سعى الفنان المسلم الى اكتشاف القيمة الجمالية للكلمة العربية، خاصةً بعد أن اصبحت كلمات القرآن الكريم هي جوهر عقيدته ومصدر وحيه.. فاستشف الشحنة التعبيرية والرمزية الكبيرة التي يحتويها الخط العربي، فكان هذا الفن كسائر انواع الفنون الإسلامية الاخرى يسير على نفس النمط ويكون خاضع لنفس الهدف الذي دأب الوجدان الإسلامي على ابرازه وتصويره، وقد طوّع الفنان المسلم الحروف لتصبح قادرة على اشباع حسه الفني .. واستخدم الخط العربي كلوحة فنية متكاملة تتحقق فيها الانسيابية والحركة المتفرقة، سواء كان ذلك بتمايز الالوان او بتحريك الخطوط المتنوعة .
والخط الكوفي يعد احد اقدم انواع الخطوط العربية حيث نشأ في بدايات ظهور الإسلام في مدينة الكوفة بالعراق.. وتذهب العديد من الاعتقادات الى انه استخدم قبل نحو مائة عام من انشاء مدينة الكوفة، وقد استخدم هذا الخط في التدوين وكتابة المصحف الشريف بشكل خاص، وتشير اغلب الدراسات التاريخية ان اجمل وافضل ما كتب بهذا الخط كان على يد امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام .. وهناك من يذهب بالرأي إلى أن الإمام علي بن ابي طالب هو الذي أبدع الخط الكوفي وأوجده وان لم يكن مبدعه وموجده فمن المؤكّد أن له فضلاً كبيراً في صياغة وترتيب وتركيب حروفه واشكالها وفي الفصل والوصل بينها مما أضفى على الخط الكوفي لطافة ومتانة.
يشمل الخط الكوفي أكثر من 30 نوعا ومنها الكوفي المائل والمزهّر و المعقّد و المورّق و المنحصر و المعشّق والمضفور و الموشّح والكوفي الفاطمي وغيرها من انواع وابداعات الخط الكوفي الاخرى، والمخطوطة اعلاه تنتمي بهياتها الى نوع الخط الكوفي المضفور.. وهي من ابداع الخطاط العربي المصري عصام عبد الفتاح سيد احمد ، وهو من مواليد القاهرة و تلقي تعليمه في فن الخط العربي والتذهيب على يد شيخ الخطاطين المصريين الاستاذ محمد عبد القادر عبد الله رحمه الله.. وقد حصل على دبلوم الخط العربي سنة 1990 ودبلوم التخصص والتذهيب سنة 1992 وتخصص في كتابة الخط الكوفي بأنواعه، وله العديد من المعارض على الصعيدين المحلي والعربي.
تضمن العمل عبارة (وما بكم من نعمة فمن الله) وهي منفذة بالخط الكوفي المضفور داخل مساحة هندسية مستطيلة الشكل، وقد وزع الخطاط الحروف والكلمات في المخطوطة اعلاه بالاعتماد على تقسيمات محسوبة لمساحة التكوين التي يمكن تحديدها بأقسام ثلاثة، محققاً فيها التماثل في بعض اجزاء التكوين والمتمثلة في الجزء العلوي منه وبشكل متناظر ومتطابق.. و غير متماثل في الجزء السفلي للتكوين الذي يحتوي على عبارة (وما بكم من نعمة فمن الله) ، مع ملاحظة ان التوازن الشكلي والمساحي ما بين الجزء العلوي والسفلي للتكوين الخطي، يحقق التوازن ما بينهما والهيئة الشكلية العامة للتكوين والمساحات الموجودة فيما بينها .
تم توظيف البنية الشكلية للحروف وتغيير اتجاه البعض منها لتكون وكأنها مرآة لما يقابلها من امتدادات للحروف ، مكوناً من خلال ذلك تنوعاً وحركة لهذه العناصر الحروفية فيما بينها كما يظهر في امتدادات حرف الالف ونهايات حرفي النون والتاء المربوطة، فضلاً عن تكوين شكل ايقوني من خلال مد الحروف العمودية لكلا الكلمتين والتقائها وسط الشكل، وايضاً تحقيق التوازن من خلال اضافة عناصر تشبه من حيث الهيئة الشكلية للحروف داخل مساحة التكوين .
رتبت الكلمات في البنية النصية على وفق نظام توزيع سطري خفيف وغير متراكب ، وباتجاه افقي متسلسل ومتتابع بدءاً من الجهة اليمنى للنص من كلمة( وما بكم ) وتتابع وصولاً الى الجهة اليسرى التي تحتوي على لفظ الجلالة (الله) ، محققاً من خلال ذلك المتطلبات القرائية للنص والمتطلبات الجمالية التي تمثلت بالعناصر النباتية الزخرفية المضافة الى نهايات الحروف العمودية محققاً التوازن المتكافئ في اشغال المساحات، كما في حرف (أ) و( ك)و (ن) ( ة ) في كلمة والتي شغلت المساحة ما بين بداية الجملة ونهايتها بمفردة زخرفية نباتية مرتفعة لتشغل الجزء الاعلى من المخطوطة، بحيث تكون هي المركز الادراكي البصري المكمل للنص ونقطة جذب للمتلقي، كما اعتمد الخطاط على التكرار في تحقيق التوازن والانسجام ما بين اجزاء التكوين المتقابلة والمتماثلة في الجزء العلوي من التكوين، من خلال تقسيم هذه المساحة الى مساحات او اجزاء نصفية يكون كل جزء مكمل لباقي الاجزاء بحيث يظهر التكوين مترابط ومتناغم وفق ايقاع رتيب وغير رتيب ما بين اجزاء التكوين، معززاً من خلال ذلك التوازن الشكلي لهذه العناصر المتضادة والمتقاطعة اتجاهياً دون ان تشغل كافة المساحة الذي نتج عنه حيز فضائي في طرفي التكوين، ليكون متنفس جمالي للتكوين والعناصر المنفذة داخل مساحته في نفس الوقت.
اما التباين في هذه المخطوطة الرائعة فقد حاول الخطاط ابرازه في الهيئة الشكلية ما بين الجزء العلوي الزخرفي والجزء السفلي الكتابي من التكوين، فضلاً عن الاختلاف الشكلي للوحدات الزخرفي فيما بينها وبين الوحدة الزخرفية المرتفعة اعلى اللوحة والي تشغل المساحة الافقية العليا للتكوين الخطي.. كما تمثلت الوحدة والتنوع في التكوين الخطي بعلاقة كل جزء بالجزء الاخر التي ظهرت من خلالها كوحدة واحدة مترابطة فيما بينها ومرتبطة ايضاً بالمساحة الكلية للتكوين كتوزيع مساحي والهيئة الشكلية للكلمات والعناصر الزخرفية في الجزء العلوي من التكوين، وقد حاول الخطاط من خلال سيادة الشكل الزخرفي والايقوني للتكوين ان يحقق ترابطاً ما بين مضمون التكوين والهيئة الشكلية العامة له بحيث يظهر بهيئة عمارية دينية كالقباب والابواب او الاواوين التي قصد من خلالها ايصال فكرة الى المتلقي والتذكير بنعم الله التي لاتعد ولا تحصى، كما عزز هذه السيادة في الوحدة التي ترتكز في وسط التكوين كمركز بصري وادراكي وحركي للعناصر المنفذة داخل مساحة التكوين.
ومن غير الممكن للمتلقي ان يحيد ببصره عن النسبة والتناسب بين الحروف وامتداداتها العمودية فقد عززها الفنان وبشكل واضح للعيان من خلال العلاقة التناسبية بين اشكال الحروف ونهاياتها والتي حقق من خلالها جوانب جمالية ووظيفية في الوقت نفسه، حيث يظهر التناسب في التكوين متمثلاً في ارتفاع الحرف وامتداده محدداً مقاييس للجزء السفلي من التكوين.. فالتناسب ما بين الحروف والكلمات وبين المساحات التي تشغلها مبنية على اساس التناسب وتحقيق التوازن والجمالية لكل جزء من الاجزاء منفردة ومجتمعة من خلال علاقة الجزء بالجزء الاخر من حيث النوع والقياس والهيئة، وايضاً من خلال العلاقة التناسبية ما بين الحروف والتي حقق من خلالها الجانب الوظيفي للنص بتتابعه القرائي ووضوحه داخل مساحة التكوين، والمرتبط عادة بضبط المسافات الفاصلة ما بين الحروف والكلمات بما يتوائم ومتطلبات المساحة المنفذة عليها، محققاً بدوره الجانب الجمالي المتمثل بما اضيف الى البنية النصية من وحدات وعناصر زخرفية مكوناً الهيئة الشكلية العمارية للتكوين ككل والتي تربط بدورها بالعلاقة التناسبية للحروف والكلمات المتضافرة في نهايات الحروف العمودية بما يحقق توازناً كلياً ما بين الاجزاء والمساحة الكلية للتكوين .
سامر قحطان القيسي
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق