علي .. روح الإسلام

إنه الإمام الذي تفخر باسمه الأئمة، والإنسان الذي تخشع لذكره الإنسانية, ولم يزل ولا يزال منذ أربعة عشر قرناً ملتقى النفوس ومهوى الأفئدة، فهو كالبحر من أين تأتيه ترد, ولا يزداد مع تعاقب الأزمان والأجيال إلا جلالاً وجمالاً، وقد عكفت على ساحله الأزمان والأجيال مبهورة بهذا الجمال والجلال، ويقيّض للمبحر في أثباجه أن يلتقط الدر من فضائله ومعجزاته، ولكنه كلما غاص في هذا الكمال تضاءل فكره أمام آيات هذه العظمة.

إنه علي بن أبي طالب الذي ولد في داخل الكعبة فكان لولادته إيذاناً بعهد جديد لها من المنزلة والعبادة، ونقطة تحوّل مضيئة في تاريخها، أما إسلامه وتصنيفه مع غيره بتسلسل فهذا كلام لا نحتاج إليه، فلسنا بحاجة إلى الروايات في ذلك وإن أكدت كلها على أنه أول من أسلم, فمن الإجحاف بحقه أن يُصنّف, وهل كان علي كافراً حتى يسلم ؟ ـ حاشا لله ـ أم هل سجد لصنم في حياته حتى يدونوا تاريخ سجوده لله ؟  لقد ولد علي مسلماً، وكرّم الله وجهه عن السجود لغيره، وأشرق وجهه منذ ولادته على نور النبوة، واحتضنته كف الرسالة، ورُبّي في بيت الوحي والتنزيل، وتنقّل في الأصلاب الساجدة والأرحام المطهرة، فكان إسلاماً مجسّداَ، وقرآناَ ناطقاَ، ووريثاَ للنبوة، وأباً للإمامة، وإن إسلامه كان مع الإسلام ومع محمد.

علي .. الذي انتصر الإسلام بسيفه في بدر بقتله أبطال مشركي قريش، ولولاه لما قامت للإسلام قائمة, ولما تجاوز ذكره يوم أحد، في ذلك اليوم الحرج على الإسلام والنبي، لم يبق مع رسول الله سوى عليٌ فقط ـ نعم عليٌ فقط ـ عليٌ الذي ملأت الجراح جسمه وهو غير آبه بها، وانهزم المسلمون فلّما رأى بعض المسلمين وهم على الجبل علياً وهو يقاتل بشجاعة فائقة عاد جماعة منهم ليقاتلوا مع علي، ويدافعوا عن رسول الله، وكانت شجاعة علي وثباته وصلابته هي التي بثت فيهم هذه الروح، وحفزّتهم على الدفاع عن رسول الله

علي .. الذي مثّل الإيمان كله بأروع وأكمل صوره في غزوة الخندق وهو يتصدّى للكفر كله المتمثل بعمرو بن عبد ود العامري، كما قال رسول الله (برز الإيمان كله إلى الكفر كله)، فأرسى علي بضربته لعمرو بن عبد ود دعائم الإسلام ، وهد دعائم الشرك والكفر حتى قيل: (لقد ضرب عليٌ يوم الخندق ضربة ما كان في الإسلام أعز منها) (1)

علي .. الذي فتح حصن خيبر وقتل بطل أبطال اليهود، وذلك بعد أن استعصى فتح الحصن على غيره، حتى غضب رسول الله وقال: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، كراراً غير فرار يفتح الله على يديه). فتطاول الناس لها وكل يُمنّي نفسه، ولكن هل كان فيهم من هو كفؤ لها غير علي ؟ ولو أعطاها رسول الله لكل واحد منهم لرجع خائباً، فأعطاها لعلي ..,

ومضى عليٌ إلى خيبر، فخرج إليه الحارث أخو مرحب وكان معروفاً بالشجاعة ولا يقف فارس في وجهه، فقتله علي، ثم خرج مرحب مع جماعة من فرسان اليهود فألحق عليٌ مرحباً بأخيه، فهرب اليهود إلى الحصن وأغلقوا الباب، فقلع علي باب الحصن وجعله جسراً للمسلمين فعبروا عليه.

علي .. الذي لم يتخلّف عن معركة خاضها رسول الله، وفي كل المعارك التي خاضها كان بطلها الأوحد وفارسها الأمجد، ولم يترك رسول الله في كل حروبه سوى في تبوك بأمر رسول الله، حيث خلّفه على المدينة قائلاً له (ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي).

علي .. الوحيد الذي لم يختلف فيه كل الرواة في أنه بقي يقاتل مع رسول الله في حنين مع عشرة من المسلمين، حينما زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر، وقد قتل في ذلك اليوم حامل لواء المشركين.

أما التسعة الآخرون فكانوا في مواضع التبديل والتغيير دائماً، وكل مؤرخ يثبت هذا ويحذف ذاك حسب هواه ونزعاته، ولكن هل يجرؤ أحدٌ منهم على ذكر عشرة من المسلمين ثبتوا مع النبي يوم حنين حينما هرب جميع المسلمين بدون أن يذكر فيهم علي ؟

عليٌ .. الذي أوصى له رسول الله يوم الغدير بقوله: (من كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله), قام بتغسيل النبي ودفنه وكان آخر الناس عهداً به، كما كان أكثر الناس ملازمة له في السلم والحرب.

عليٌ .. حمل من بعد الرسول أعباء النبوة ومسؤولية الدفاع عن الإسلام كما حمل أعباء تثبيته، فقاتل على التأويل القاسطين والمارقين والناكثين كما قاتل كفار قريش على التنزيل.

عليٌ .. في القتال البطل الصنديد، والفارس المغوار، وأسد الله وأسد رسوله الذي لم يقف بوجهه أحد إلا قتله حتى قيل: إن الفرار عار في الحرب إلا من سيف علي (2).

كان العادل النبيل حتى مع أعدائه، وبلغ من النبل والنخوة الغاية المثلى والقدوة العليا، فلم يجعل لنصره في الحرب مأرباً لغنيمة أو لتشفٍ أو لاقتصاصٍ من عدو، بل كان الشرف يقطر من جنباته، فما إن يتجلّى النصر له على عدوه حتى يصيح بأصحابه: (لا يسلبن قتيل، ولا يتبع مدبر، ولا يجهز على جريح، ولا يحل متاع).

عليٌ.. يظفر بالماء يوم صفين بعد أن استولى عليه معاوية فمنع جيش علي منه، ولكن علياً عندما ظفر بالماء قال لأصحابه: (خذوا من الماء حاجتكم وارجعوا إلى عسكركم، وخلوا عنهم فإن الله قد نصركم بظلمهم وبغيهم). وتلوح له الفرصة بقتل ألد أعدائه وأعداء الإسلام عمرو بن العاص، لكن ابن النابغة يرفع ثوبه ليُبدي عورته !!! فيشيح علي بوجهه عنه.

علي .. البطل الكمي يقف  بين يدي ربه فتأخذه الرعدة، لا خوفاً من نار, ولا طمعاً في الجنة.. ولكن كما يقول: (إلهي ما عبدتك خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنتك، ولكن رأيتك أهلا للعبادة فعبدتك), إنها العبادة الخالصة ومثال عبادة المسلم المؤمن حق العبادة.

علي .. يفتح بيت المال فيتلألأ أمامه الذهب والفضة والأموال فيقول: (يا صفراء غري غيري)، ثم ينادي قنبر ليجمع المسلمين فيوزّعها عليهم بقسمة رسول الله، ثم يعطي قنبراً ثلاثة دنانير ويأخذ هو ثلاثة دنانير.., ويكنس بيت المال ثم يبكي ويقول: (يا دنيا إليك عني، أبي تعرضت ؟ أم إلي تشوقت ؟ لا حان حينك، هيهات غرّي غيري, لا حاجة لي فيك، قد طلقتك ثلاثاً لا رجعة فيها، فعيشك قصير، وخطرك يسير، وأملك حقير، آه آه من قلة الزاد، وطول الطريق، وبعد السفر، وعظيم المورد).

علي .. الحارس الأمين على الأمة بعد نبيها, وواضع أسس العدل فيها, يضع وثيقة كاملة جمعت كل قوانين الدولة ومقوماتها المستمدة من روح الإسلام دين الرحمة والإنسانية, يقول لأحد ولاته: (وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم, ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان، إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق).

ويمضي علي في وصيته: (وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق، وأعمقها في العدل، وأجمعها لرضى الرعية .... وأكثر مدارسة العلماء، والحكماء.. في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك، وإقامة ما استقام به الناس قبلك...  إن أفضل قُرّة عين الولاة استقامة العدل في البلاد، وظهور مودة الرعية، وإنه لا تظهر مودتهم إلا بسلامة صدورهم).

(علي .. مع الحق والحق مع علي يدور معه حيث دار) هكذا يوصي رسول الله أصحابه كما يخص عمار بوصية أخرى: (يا عمار لو سلك الناس كلهم وادياً, وسلك علي وادياً غيره, فاسلك الوادي الذي سلك علي) فعليٌ لم ينطق بغير الحق، ولم يعمل بغيره.

علي .. بهذه العظمة التي لم يجد لها التاريخ مثيلاً, هو مبدع أروع دستور خطته يد إنسان لهذه الأمة, وهو نهج البلاغة الذي احتوى كلاماً فوق كلام المخلوق ودون كلام الخالق، وهو القرآن الثاني، وقد امتاز هذا السفر الخالد بشموليته حيث شمل جميع القيم والمفاهيم الإنسانية والاجتماعية والفكرية, فهو يمثل الإسلام بنقائه وصفائه, ويحفظ للإنسانية حقوقها وكرامتها ويبلغ بها مبالغ الكمال.

لقد كان علي بن أبي طالب: (عظيم العظماء, نسخة مفردة لم يرَ له الشرق ولا الغرب صورة طبق الأصل, لا قديماً, ولا حديثاً) كما يقول الكاتب شبلي شميل...     

محمد طاهر الصفار   

الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة

....................................................................................

1 ـــ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 13 ص 284

2 ــ شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد / ج 6 ص 317 . 

المرفقات

: محمد طاهر الصفار