جدار الحرية..

ان ما حصل من ايهامات في الالوان والخطوط وتوزيع الكتل الايهامية في بعض المنجزات الابداعية التشكيلية على المستوى المحلي والعالمي، هو عبارة عن خيال واسع لانفعالات الذات عند بعض الفنانين وايضاً محاولات للبحث عن المضمر او الخفايا التي تكمن وراء الواقع.. ففيها تكوينات فنية عائمة بين الفضاء والكتلة وقد دخلت عالم الشعور واللاشعور، حيث نجد منهم( رسامو العراق) من رسم الصورة الغامضة وسعى الى التعبير عن الموقف الروحي بدلالات صوفية قد اختص بها دون غيره من ابناء جلدته .     

التكوين الفني اعلاه من المنجزات المعبرة عن الموقف الروحي للفنان العراقي الراحل شاكر حسن ال سعيد، والذي يبدو فيه انه قد افلح بدمج حياته الروحية مع موروثه المحلي وما اكتسبه من خبرات وثقافات غربية عبر مسيرته في مجال الفن التشكيلي.

تمثل اللوحة سطحاً مستوياً يحمل العديد من النقاط أو الكتابات البعيدة والاشارات المموهة، حيث شكلت بمجملها قطعة من جدار قديم نفذت بشكل تجريدي غير واضح المعالم بعيداً عن الواقعية.

اعتمد ال سعيد في هذه اللوحة على بعض العمليات الفيزيائية لإظهار الشكل المطلوب من خلال عملية وضع الالوان بطريقة مضادة لإبراز قدم الجدار، وبقيت اللوحة بصورة ما حاوية لمجموعة الوان الطيف الشمسي.. لكن تم استخدامها بدرجات لونية فاتحة حتى تكاد الالوان ان تقترب من الاحادية، حيث ساد اللون الاصفر الترابي والابيض معظم اللوحة للدلالة على النقاء والصفاء فقد تأثر الفنان بهذا الالوان الممتلئة بشعاع الشمس والحرارة العالية المصاحبة لها صيفاً والذي يغلفه خفوت من الاجواء المتربة التي تعم مناخ العراق صيفاً.

 موه الفنان سطح اللوحة حيث كان ملمسها خشناً الا ان تعاريق السكين المستخدمة في اللوحة وكثافة الزيت المستخدم بالفرشاة تكاد تخرج من سطح اللوحة، مما زاد في صلابة سطح اللوحة وخشونتها وكأنها جدار صلب فعلاً، وقد نثر في فضاء اللوحة بعض النقاط العشوائية وبعض الاحرف والرموز والاشكال الغريبة وبشكل متكرر، محققاً بذلك انتماءً معرفياً حضارياً للحرف العربي وبنظرة تجريدية تعكس رؤيته للعالم الخارجي و إنسانيته وارتباطه الوثيق بموروثه.

تتسم اعمال ال سعيد الفنية بالنزعة الدينية التي اشتدت في النصف الثاني من القرن العشرين، حيث بدأ بالعالم كتجربة بصرية وتطور شيئا فشيئا نمو فكرته عن العالم كشعور وفكر، وكان هذا تحولاً بطيئاً مليئاً بالمعاناة المرافقة للتحول من المجسد إلى المجرد، وهذا التحول نقل الفنان عبر عدد من الأساليب كانت أول الأمر مستقاة من التصاميم الشعبية بشكلها ومحتواها معاً بعد المرور بفترة من التعبيرية القوية في تصوير حياة الفقراء في العراق

إن بداية شاكر حسن آل سعيد كانت ذات مضمون اجتماعي فهي قد ارتبطت بالواقع في صورة يستطيع الدارس فيها أن يتعرف على ملامح اجتماعية كانت سائدة آنذاك.. فأعماله عن الفلاحين واهتمامه بالكادحين في ألف ليلة وليلة وتصويره لبعض القصص والخرافات فيها،  ورسمه للمدينة وازقتها لم يكن لذاتها وإنما لتجسيد صورها وواقعها المظلم من خلال تلك الخصوصيات، فدراسة الشخصيات التي كان يرصدها الفنان في أزقة المدينة وطرقها يتعرف على بؤس اجتماعي صريح وهو الجانب الواقعي في أعماله، فضلاً عن استعارته للرموز و المعاني الدالة للكشف عن الطبقات المسحوقة التي تعيش في المدينة وبؤسها.

إلا أن ال سعيد لم يسمح لتطور هذا الاتجاه أو هذا الأسلوب من الفن لأسباب تتعلق بطبيعة المرحلة ولكنه كان على علم ببيئته الإنسانية ذات الجذور الموغلة بالمأساة، ومن هنا كان تأثره ببعض أساليب الغرب امثال بيكاسو حيث عمد على الا تسقط لوحاته في التسجيل المجرد للأحداث وإنما اغناها بمشاعر أصيلة تكشف عن نقد للأوضاع السائدة من خلال فنه المرتبط بالموروث الشعبي النقدي والديني.

وبالعودة الى العمل الفني اعلاه ومن خلال تأملنا لأجزائها فأننا نجد رموزا عديدة استخدمت في بنائية الاشكال، وما لها من دلالات مكانية تمثل جدران البيوت القديمة أو بمعنى ادق تمثل البيئة التي نشأ فيها الانسان العراقي من الازقة والبيوتات العراقية الجميلة وقصصها الرائعة وما إلى ذلك من ابعاد فكرية وجمالية.. وهو اهتمام يمثل المفاهيم المكانية التي لها الوقع الاكبر في الذات من خلال تنشيط حالة متناغمة عند الفنان بين ما هو مدرك وما هو غيبي.. وقد اتخذت النماذج المكانية بشفافية لونية متضادة ومنسجمة، حيث نجد الخطوط والالوان التي تشكلت داخل اللوحة قد اعطت ملمسا متغيرا وبعداً فكرياً وجمالياً استثنائياً، وان الالوان والخطوط لها وظائف انفعالية إلى جانب وظائفها الرمزية، فاستعمال الرموز والخطوط والالوان المختلفة هو دليل لتقرير القضايا ونقل الاشارات لدى الملتقى.. في حين نرى ان الانفعالات تمثل مدى إمكانية التعبير عن الخفايا والاوهام.. فالخطوط المنحنية وبعض الرموز تمثل جانب مهم من البعد السيكولوجي الذي يمثل الذات و مقترباتها عند الفنان. 

ومن هنا فأننا  نلمس النزعة الإنسانية لـلفنان والتي قدر لها أن تكون بمثابة شواهد جمالية في مساحة الفن العراقي المعاصر، فالنزعة الروحانية والطروحات المثالية التي ترقى إلى ربط ما هو روحي بطبيعة الفن.. هو ما سعى وتوصل إليه الفنان ال سعيد منجزه الإبداعي عبر البحث التجريبي النظري والعملي له، وبالتالي فان اعماله الفنية كانت ومازالت تناغم الواقع الاجتماعي العراقي فهي ترتقي إلى مستوى المعاناة القائمة عند الإنسان العراقي ليؤسس طبيعة تشاكلية تخالف كل من لا يمت بصلة للواقع والإنسانية والطبيعة.

سامر قحطان القيسي

الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة

المرفقات