من أفذاذ اللغة وأعلام النحو الذين هيأهم الله لحفظ علوم العربية وآدابها وقواعدها من الضياع لصلتها بكتابه العزيز وأهميتها في الأمة وارتباطها بتاريخها الطويل.
كان أبوه من العلماء الأتقياء وكان (شيخاً صالحاً سديداً), ــ كما وصفه السمعاني في الأنساب ــ وقد جهد على تربية ابنه وتعليمه ليكون في عداد العلماء فكان يحرص على أن يراه وله شأن بينهم, ولعله حين اختار اسمه ــ موهوب ــ كان يتيّمن بهذا الاسم ليطابق شخصيته فوجد في ابنه ما كان يرجوه منه فعقد عليه آماله في أن تشخص قامة هذا الولد بين أفراد الأسرة, ويبرز اسمه في سماء العلم والأدب فكان لهذه العناية أثرها الواضح والكبير عليه في حياته.
ورغم أن الأب غادر الحياة ولم يكمل ابنه العقد الثاني من عمره إلا أن العزيمة والاصرار والحرص على طلب العلم التي زرعها في نفس ابنه كانت من العوامل التي تسلق بها الابن سلم المجد فتدرّج في طلب العلم بعد أبيه ودرس على يد كبار علماء عصره حتى استطاع أن يحفر اسمه في ذاكرة الأجيال.
ولد أبو منصور موهوب بن أبي طاهر أحمد بن محمد بن الخضر بن الحسين الجواليقي البغدادي في بغداد سنة (466هـ/1073م) وجاءت نسبة (الجواليقي) من عمل الجوالق أو بيعها. والجواليق جمع جوالق وهو الوعاء وهو اسم فارسي معرب لأن الجيم والقاف لا يجتمعان في لفظة عربية إطلاقا.
مات والده سنة (481هـ) وكان عمره (16) سنة. فواصل مسيرته في طلب العلم ودرس على يد أعلام عصره في اللغة والأدب.
برع الجواليقي في اللغة حتى أصبح اسمه في مصاف كبار علمائها ويدلنا على شهرته في اللغة ومكانته وبروز اسمه في بغداد قول الشاعر ابن الصيفي حيث يقول:
كل الذنوب ببلدتي مغفورة *** إلا اللذيــن تعاظما أن يغفرا
كون الجـواليقي فيها ملقياً *** أدباً وكــــون المغربيّ معبرا
فأسيرُ لكنته تملّ فصـاحة *** وغفول فطنته تعبّر عن كرى
ولم تقتصر دراسة الجواليقي على الأدب وعلوم اللغة, بل درس الحساب والهندسة الفلك كما يدلنا على ذلك رواية ابنه أبي محمد إسماعيل الذي كان من تلامذته أيضاً فروى ما نصه:
(كنت في حلقة والدي يوم الجمعة بعد الصلاة بجامع القصر والناس يقرؤون عليه فوقف عليه شاب وقال: يا سيدي, قد سمعت بيتين من الشعر ولم افهم معناهما وأريد أن تعرفني معناهما فقال: قل. فأنشده:
وصلُ الحبيــــبِ جنانُ الخلدِ أسكنُها *** وهجــــرُه النارُ يصليني به النارا
فالشمسُ بالقوسِ أمستْ وهي نازلةٌ *** إن لم يزرني, وبالجوزاء إن زارا
فقال له والدي: يا بُني هذا شيء من علم النجوم وسيرها لا من صنعة أهل الأدب.
فانصرف الشاب من غير حصول فائدة, واستحيا والدي من أن يُسأل ما ليس عنده منه علم وقام وآلى على نفسه أن لا يجلس في حلقته حتى ينظر في علم النجوم ويعرف تسيير الشمس والقمر فنظر في ذلك وحصل معرفته ثم جلس.
وتدلنا هذه الرواية على أن ابن الجواليقي كان حريصاً على طلب مختلف العلوم والمسائل حتى يقف عند أجوبتها ومعنى هذين البيتين هو:
أن الشمس إذا كانت في آخر القوس كان الليل في غاية الطول لأنه يكون آخر فصل الخريف، وإذا كانت في آخر الجوزاء كان الليل في غاية القصر لأنه آخر فصل الربيع
كما اهتم الجواليقي بعلمي الفقه والحديث وعد من حفاظه, وقد ترجم له الذهبي في (تذكرة الحفاظ). ورغم دراسته لهذه العلوم إلا أن توجهه واهتمامه انصبا إلى اللغة.
ولتوسّعه واطلاعه في اللغة فقد أثارت آراؤه اهتمام اللغويين والنحاة والمؤرخين ومن ذلك قول ابن الانباري في كتابه نزهة الألباء في طبقات الأدباء:
كان ــ أي ابن الجواليقي ــ يختار في بعض مسائل النحو مذاهب غريبة وكان يذهب إلى أن الاسم بعد لولا يرتفع بها على ما يذهب إليه الكوفيون وكان يذهب إلى أن الألف واللام في نعم الرجل، للعهد على خلاف ما ذهب إليه الجماعة من أنها للجنس لا للعهد.
وعقب مصطفى صادق الرافعي على رأي الجواليقي بالقول: إنها دليل على استقلال الفكر وسعته ومحاولته أن يكون في الطبقة العليا من أئمة العربية.
وكان ابن الأنباري يحضر حلقات دروس الجواليقي ويروي آراءه في اللغة عنه ومن ذلك قوله أنه كان الحريري القاسم بن علي صاحب المقامات المشهورة يقرأ مقاماته للجواليقي فلما بلغ في المقامة (٢١) إلى قوله:
وليحشرن أذل من فقع الفلا *** ويحاسبن على النقيصة والشغا
قال له الجواليقي: ما الشغا فقال الحريري: الزيادة. فقال له الجواليقي: إنما الشغا اختلاف منابت الأسنان ولا معنى له ها هنا.
ما قاله العلماء فيه
قال فيه ابن خلكان في (وفيات الأعيان): كان إماماً في فنون الأدب وهو من مفاخر بغداد، قرأ الأدب على الخطيب أبي زكريا التبريزي يحيى بن علي ولازمه وتلمذ له حتى برع في فنه، وهو متديّن ثقة غزير الفضل وافر العقل مليح الخط كثير الضبط, صنَّف التصانيف المفيدة وانتشرت منه مثل: (شرح أدب الكاتب) و(المعرّب)، ولم يعمل في جنسه أكثر منه، و(تتمة درة الغواص) للحريري, و(سماء التكملة فيما يلحن فيه العامة) إلى غير ذلك، وكان يختار في مسائل النحو مذاهب غريبة، وكان في اللغة أمثل منه في النحو، وخطه مرغوب فيه يتنافس الناس في تحصيله والمغالاة فيه، وسمع ابن الجواليقي من شيوخ زمانه وأكثر، وأخذ الناس عنه علماً جماً، وينسب إليه من الشعر شيء قليل.
وقال فيه ابن الانباري في (نزهة الألباء في طبقات الأدباء): كان من كبار أهل اللغة، وكان ثقة صدوقاً، وأخذ عن الشيخ أبي زكريا يحيى الخطيب التبريزي، وألف كتباً حسنة وقرأت عليه، وكان منتفعاً به لديانته وحسن سيرته.
وقال فيه السمعاني في (الأنساب): كان من مفاخر بغداد, بل العراق, وكان متديّناً ثقة غزير الفضل وافر العقل مليح الخط كثير الضبط وبرع في الفقه وصنف التصانيف وانتشر ذكره وشاع في الآفاق وقرأ عليه أكثر فضلاء بغداد، سمعت منه الكثير وقرأت عليه الكتب مثل غريب الحديث لأبي عبد وأمالي الصولي وغيرها من الأخبار المشهورة.
وقال فيه أيضا: كان بارعاً في الفقه والحديث
وقال فيه السيد صديق حسن خان في (التاج المكلل): شيخ أهل اللغة في عصره، سمع الحديث الكثير وقرأ الأدب ودرس.
وقال فيه ابن الجوزي: كان غزير العقل طويل الصمت لا يقول الشيء الا بعد التحقيق والفكر الطويل وكان كثيراً ما يقول: لا أدري.
تشيعه
قال عنه السيوطي في (بغية الوعاة): كان إماماً في فنون الأدب ثقة ديّناً غزير الفضل وافر العقل مليح الخطّ والضبط وكان في اللغة أمثل منه في النحو وكان متواضعاً طويل الصمت لا يقول الشيء الا بعد التحقيق يكثر من قول لا أدري.
ثم ينسبه السيوطي إلى أهل السنة فقال ما نصه: (وهو من أهل السنة) ! هكذا وبدون إعطاء أي دليل يثبت قوله في حين أكدت تشيّعه المصادر المعتبرة بالدليل: يقول عبد الله الأصفهاني في (رياض العلماء وحياض الفضلاء):
ابن الجواليقي من الإمامية وإليه أسند الشهيد الثاني ــ الشيخ زين الدين بن علي الجباعي العاملي ــ رحمه الله في إجازته للحسين بن عبد الصمد والد البهائي وإليه ينسب بعض نسخ دعاء السمات, وهو ـ أي ابن الجواليقي الإمامي ـ الشيخ موهوب بن أحمد بن محمد بن الخضر الجواليقي.
وعقب السيد الأمين في (أعيان الشيعة ج ٤٩ ص ٥٢) على قول الأصفهاني بالقول: المراد بالجواليقي هو هذا فيستأنس به لكونه من شرط كتابنا. ــ أي أعيان الشيعة ــ
إن أدهى ما تعرض له تاريخنا الإسلامي هو مثل هذه الآراء الفردية التي تفرزها الأهواء والميول دون الاستناد إلى دليل, والأدهى منه هو الاعتماد عليها من قبل الكتاب المعاصرين الذين تلقفوا مثل هذه المعلومات في المصادر (القديمة) حول الأحداث والشخصيات التاريخية بصيغة نهائية وتبنّوها على أنها من المسلمات، ونسوا أن للحقائق التاريخية قول آخر خُفي أو أخفاه المؤرخون ؟
إن الانحياز إلى مؤرخ بعينه على أنه (قديم) أو أنه أكثر (قِدما) من غيره لا يعتمد فقط على أنه يدوّن الحادثة أو المعلومة التاريخية دون أن يعيش معها حالة الارتباط التاريخي الذي يبرزها كحقيقة لا غبار عليها برؤية عميقة ونافذة إلى العقل والبحث السليم, وهي تعتمد ــ وبصورة أوضح ــ على استقراء السيرة والتأمل في الأحداث والسلوك والبيئة والأشخاص المحيطين واستخلاص النتائج المرجوة بالدليل، كما يستشف من حدوث البرق بهطول المطر ...
مؤلفاته
ترك ابن الجواليقي رصيداً ثراً من العطاء الأدبي تمثل في عدة كتب هي:
1 ــ شرح أدب الكاتب
٢ ــ ما تلحن فيه العامة
3 ــ المعرّب وهو ما عرب من كلام المعجم والذي قال فيه ابن خلكان انه لم يعمل في جنسه أكثر منه
4 ــ كتاب في علم العروض
5 ــ شرح مقصورة ابن دريد
6 ــ المختصر في النحو
7 ــ (تتمة درّة الغواص في أوهام الخواص) و(درة الغواص) هو كتاب للحريري جعل له الجواليقي تتمة ولهذا الكتاب اسم ثان سماه به الجواليقي وهو (التكملة فيما تلحن فيه العامة في أوهام العوام) ويلاحظ من العنوانين إنهما يؤديان نفس الغرض فتتمة أوهام الخواص هو في أوهام العوام وهما كتاب واحد وقد أخطأ السيوطي فعدّ العنوانين لكتابين اثنين.
أساتذته وتلاميذه
درس ابن الجواليقي على يد العديد من أعلام اللغة والأدب أبرزهم:
الخطيب التبريزي يحيي بن علي.
القاضي أبو الفرج البصري.
علي بن أحمد بن التستري.
محمد بن أحمد بن أبي الصقر الأنباري.
طراد بن محمد الزينبي.
أبو الصقر الواسطي.
أما تلاميذه الذين أخذوا عنه درساً ورواية فهم كثيرون أبرزهم:
ابن الانباري عبدالرحمن بن محمد.
السمعاني عبد الكريم بن محمد صاحب الانساب.
تاج الدين أبو اليمن زيد بن الحسن الكندي البغدادي.
أبو الفرج ابن الجوزي.
ولده اسماعيل.
ولده الثاني أبو طاهر إسحاق بن موهوب
أبو الفتح محمد بن الميداني.
محمد عبد الله بن أحمد المعروف بـ (ابن الخشاب)
شعره
رغم قول ابن خلكان من أن الجواليقي: (ينسب إليه من الشعر شيء قليل) إلا أنه لا يمكن الجزم بأن كل ما قاله قد وصلنا ونجد في بيتيه الذين ذكرهما ابن شهراشوب في (المناقب) في ذم يزيد حين ضرب ثنايا الإمام الحسين (ع) بالقضيب الخيزران ما يدل على أنهما اقتطعا من قصيدة وهما:
واختـالَ بالكبرِ على ربِّهِ *** يقرعُ بالعودِ ثناياهُ
بحيثُ قد كــان نبيُّ الهدى *** يلثم في قبلتِهِ فاهُ
ولكن أين ذهبت هذه القصيدة ؟ الله أعلم
وإضافة إلى هذين البيتين فقد ذكر له السيد الميرزا محمد باقر الموسوي الخوانساري الأصبهاني في روضات الجنات في أحوال العلماء والسادات نقلا عن الدميري في حياة الحيوان قوله:
ورِدَ الورى سلسالَ جودِكَ فارتووا *** ووقـفتُ حولَ الوِرْدِ وقفةَ حائمِ
حيــــــــــرانَ أطلبُ غفلةً من واردٍ *** والوِرْدُ لا يـــزدادُ غير تزاحمِ
توفي ابن الجواليقي سنة (٥٣٩هـ/1144م) ببغداد ودفن بباب حرب وصلى عليه قاضي القضاة الزينبي بجامع القصر.
محمد طاهر الصفار
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق