ما إن بويع أمير المؤمنين بالخلافة حتى انفتحت جبهات ضد حكومته قادها النفعيون والإنتهازيون الذين فقدوا في ليلة وضحاها كل ما يملكون, فلم تكن الثورة التي انتهت بمقتل الخليفة الثالث تمثل اتجاهاً واحداً يمكن أن يُشار إليه، بل كانت ثورة عارمة مثّلت الرأي العام الإسلامي بكل توجّهاته، ورغم تعددّ تلك التوجّهات في الأغراض والمصالح والأهداف إلّا أنها دخلت تحت شعار (العودة إلى مبادئ الإسلام) وهو الشعار الذي انتصر به الثوار الذين طالبوا بالثورة.
فبعد أن أسفرت الثورة عن نتائجها المرجوّة التي كان يطمح إليها الثوار، وحققت غاياتها السياسية، كان على أمير المؤمنين (ع) أن يقوم بدوره الذي أملاه عليه دينه السليم وفطرته النقية وروحه النبيلة، وهو أن يقيم مجتمعاً اقتصادياً يسوده العدل الاجتماعي على أسس الإسلام الصحيح، ويعيد للأمة نهجها الرسالي لتحقيق المبادئ الإنسانية التي عمل بها رسول الله (ص) ودعا إليها.
كانت هذه الثورة بحاجة إلى إصلاح النظم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وإزالة كل المخلّفات التي تركتها السياسة السابقة، ومن هنا كان لا بد لهذه الثورة أن تأخذ منحى التحوّل الجذري في الجانب الروحي والفكري إضافة إلى الجوانب الاقتصادية والاجتماعية.
ثم هناك أمر في غاية الأهمية وهو تنقية الثورة من النفوس الشائبة، فهي وإن انطلقت على أساس تغيير الأوضاع الاجتماعية البائسة التي كانت تعيشها الأمة، فإن ذلك لا يعني انحصارها في إطار هذه الأوضاع، فقد تستّر وراء هذه الغاية النفعيون الذين حُرموا من عطائها، والانتهازيون الذين حُرموا من المناصب التي كانوا يطمحون إليها مرة أخرى، كما تستّر وراءها حتى من أغدقت عليهم السلطة السابقة بالأموال فلما رأوا أن الثورة قائمة لا محالة انضموا إليها في محاولة الانتفاع منها فقد كان الجميع يحاول الاستفادة من هذه الثورة.
أما الذين طالبوا بالعدالة الاجتماعية والتسوية في الحقوق والرجوع إلى مبادئ الإسلام فقد كانوا يعنون علياً منذ ارتفعت أصواتهم بالتغيير، وقد بُويع أمير المؤمنين (ع) بيعة بالإجماع لم يعرف لها التاريخ الإسلامي مثيلاً، وما أن تسلم الخلافة حتى أعلن ثورته الاجتماعية في تحقيق المساواة والعدل وإلغاء الفوارق الطبقية، فكانت ثورة شاملة أعاد فيها روح الإسلام ولا زالت جذوتها في النفوس والعقول.
ولكن لم يكن الأمر بهذه السهولة فقد ظهرت جبهة النفعيين والتيارات المعارضة على حقيقتها وبصورة علنية إضافة إلى جبهة الشام التي يمثلها معاوية، غير أن علي الذي مثّل الإسلام بأروع صوره حتى أصبح رمزاً له لم تكن تزيده كثرة العقبات وتعددّ الجبهات المعارضة سوى عزماً وإصراراً على التغيير الجذري، فسار على هدفه حتى النهاية دون تردد وتراجع وهو على يقينه من الحق الذي هو عليه.
لقد كان لهذا التحوّل الجذري السياسي الذي أحدثته هذه الثورة أثراً كبيراً في التحوّل الاجتماعي والاقتصادي لدى هؤلاء الذين تعوّدوا على حياة الترف والقصور والمناصب على حساب الفقراء والمعدمين من المسلمين مما دفعهم إلى العصيان والعداوة وشن الحرب على أمير المؤمنين (ع) بدعوى هم يعرفون بطلانها قبل غيرهم، وهي مطالبتهم بدم الخليفة الثالث لأن منهم من اشترك بدمه وحرّض الناس على قتله، وهم يعلمون قبل غيرهم إن علياً، (ع) كان أبرأ الناس من دم الخليفة المقتول.
لقد جرت على أثر هذه الدعوى من الدماء ما لم تجرِ بحجمها في حروب الإسلام مع الكفر !! وفي الحقيقة إن الذين حاربوا أمير المؤمنين على هذه الدعوى لم تكن حربهم حميةً للخليفة المقتول وغضباً لمقتله, وإنما كانت حربهم لأسباب مادية بحتة فقد كان منهم المنتفعون من السلطة السابقة وقد اشتركوا في الثورة خوفاً من أن يطالهم غضب الثوار، هذا أولاً وثانياً انهم اشتركوا في الثورة بعد أن بلغت الثورة مداها وألهبت الثوار غضبهم ولم يطيقوا كظم آلامهم فدعتهم أنفسهم التي جبلت على النفعية إلى الانتفاع من محصّلة هذه الثورة.
هذه هي الجبهة الأولى التي اتّضحت أغراضها من شن الحرب على دولة أمير المؤمنين (ع)، أما الجبهة الثانية فهم الذين وصفهم أمير المؤمنين (ع) بقوله: (ثم قام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضم الإبل نبتة الربيع) أمثال الوليد بن عقبة ومروان بن الحكم وسعيد بن العاص وأشباههم.
إن أول ما فعله أمير المؤمنين حال مبايعته بالخلافة هو إحداث ثورة شاملة ضد الأوضاع المزرية، وإجراء تغيير جذري لنظام قائم على الإثرة والطبقية والتفرقة في العطاء، فأعلن عزل معاوية، عن الشام، واسترجاع القطائع والأموال وإزالة التمايز الطبقي الذي رفع من لا يستحق وخفض من لا يستحق، فدعا الى استرداد الحقوق إلى أصحابها بقوله:
(والذي بعث محمداً بالحق أنه لا بد أن يعود أسفلكم أعلاكم, وأعلاكم أسفلكم, وليسبقن سابقون كانوا قصروا, وليقصرن سباقون كانوا سبقوا).
أما في ميدان العطاء فقد أحدث تغييراً اقتصادياً آخر، تمثل في مبدأ المساواة في العطاء بصرف النظر عن الانتماء القبلي والعرقي, وهو المبدأ الذي كان معمولاً به في عهد رسول الله (ص)، لذا يمكن القول: إن إقرار الإمام (ع) مبدأ المساواة في العطاء، يُعد انقلاباً اجتماعياً بكل ما تعنيه هذه الكلمة من دلالات، وهو الذي عاد بالمجتمع والأمة إلى النظام الأصيل للإسلام والنهج القويم للنبي (ص) الذي ألغى الفوارق الطبقية، وهذه السياسة كانت كفيلة بإنهاء جوع الفقير وسد حاجة المحروم الذي سببه احتكار الأغنياء للثروة، فقد أعلن (ع):
(إن الله فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء فما جاع فقير إلا بما مُتّع به غني).
كما كان له موقف حاسم وحازم من الأملاك والأموال التي اقتطعت بغير حق فأعلن (ع) ردها إلى ملكية الدولة وحوزة بيت المال: (فإن الحق القديم لا يبطله شيء ولو وجدته قد تزوج به النساء وفرق في البلدان لرددته إلى حاله، فإن في العدل سعة ومن ضاق عنه العدل فالجور عليه أضيق).
كان من الطبيعي أن هذا المبدأ لا يروق لهؤلاء النفعيين والانتهازيين الذين كان بيت المال تحت أيديهم، فتكلم عنهم الوليد وطلب من أمير المؤمنين من جملة كلامه أن يضع عنهم ما أصابوه من الأموال الطائلة من بيت المال فقال (ع) لهم: (ليس لي أن أضع حق الله عنكم ولا عن غيركم). ثم أخذ مسحاته ومكتله ليعمل في حفر بئر وهو يردد الآية الكريمة: (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوّاً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين).
وفي اليوم الثاني فتح (ع) بيت المال وأعطى لكل من حضر ــ دون استثناء ــ ثلاثة دنانير وأخذ هو ثلاثة دنانير ايضاً، فقال سهل بن حنيف: يا أمير المؤمنين.. هذا غلامي بالأمس وقد أعتقته اليوم فقال (ع):
ــ نعطيه كما نعطيك !
كان (ع) يعرف أن هذه المبادئ السياسية في إزالة الفوارق الاجتماعية، ستُجابه بمعارضة الأغنياء الذين اتخذوا انتماءاتهم القبلية وقرابتهم سبيلاً لاحتكار الثروات والأموال، فبدأت محاولاتهم لاستعادة مكانتهم، ومن ألف أمراً شقّ عليه فراقه، فشقّ عليهم ذلك وأنكروه، حتى صاحوا في مجتمع المدينة معلنين بداية شرارة التمرّد والعصيان: هذا جزاؤنا من علي..! قمنا له في أمره، فلما بلغ منا ما أراد جعل فوقنا من كنا فوقه..!
لقد أوضحوا بقولهم هذا عن كوامنهم وأطماعهم، وبلغت بهم الأطماع أن صاروا يتحدثون بالأباطيل، فأمير المؤمنين لم يُكره أحداً على بيعته، كما لم يُكرِه ممن لم يبايعوه لكن الأموال التي كان يجنيها هؤلاء والتي فقدوها الآن أفقدتهم صوابهم وباعوا لأجلها آخرتهم بدنياهم، فنسوا أو تناسوا سياسة رسول الله (ص) في توزيع الأموال التي أعادها أمير المؤمنين (ع) بعد أكثر من عشرين سنة, واستفحل التمرّد ضد سياسة أمير المؤمنين إلى الحد الذي بلغ بهم إلى نقض البيعة وإعلان الحرب تحت ستار الطلب بدم الخليفة.
أما علي، فلم يكن هؤلاء وغيرهم من الذين أشرِب في قلوبهم حب المال وكثرة العطاء يثنونه عن عزمه في تطبيق شريعة الإسلام الحقّة وانتهاج نهج رسول الله (ص) في المساواة فأعلن موقفه أمام كل المعارضين:
(أتأمرونني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه، والله لا آمر به لو كان المال لي لسويت بينهم فكيف وأن المال مال الله). ولكن جبهة المعارضة اتسعت، حتى وصل الأمر إلى أن قال الوليد بن عقبة بن أبي معيط وهو يقصد قيام دولة أمير المؤمنين (ع) ويتهم عليا بقتل الخليفة وانتزاع الخلافة منه:
بني هاشمٍ ردّوا سلاحَ ابن أختكم *** ولا تنهبوه لا تحلّ مــــــــــــــــــناهبُه
بني هاشم كــــــيف الهـوادةُ بيننا *** وعند عــــــــــــــــــليٍّ درعُه ونجائبُه
بني هاشمٍ كيف التـــــــودُّدُ منكم *** وبزّ ابن أروى فيكمُ وحـــــــــــــرائبُه
بني هاشمٍ إلا تردّوا فإننـــــــــــا *** سواءٌ عــــــــــــــــــــلينا قاتلاه وسالبُه
بني هاشمٍ إنا ومــــــا كان منكمُ *** كصدعِ الصفا لا يشعبُ الصدعَ شاعبُه
قتلتم أخي كيما تكونــــوا مكانه *** كمـــــــــا غدرت يوما بكسرى مرازبه
فأجابه عبد الله بن أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب بأبيات طويلة من جملتها:
فلا تسألونا سيــــــــــــــفَكم إن سيفَكم *** أضِيعَ وألقــــــــــاهُ لدى الروعِ صاحبُه
سلوا أهلَ مصرٍ عن سلاحِ ابنِ أختِنا *** فهمْ سلبـــــــــــــــــــــوهُ سيفه وحرائبه
وكان وليُّ العـــــــــــــــهدِ بعد محمدٍ *** عليٌّ وفي كلِّ المواطـــــــــــنِ صاحبُه
عليٌّ وليُّ اللهِ أظـــــــــــــــــــهرَ دينَه *** وأنتَ مع الأشقيــــــــــــن فيما تحاربُه
وأنتَ امرؤٌ من أهلِ صيـــفورَ مارحٌ *** فما لك فينا من حميــــــــــــــــمٍ تعاتبُه
وقد أنزلَ الرحمـــــــــــــنُ إنكَ فاسقٌ *** فما لكَ في الإســــــــــلام سهمٌ تطالبُه
و شبّهته كسرى وقد كــــــــــان مثله *** شبيهاً بكســــــــــــرى هديه وضرائبُه
فكيف يشعب هذا الصدع الكبير الذي جرت عليه دماء الآلاف, وأثيرت بسببه الفتن ؟ وقد حمل النعمان بن بشير قميص الخليفة وأصابع زوجته نائلة بنت الفرافصة ليثير النعرات الجاهلية والفرقة بين المسلمين وليتخذها معاوية ذريعة لدى أهل الشام لحرب أمير المؤمنين ؟
وبقيت آثار هذا الحقد على أمير المؤمنين والعداء المستفحل إلى يوم الطف وظهر جلياً عند عمرو بن سعيد بن العاص الأشدق الذي فرح بمقتل الحسين بعد أن ضجّت المدينة كلها بالبكاء على مقتله, ولمّا أعلم بقتل الحسين وكان والياً على المدينة من قبل يزيد فرح واهتزّ بشراً وشماتة, وأمر المنادي أن يعلن بقتله في أزقّة المدينة، فلم يسمع ذلك اليوم واعية مثل واعية نساء بني هاشم في دورهن على سيّد شباب أهل الجنّة واتّصلت الصيحة بدار الأشدق فضحك وتمثّل بقول عمرو بن معد يكرب:
عجَّتْ نساءُ بني زيادٍ عجَّةً *** كعجيجِ نسوتِنا غداةَ الأرنبِ
ثمّ قال: واعية بواعية عثمان والتفت إلى قبر رسول الله (ص) وقال: يوم بيوم بدر......)
وكما حارب علي (ع) كفار قريش لإرساء دعائم الاسلام، فقد حمل السيف للدفاع عن مبادئ الإسلام وتطبيق شريعته، فتجسد في سياسته روح الإسلام التي تنكّر لها المنافقون فنقضوا البيعة وفارقوا الطاعة وشقّوا الصفوف بعصا الخلاف، لكن علياً لم يثنه عن موقفه المبدئي شن الحروب عليه وبقي متمسكاً به.
(مالي ولقريش والله لقد قاتلتهم كافرين ولأقاتلنهم مفتونين وإني لصاحبهم بالأمس كما أنا صاحبهم اليوم).
سياسة علي
وتتسع رقعة المعارضة في الأمصار وتتسلل فلول المنهزمين من حرب الجمل مع غيرهم من الأغنياء من بقية الأمصار إلى الشام لينضموا إلى جبهة معاوية, ولكن علياً القائل: (لا تستوحشوا طريق الحق لقلة سالكيه) لم يكن ليضيره انضمام هؤلاء إلى معسكر الباطل, ورغم تأزّم الظروف فإنه كان مطمئناً وهو يحارب حرب الحق وينتصر للعدالة بالعدل فيكتب إلى عامله على المدينة سهل بن حنيف:
(أما بعد فقد بلغني أن رجالاً ممن قبلك يتسللّون إلى معاوية, فلا تأسف على ما يفوتك من عددهم, ويذهب عنك من مددهم, فإنما هم أهل دنيا هم مقبلون عليها, قد عرفوا العدل ورأوه, وعلموا أن الناس عندنا في الحق أسوة, فهربوا إلى الإثرة فبعداً لهم وسحقاً).
وعندما بلغه أن عامله على أردشير مصقلة بن هبيرة الشيباني يفضّل أهله على غيرهم في العطاء كتب إليه:
(بلغني عنك أمراً إن كنت فعلته فقد أسخطت إلهك, وأغضبت إمامك, إن حق من قبلك وقبلنا من المسلمين في قسمة هذا الفيء سواء).
كما يكتب إلى الأسود بن قطيبة صاحب جند حلوان:
(أما بعد فإن الوالي إذا اختلف هواه منعه ذلك كثيراً من العدل, فليكن أمر الناس عندك في الحق سواء, فإنه ليس في الجور عوض عن العدل).
ويوصي الأشتر في عهده التاريخي الخالد عندما ولاه مصر من ضمن وصاياه: (وإياك والإستئثار بما الناس فيه أسوة فعما قليل تنكشف عنك أغطية الأمور وينتصف منك للمظلوم).
ويأتي إليه أخوه عقيل بن أبي طالب وقد افتقر أشد الفقر, وتغيّرت وجوه أولاده من الجوع ليطلب من أخيه صاعاً من القمح, فيحمي له حديده ويضعها على يده كدرس لغيره ممن يفكر أن يتخذ من قرابته منه وسيلة لكسب المال.
ويأتي إليه الأشعث بن قيس بهدية، هي في الحقيقة رشوة أراد منها تحقيق غرض دنيوي كان في نفسية الأشعث الإنتهازية فيقول له: هبلتك الهبول..! أعن دين الله أتيتني لتخدعني ؟ أمختبط أنت أم ذو جنّة ؟ أم تهجر ؟ والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلته، وإن دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها. ما لعلي ولنعيم يُفنى ولذة لا تبقى نعوذ بالله من سبات العقل وقبح الزلل وبه نستعين).
ويأتي إليه عبد الله بن زمعة وهو من شيعته يطلب منه مالاً فقال له:
(إن هذا المال ليس لي ولا لك، وإنما هو فـيء للمسلمين وجلب أسيافهم، فإن شركتهم في حربهم كان لك مثل حظهم, وإلا فجناة أيديهم لا تكون لغير أفواههم).
ويقول من خطبة له:
(من استهان بالأمانة, ورتع في الخيانة, ولم ينزّه نفسه ودينه عنها, فقد أحل بنفسه الذل والخزي في الدنيا, وهو في الآخرة أذل وأخزى, وإن أعظم الخيانة خيانة الأمة, وأفظع الغش غش الأئمة).
ويخطب في الناس فيقول من بعض خطبته: (ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز).
ويدخل (ع) بيت المال في البصرة بعد انتصاره في حرب الجمل، فينظر إلى كثرة ما فيه من الذهب والأموال والنفائس فيقول:
(غري غيري) مراراً..
وعند خروجه من البصرة حاطب أهلها:
(ما تنقمون مني ؟ ــ وأشار إلى قميصه ــ والله إنه من غزل أهلي ... ما تنقمون مني يا أهل البصرة ؟؟ ــ وأشار إلى صرة في يده فيها نفقته ـــ والله ما هي إلا من غلتي في المدينة وإن خرجت عنكم بأكثر مما ترون فأنا عند الله من الخائنين).
ومن خطبة له (ع):
(ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه, ومن طعمه بقرصيه، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك, ولكن أعينوني بورع واجتهاد, وعفة وسداد، فو الله ما كنزت من دنياكم تبراً, ولا ادخرت من غنائمها وفراً, ولا أعددت لبالي ثوبي طمراً, ولا حزت من أرضها شبراً, ولا أخذت منه إلا كقوت أتان دبرة, ولهي في عيني أوهى من عفصة مقرة).
(هيهات أن يغلبني هواي ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة, ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص, ولا عهد له بالشبع, أو أبيت مبطاناً وحولي بطون غرثى, وأكباد حرى, أو أكون كما قال القائل:
وحسبكَ داءً أن تبيتَ ببطنةٍ *** وحولكَ أكبادٌ تحنُّ إلى القدِّ
أأقنع من نفسي بأن يقال هذا أمير المؤمنين، ولا أشاركهم في مكاره الدهر, أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش. فما خلقت ليشغلني أكل الطيبات كالبهيمة المربوطة همها علفها... )
(إليك عني يا دنيا, فحبلك على غاربك, قد انسللت من مخالبك, وأفلت من حبائلك).
(اعزبي عني .. فوا الله لا أذل فتستذلّيني ولا أسلس لك فتقوديني).
هذه هي سياسة الحق والعدل والنبل والفضيلة والقيم العليا .. سياسة علي بن أبي طالب (ع) وهذه هي نفحة من نفحات علي, وقبس من هديه, وهذا النهج العلوي هو الذي سعى الإمام الحسين إلى تطبيقه في ثورته.
محمد طاهر الصفار
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق