استمدت معظم الابداعات التشكيلية في الفن العراقي المعاصر مقوماتها الجمالية من إرث الفنان العراقي الإسلامي والحضاري العريق ومن روحه الانسانية الشاملة الى جانب بيئته المحلية المعاصرة.. اذ حاول كثير من المبدعين ان يؤسسوا لاستلهام التراث في اعمالهم الفنية معتمدين على رموزهم الحضارية والدينية المتعددة التي تزخر بها ارض الرافدين.. حيث استمد الفنان العراقي المعاصر اغلب مواضيعه من الأشكال البصرية التي كان يراها في الحياة اليومية، متأثراً بالحضارات القديمة وفنونها بصفتها مراكز متنوعة للأنشطة الإنسانية المختلفة.
اللوحة اعلاه من ابداع الفنان التشكيلي العراقي" ضياء العزاوي "وهي جزء من سلسلة الأعمال ذات الصبغة الحداثوية المختلفة التي أنتجها، وهو من مواليد بغداد 1939.. ولديه ميول فنية منذ الصغر وذلك من خلال فطرته وامتلاكه موهبة الرسم التي طورها باستنساخه الصور والرسوم من المجلات والصحف اليومية، فضلا عن تشجيع عائلته واحد اساتذته على تنمية تلك الملكة التي عمد الى تطويرها فيما بعد بدراسة علم الآثار في كلية الآداب التي تخرج منها.. وقد ارتاد العزاوي المرسم الحر الذي اسس على يد الفنان العراقي حافظ الدروبي مما شكل عاملا مساعدا مهماً على تطوير موهبته بمتابعة دراسة الفن في معهد الفنون الجميلة في بغداد حتى التحاقه بجماعة الانطباعيين في الفن وخوض غمار اساليب التجريب الفنية وهو متنقلاً بين المدرسة الانطباعية والحروفية وصولا للتجريدية التي ابدع من خلالها بأساليب متنوعة.
في هذه اللوحة يعرض الفنان جزءاً من تجاربه في صناعة العمل الحداثوي.. ليس بحدود معناها وتفصيلاتها المنفردة وإنما بعملية بنائها المتكاملة، فاللوحة عبارة عن كتل لونية مبهمة الأشكال غير محدودة المعالم قوامها بعض الحروف والبقع اللونية المميزة بالوان الاوكر والاسود والأحمر واللون السماوي والبني وهي محددة بخطوط تستقر على ارضية بلون ابيض ترابي مائل للصفرة بفضاء مفتوح تتخلله الاشكال.. هذه اللوحة خير ممثل لمرحلة تنمية الحساسية لدى الفنان العراقي المعاصر تجاه السطح التصويري وتطويرها ودعمها بطموح لتأسيس لغة بصرية حضارية تستند إلى عمق الموروث وحداثة التقديم، غير أن هذا العمل يظل ناطقاً كغيره من الاعمال الحداثوية بإشكالية معقدة تتطلب خبرة وممارسة عالية لدى الفنان والمتلقي في نفس الوقت وهي إشكالية الموازنة بين التراث والحداثة والذات والموضوع وهذه الاشتراطات امتلكها الفنان ضياء العزاوي ولكن بعد مراحل طويلة من مشوار عمله الفني وتراكم الخبرات والتجارب الفنية.
إن البنية التصميمية لهذا العمل مركبة بشكل واضح فهي مزيج غير متجانس من الأشكال الحرة والكتابات التي تتخذ شكل الكتابة العادية تارة والخط المنمق تارة أخرى، فكما هو معتاد في ابداعات العزاوي التجريدية، فانه يبدأ غالباً من نقطة مركزية تتشعب حولها البنية التصميمية وتتصل وتتكامل حول محور جوهري راسخ، يتمثل هنا في العلاقة الثابتة بين الحرف العربي بصوره الجمالية المتعددة وبنيته الفنية الانسيابية ومدلوله المعرفي والتاريخي فيما تنمو باقي البنية التصميمية حولها بوصفها تفرعات وتراكمات تعزز وجود الحرف وتشير إليه ولا تلغي وجوده أو قيمته المركزية .
حرص العزاوي على تحقيق الاتحاد المطلوب بين فكرة عمله وأسلوب تناولها وتحقيقها عبر العديد من المعالجات والاستعارات اللونية والشكلية، مثل استخدامه اشكال الحروف العربية وربطها بمرجعيات ذهنية تعود إلى أنماط الخط العربي واستخدامه في الرقع الخطية او تزيين العمائر الإسلامية أو الاعمال الشعبية العراقية المزينة بالحروف العربية، إلى جانب خليط من الالوان الحارة والباردة التي قد تكون خير مثال على المناخ والبيئة العراقية بأمطارها وسماءها الزرقاء في الشتاء و شمسها الحارقة صيفاً والاجواء المتربة التي تسود الاجواء، ويرتكز ضياء العزاوي في توظيف مثل هذه الاستعارات على مبدأ تبادلية التعبير بين الشكل ومحتواه التعبيري وموقعهُ البنائي ضمن البنية التصميمية، فبعض الأشكال رغم تجردها تظل وثيقة الاتصال بنظيراتها الواقعية وهي ذات أثر جمالي فاعل على مستوى التأمل الحر و القراءة المنطلقة عن علاقاتها بالواقع وهذا ما يؤكده الفنان في اغلب اعماله .
عمل الفنان العزاوي ومنذ بداياته الفنية بحصيلة الفنان والآثاري والشاعر معاً.. وهذا ما سمح بتنوع وسعة مفرداته الفنية في منجزاته الابداعية الرائعة وبناه التصميمية، التي تستلهم أنماطاً مختلفة من تركيبات مختلفة مستوحاة على الاغلب من الحروف والأشكال التراثية أو المشاهد البصرية المأخوذة عن البيئة العراقية وهي من مخزونات ذاكرته في الواقع.. فقد اهتم باستلهام الحروف العربية بشكل خاص من خلال وجودها في نسيج اللغة العام وتقليد الكلام الراسخ في العقل العربي من خلال ايصال قيمة الحرف الشكلية وقدرته على الإشارة والاختزال والتركيز كعنصر تعبيري وجمالي ووظائفي، ولكن.. على الرغم من أن البحث في التراث هو احد المصادر والمكونات الأساسية للفـن العراقي المعاصر إلا أن محاولة إعطاء العمل الفني صيغة الوثائق الأدبية أو التاريخية قد لا يقود إلى حاصل تجربة فنية أو جمالية مقنعة، فاللوحة سطح للمشاهدة والتأمل والقراءات البصرية التأملية الجمالية وليست سطحا للتدوين الأدبي أو القراءات اللغوية الواضحة، وعلى ذلك وجب اسقاطها على سطح اللوحة الفنية بأشكال قابلة للتفسير وفق قواعد واشتراطات الرؤية وبحدود خصوصية الآليات البصرية التي يمكن أن تقود بدورها إلى مدلولات معينة وفق إحالات تراثية مؤثرة في نفوس المتلقين، وهذا ما ابدع به العزاوي في اغلب اعماله الفنية التجريدية وفي هذه اللوحة على وجه الخصوص.
سامر قحطان القيسي
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق