل السمات الجمالية ، ومما طرح في الاشكال التي عمد الفنان الشعبي الى رسمها فأننا نلاحظ فيها وبوضوح تام أن هناك أسلوباً تعبيرياً واقعياً قائماً على أساس أن هناك عملية فنية تنظيمية لمجموعة من الأجزاء انتجت كلية العمل الفني وفق صيغة تآلفية وحققت انسجاما مشعاً لمحتواها، ولا يخفى أن هذه العملية التنظيمية لا تتم من دون أن يكون هناك وسائل تحققه و تطرح الأفكار من خلاله على سطح اللوحة، فكانت هناك عناصر النقطة والخط واللون والعلاقات القائمة بينها.. فالخط بأنواعه وحسب متطلبات كل نوع لكي يحقق الغاية المطلوبة منه فلابد من تناغمه مع اللون ليعطي الأعمال إحساسا أو ملمساً بالصخور والجبال والصحراء والنبات والأشكال الإنسانية وصفاتها من قسوة وليونة، وهذه الصفات او المتطلبات التي تتسم بها الاشكال  يستشعرها الأنسان في ذاته وصولاً لحالة جمالية مثلى قائمة على  التناظر والتناسب والتكرار بين الاجزاء لتحقق أيقاعاً متناغماً يثير في النفس استقرار وموازنة مع عدم أغفال التنوع في البناء وإظهار السيادة او المحور وربطه بما حوله.

أن محاولة استقراء الأعمال الفنية الشعبية وأطلاق الأحكام الجمالية عليها لا يتم الا من خلال مشاركتها الوجدانية مع المجتمع.. والتي يتحدد موقفه- المجتمع - تجاهها  فيقبل منها ما يتفاعل مع رغباته ويثيرها ويرفض ما يفصل بينه وبين الحياة التي يريدها، ولا ينفي دور الجماليات القائمة عليها - وفق عمليات تنظيمية تشكل قواعد منظورية خاصة -  تتيح للناظر استقرارا ومتعة من حيث أتسامها بالموازنة والانسجام والإيقاع على الرغم من اتسامها بالتسطيح وتعدد مراكز البصر في بعض اللوحات، وكل هذا لم يكن لولا فضائل التأريخ الإسلامي بان وفر مفهوماً جمعياً توثيقياً لكل حوادث الماضي، وان أحد فضائل الرسوم الشعبية الدينية والحسينية منها على وجه الخصوص أنها وثقت تلك الحوادث بصيغة فنية تتناغم مع الوجدان، والجميل فيها أنها تستلهم الموضوع دون تعقيد، فما أن يستحضر الرسام مكان الحدث حتى يضع فيه مجموعة من الرموز يستدل من خلالها المتلقي الى الموضوع ويعود بذكرياتها الى الوراء مضافا اليها ذات الرسام الذي يتحد وجدانياً مع الحدث فيزيده ويجمله تبعاً لعقيدته ومستوى تمسكه بها..

ولا يمكن التغاضي عن خبرة المتلقي التي تؤدي الى الإحساس بالأشكال والألوان وملمس السطوح والكيان الكلي لأي عمل، فالخبرة الجمعية والمفهوم العام بموضوع الرسوم الشعبية ، تجعل من أي عمل مثار للتساؤل والتوقف عنده نظراً لما يحمله من محتوى، هذا التوقف يؤدي الى تذوق العمل انطلاقا من عده يحمل أسساً ذاتية وموضوعية في آن واحد، أذ أن آلية البناء وربط الأجزاء بكلية العمل هو الذي يؤدي الى التطابق بين الأشكال ومحتواها.. وهذا ما يولد فسحة تأملية للمتلقي توفر لذة ومتعة تساعد على أنماء الذوق الجمالي واستحضار المحفوظ بالشعور واللاشعور الجمعي للمجتمع الذي ينتمي اليه .

سامر قحطان القيسي

الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة

 

المرفقات