لمحات تاريخية من حياة الامام علي بن الحسين "عليه السلام "

إن سيرة اهل البيت "عليه السلام" تعد المسيرة الواقعية للإسلام بعد النبي الاكرم محمد"صلى الله عليه واله"، ولذلك ان دراسة حياتهم بشكل مستوعب تكشف لنا عن صورة حقيقة لحركة الاسلام المحمدي الاصيل الذي اخذ يشق طريقه الى أعماق العالم .  

ولذلك جسد الامام علي بن الحسين زين العابدين الاسلام المحمدي بكل ابعاده في حياته الفردية والاجتماعية في ظروف اجتماعية وسياسية عصيبة فحقق القيم الاسلامية المثلى في الفكر والعقيدة والخلق وغيرها. ولذلك لابد من تسليط الضوء على حياة الامام علي بن الحسين "عليه السلام" حتى نستلهم من ذلك القائد الدروس والعبر في هذه الحياة .

أسمه ونسبه :

علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب "عليهم السلام" هو رابع أئمة أهل البيت، ووصي النبي الاكرم محمد "صلى الله عليه واله"[1] . الذين نص عليه النبي الاكرم"صلى الله عليه واله"، اذ قال : " الخلفاء بعدي اثنا عشر كلهم من قريش"[2].  وقد ولد الامام زين العابدين في سنة ثمان وثلاثين للهجرة. وعاش سبعة وخمسين سنة تقريبا قضى ما يقارب سنتين في كنف جده الأمام علي ثم ترعرع في مدرسة عمه الحسن وأبيه الحسين.

نشأته :

نشأ الامام في بيت النبوة والامامة الذي اذن الله ان يرفع ويذكر فيه أسمه ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ﴾[3]، ومنذ الايام الاولى من حياته كان جده الامام أمير المؤمنين يتعاهده بالرعاية، فكان الحفيد بحق صورة صادقة عن جده يحاكيه ويضاهيه في شخصيته ومكوناته النفسية .

عاش الامام في كنف عمه الامام الزكي الحسن المجتبى ، إذ كان يغدق عليه من عطفه وحنانه، ويغرس في نفسه مثله العظيمة وخصاله السامية ، كان الامام زين العابدين طوال هذه السنين تحت ظل والده العظيم الامام الحسين الذي راى في ولده علي زين العابدين امتدادا ذاتياً ومشرقاً لروحانية النبوة ومثل الامامة ، فأولاه المزيد من رعايته وعنايته.

ألقابه :  لقب الامام علي بن الحسين بعديد من الالقاب كان من ابرزها .

لقب بــ زين العابدين، و ذو الثفنات، وسيد العابدين، و قدوة الزاهدين،وسيد المتقين أمام المؤمنين، والامين،والسجاد، و الزكي، زين الصالحين ، ومنار القانتين، والعدل، وامام الامة ، والبكاء[4] ان هذه الالقاب قد منحها الناس للأمام عندما وجدوه التجسيد الحي لها ، والمصداق الكامل لـ :" وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا " [5] .

  في الوقت نفسه، روي عن الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الانصاري أنه قال : كنت جالساً عند النبي الاكرم "صلى الله عليه واله" والحسين في حجره وهو يلاعبه فقال: " يا جابر يولد له مولود اسمه علي ، اذا كان يوم القيامة نادى منادٍ ليقم (سيد العابدين ) فيقوم ولده ، ثم يولد له ولد اسمه محمد فإن أنت أدركته يا جابر فاقرأه مني السلام "[6]

اما صفاته ، فقد ذكر المؤرخون انه كان أسمر قصيراً، نحيفاً، ورقيقاً، وكان كلما تقدمت به السن ازداد ضعفاً وذبولاً ، وذلك لكثرة عبادته، وقد اغرقته في الاحزان والالام مذبحة كربلاء ، فقد ظلت أهوالها تلاحقه حتى لحق بالرفيق الاعلى[7] .

النص على إمامة زين العابدين"عليه السلام" :

       لقد نص النبي الاكرم محمد "صلى الله عليه واله" على إمامة اثني عشر إماماً من أهل بيته الاطهار، وعينهم بذكر أسمائهم واوصافهم كما هو المعروف من حديث الصحابي جابر بن عبد الله الانصاري وغيره عند العامة والخاصة. كما نص كل إمام معصوم على الامام الذي يليه قبل استشهاده في مواطن عديدة بما يتناسب مع ظروف عصره ، وقد كان النص يكتب ويودع عند أحد سراً ، ويجعل طلبه دليلاً على الاستحقاق ، ونلاحظ تكرار هذه الظاهرة في حياة أبي عبد الله الحسين بالنسبة لابنه زين العابدين تارة في المدينة واخرى في كربلاء قبيل استشهاده .

ومما روي من النص على إمامة ولده "عليه السلام" ما رواه  الشيخ الطوسي عن ابي جعفر الباقر "عليه السلام"  أن الحسين لما خرج الى العراق دفع الى ام سلمة زوجة النبي الاكرم الوصية والكتب وغير ذلك وقال لها :" إذا اتاك أكبر ولدي فادفعي اليه ما قد دفعت اليك" فلما استشهد الحسين اتى علي بن الحسين الى ام سلمة فدفعت اليه كل شي اعطاها الامام الحسين[8] .

أضواء على عصر الامام زين العابدين"عليه السلام"

أن الامام زين العابدين قد عاش أقسى فترة من الفترات التي مرت على أئمة أهل البيت  لأنه عاصر قمة الانحراف الذي بدأ بعد وفاة النبي الاعظم"صلى الله عليه واله"، لذلك ان الانحراف في زمن الامام زين العابدين، قد أخذ شكلاً صريحاً لا على مستوى المضمون فقط بل على مستوى الشعارات المطروحة ايضاً من قبل الحكام في مجال العمل والتنفيذ ، وانكشف واقع الحكام لدى الجماهير المسلمة بعد مقتل الامام الحسين، ولم يبق ما يستر عورة حكمهم أمام الامة التي خبرت واقعهم وحقيقتهم المزرية . 

     ومن الوسائل التي استعملها الامويين مع المعارضين في ذلك العصر هو القتل ، ويعد ابسط الوسائل ، إذ كان التمثيل الانتقامي والصلب على الاشجار وتقطيع الايدي والارجل وألوان العقاب البدني لغة الحديث اليومي[9] .

     أعطت تجربة كربلاء مؤشراً عملياً على ان الامة المسلمة في حال من الركود والتبلد مما جعل الحالة الجهادية لديها في حالة غياب إن لم نقل إنها كانت معدومة نهائياً ، ومن اجل ذلك فأن الامام السجاد باعتباره امام الامة الذي انتهت إليه مرجعية الامة ، اخذ تلك الظاهرة بعين الاعتبار ، ولذلك مارس دوره من خلال العمل على تنمية التيار الرسالي في الامة ، وتوسيع دائرته في الساحة الاسلامية ، والعمل على رفع مستوى الوعي الاسلامي والانفتاح العملي في قطاعات الامة المختلفة ، وخلق قيادات  متميزة تحمل الفكر الاسلامي النقي ، لا الفكر الذي يشيعه الحكم الاموي[10] .  

 

  لقد نجحت خطط الامام "عليه السلام" على شتى الأصعدة وحسبما خطط لها ، فهنالك مصداقان عمليان على ذلك :

    ففي المجال الاجتماعي أثمرت خطة الامام حيث حظي بإجلال القطاعات الواسعة من الامة وولائها ، والمصادر التاريخية مجمعة على ذلك قال ابن خلكان : لما حج هشام بن عبد الملك في أيام أبيه ، فطاف وجهد أن يصل الحجر ليستلمه ، فلم يقدر عليه لكثرة الزحام فنصب له منبر وجلس عليه ينظر الى الناس ، ومعه جماعة من اعيان أهل الشام ، فبينما هو كذلك إذ أقبل زين العابدين  وكان من أحسن الناس وجهاً وأطيبهم أرجاً ، فطاف بالبيت ، فلما انتهى الى الحجر تنحى له الناس حتى استلم فقال رجل من اهل الشام من هذا الذي قد هابه الناس هذه الهيبة ؟ فقال هشام لا أعرفه مخافة أن يرغب فيه اهل الشام ، وكان الفرزدق حاضراً فقال أنا اعرفه فقال الشامي من هذا يا أبا فراس ؟ فقال : 

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته            والبيت يعرفه والحل والحرم

هذا ابن خير عباد الله كلهم                  هذا النقي التقي الطاهر العلم

إذا رأته قريش قال قائلها                    الى مكارم هذا ينتهي الكرم

مشتقة من رسول الله نبعته                   طابت عناصره والخيم والشيم

هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله               بجده أنبياء الله قد ختموا

الله شرفه قدماً وعظمة                        جرى بذاك له في لوحه القلم

فليس قولك من هذا بضائره                  العرب تعرف من انكرت والعجم

من معشر حبهم دين وبغضهم               كفر وقربهم منجى ومعتصم

إن عد أهل التقى كانوا أئمتهم               أو قيل من خير أهل الارض قيل هم

أي الخلائق ليست في رقابهم                لأولـــية هـذا أو لـه نــعم ؟

من يعرف الله يعرف أولية ذا               والدين من بيت هذا ناله الأمم

فلما سمع هشام هذه القصيدة غضب وحبس الفرزدق ، وأنفذ له الامام زين العابدين اثني عشر ألف درهم ، فردها وقال : مدحته لله تعالى لا للعطاء ، فقال الامام : " إنا آهل بيتٍ إذا وهبنا شيئاً لا نستعيده " فقبلها منه الفرزدق[11] .

   وقد تمكن الامام زين العابدين (ع) بعمله الهادئ والمنظم أن يشرف على تكميل هذه الاستعادة ، وعلى هذا الاعداد بكل قوة وبحكمة وبسلامة وجد ، وقد اطلق الامام  نهجاً جهادياً ينهض بأعباء متطلبات المرحلة الخطيرة آنذاك ، ويمكن الحديث عن هذا النهج عبر مستويات متعددة :

الجهاد الفكري والعلمي:

من المعلوم أن الفكر السليم هو أحد مقومات كل حركة سياسية صحيحة، فتثقيف الجماهير وتوعيتها لتكون على علم بما يجري عليها وحواليها وما يجب لها وعليها من حقوق وواجبات هو الركيزة الاولى لصد الانظمة الحاكمة الفاسدة التي تسعى على طول التاريخ في ابعاد الناس عن الحق والتعاليم الاصيلة .

 وقد قام الامام زين العابدين بأداء دور مهم في هذا الميدان ، حيث تصدى للوقوف بوجه المنع السلطوي لرواية الحديث ، فأمر برواية الحديث وحث على ذلك ، وكان يطبق السنة ويدعو إلى تطبيقها والعمل بها ، وقد روي عنه قوله"إن افضل الاعمال ما عمل بالسنة وإن قل"[12]  .

الجهاد الاجتماعي والعملي :

إن أهم أهداف ائمة اهل البيت "عليهم السلام" هو إصلاح المجتمع البشري بتربيته على التعاليم الالهية ، ولا بد للمصلح أن يمر بمراحل من العمل الجاد والمضني في هذا الطريق الشائك فعليه :

أن يربي جيلاً من المؤمنين على التعاليم الحقة التي جاء بها الدين والاخلاق القيمة التي ينبغي التخلق بها لكي يكونوا له اعواناً على الخير . أن يدخل المجتمع بكل ثقله، ويحضر بين الناس ، ويواجه الظالمين والطغاة بتعاليمه ويبلغهم رسالات الله . أن يقاوم الفساد الذي يبثه الظالمون في المجتمع بهدف شل قواه وتفريغه من المعنويات ، وابعاده عن فطرته السليمة المعتمدة على الحق والخير[13] .

جعفر رمضان

 

 

[1] صحيح مسلم : 7/ 121 .

[2] إثبات الهداة : 2/ 320 حديث 116 .

[3] النور: (24) : 36-37 .

[4] سيرة رسول الله (ص) أهل بيته (ع) : 2/189

[5] حياة الامام زين العابدين ، دراسة تحليلي : 390

[6] إحقاق الحق : 12/13-16 .

[7] الكافي : 1/ 242 /3 ، اثبات الهداة : 5/ 214-216 .

[8] الاغاني : 8/224 .

[9] الغيبة للطوسي : 118 .

[10] الاغاني : 1/55

[11] الشعر والغناء في المدينة ومكة : 250 .

[12] وفيات الاعيان لابن خلكان : 6/ 96 .

[13] بحار الانوار : 46/ 107 .

المرفقات