يعد موضوع الحركة الفكرية من المواضيع المهمة في التاريخ العربي الاسلامي، وذلك لأن عصر الامام علي بن موسى الرضا "عليه السلام" شهد حياة جيل التابعين والعلماء، وان هذا العصر يمثل اساس الحركة العلمية في العصور الاسلامية جميعاً، حيث تم فيه التدوين والتأليف وتصنيف العلوم والمعارف، اضافة الى انه شهد توسعا كبيراً للدولة الاسلامية، ونتج عن ذلك دخول شعوب جديدة ذات حضارات قديمة، كان لها اسهام في تطور العلوم آنذاك.
وكانت الحركة الفكرية بمختلف اتجاهاتها في عصر الامام علي بن موسى الرضا، امتدادا للحركة الفكرية التي بدأت منذ عهد النبي الاكرم محمد "صلى الله عليه واله" ونمت في عهد امير المؤمنين والائمة المعصومين "عليهم السلام"، واخذت العلوم تتمايز عن بعضها، ويصبح لكل منها مدارسها ورجالها.
وكانت المراكز الرئيسية للحركة العلمية حينئذ هي المساجد، ثم نشأت المكاتب لتحفيظ الصبيان القرآن الكريم، وتعليمهم مبادئ العلوم الاسلامية، ثم بدأت العلوم تمتاز بعضها عن بعض، وعرف رجال بالتفسير واخرون بالحديث، واختص غيرهم بالفقه. فضلا عن ظهور التيارات الفلسفية والفكرية وحركة الترجمة والنقل عن لغات الشعوب الاخرى[1] ، ومما لاشك فيه ان تلك الكتب المعّربة اغنت الفكر العربي الاسلامي وأسهمت في تطور العلوم في البلاد الاسلامية حيث استعان الكثير من طلاب العلم بدراستها[2].
وتميز الامام علي بن موسى الرضا من بين قادة الفكر الاسلامي بسعة علومه واحاطته بكافة فروع المعرفة الاسلامية حتى وصفه المأمون العباسي" اعلم انسان على وجه الارض" [3]، فضلاً عن ذلك وجد العلماء في احاديثه امتداداً لاحاديث جده النبي الاكرم محمد "صلى الله عليه واله".
وينبغي ان نشير هنا الى ان الامام علي بن موسى الرضا "عليه السلام"، استغل الصراع على السلطة بين الاخوين "الامين والمأمون" والذي استمر خمسة سنوات، مما نتج عن ذلك انفراج واسع نسبيّاً ، بدأ الإمام علي بن موسى الرضا ثورته الفكرية بين المسلمين بأساليب متعدّدة ومختلفة ، يتيح له تفعيل علوم اهل بيت النبوة "عليهم السلام"، وذلك من خلال الانفتاح العلمي والمعرفي على باقي الامم الاخرى، فضلاً عن استخدامه اسلوب المحاججة مع اصحاب المذاهب والاديان السماوية الاخرى[4] .
وفي المجال نفسه، اشتهرت في تلك المدة الحركات الضالة منها على سبيل المثال لا الحصر الزندقة والغلو المتسم بالكفر والخروج عن الاسلام ، بالمقابل نرى الامام علي بن موسى الرضا يحاجج ويرد على الزنادقة والغلاة ودحض آرائهم ، من اجل تثبيت قواعد التشريع واصول التوحيد[5] .
كانت للإمام علي بن موسى الرضا "عليه السلام" اسهامات عديدة في مختلف العلوم الاسلامية والانسانية التي سادت عصر الامام منها علم تفسير كتاب الله وبيان معانيه.
وعلم التفسير يراد به تفسير آيات القرآن الكريم وايضاح معانيه وبيان الناسخ والمنسوخ، والمطلق والمقيد، والعام والخاص، وغير ذلك وقد اتجه المفسرون الى تفسيره باتجاهين الاول هو التفسير بالمأثور والثاني هو التفسير بالرأي ، فالتفسير بالمأثور يعني تفسير ما أثر عن النبي الاعظم محمد والائمة من بيت النبوة "عليهم السلام اجمعين" وهذا ما سلكه الامام علي بن موسى الرضا وبيانه للناس [6].
وبعبارة اكثر صراحة ووضوحاً، أن اول مدرسة للتفسير بالمأثور اقيمت في الاسلام كانت في عهد الامام امير المؤمنين علي "عليه السلام" وابرز مفسر للقرآن الكريم فيها هو عبدالله بن عباس[7] ، واما التفسير بالرأي يمكن القول يراد به الاخذ بالاعتبارات العقلية الراجعة الى الاستحسان فهو مما اشتبه عليهم امره ولا يحزم الا في حكم اضطر الى الفتوى به[8] ، واذ روي عن الامام علي بن موسى الرضا الامام الرضا "عليه السلام": "لا تؤول كتاب الله برأيك فان الله يقول: ﴿وَمَا يَعلمُ تأويله الا اللهُ والرّاَسَخُونَ فيِ العِلمِ﴾[9].
ومن اجل ان نوضح قولنا، ان علم التفسير عند الامام علي بن موسى الرضا من بين العلوم التي برع فيها، ولعلم التفسير عنده منهج متميز، فقد كان يبين للامة التفسير الحق عن اهل بيت النبوة بقوله:" ما شهد به الكتاب والسنة فنحن القائلون به"[10] .
ومن المسائل التفسيرية التي لم يتمكن البعض من ايجاد التفسير الصحيح لها، قوله تعالى ﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ* وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ﴾[11] وكذلك في قوله تعالى ﴿ وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾[12]، قال الامام علي بن موسى الرضا :" من وصف الله تعالى بوجه كالوجوه فقد كفر، ولكن وجه الله تعالى انبياؤه ورسله وحججه صلوات الله عليهم هم الذين بهم يتوجه الى الله عزوجل والى دينه ومعرفته"[13].
وحول الموضوع نفسه، ان الحياة الفكرية ازدهرت في عصر الامام علي بن موسى الرضا في جميع انواع العلوم لاسيما علم الطب ، ويعد الامام علي بن موسى الرضا "عليه السلام" من طليعة علماء ذلك العصر وكانت رسالته في الطب من اروع البحوث الطبية حتى سميت بالرسالة الذهبية[14] .
وخلاصة القول، كان للإمام "عليه السلام" المام واسع بمختلف علوم عصره لكنه ركز اهتمامه على العلوم الفقهية والتفسير اكثر من غيرها لأنها تعد الاساس في فهم مبادئ القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة واقوال الائمة المعصومين من اسلافه الابرار "عليهم السلام".
جعفر رمضان
[1] ابي حنيفة احمد بن داود الدينوري، الاخبار الطوال ، تحقيق: عبدالمنعم عامر، مراجعة: جمال الدين الشيال،، (القاهرة: مطبعة دار احياء الكتب العربية، 1960م) ، ص401؛ هاشم الموسوي، سيرة الامام علي بن موسى الرضا، (طهران: مطبعة فجر الاسلام، 2003م)، ص40.
[2] باقر شريف القرشي ، حياة الامام علي بن موسى دراسة وتحليل ،( قم: منشورات سعيد بن جبير ، 1960م)، ج2، ص182.
[3] مصطفى عبدالرزاق، تمهيد لتاريخ الفلسفة الاسلامية، (القاهرة:1959م) ، ص47
[4] جعفر مرتضى العاملي ، الحياة السياسية للأمام الرضا دراسـة وتحليل، (قــم: مؤسسـة النشـر الاسلامي،1996م) ، ص313-314.
[5] ابي جعفر محمد بن علي القمي الصدوق ، عيون اخبار الرضا، (النجف: المطبعـة الحيدريـة، 1970م).، ج1، ص153-155
[6] ابي جعفر محمد بن الحسن الطوسي ، التبيان، (النجف: منشورات الامين،1955)، ج1، ص4.
[7] ابي جعفر محمد بن علي القمي الصدوق ، المصدر السابق ، ج1، ص126
[8] باقر شريف القرشي ، المصدر السابق ، ج2، ص185.
[9] ابي جعفر محمد بن علي القمي الصدوق ، المصدر السابق، ج1، ص153.
[10] ابو جعفر محمد بن يعقوب بن اسحاق الكليني، الكافي،(طهران: دار الكتب الاسلامية،1383) ، ج1، ص100.
[11] سورة الرحمن، الآية 26-27.
[12] سورة القصص، الآية 88.
[13] ابي جعفر محمد بن علي القمي الصدوق، المصدر السابق، ج1، ص 106.
[14] باقر شريف القرشي ، المصدر السابق، ج1، ص204.
اترك تعليق