إن أهمية الأمْنُ الاجتماعي قد تجاوزت الحق الإنساني لتجعله فريضة إلهية، وواجباً شرعياً، وضرورة من ضرورات استقامة العمران الإنساني، و إقامة مقومات الأمْنُ الاجتماعي الأساسي لإقامة الدين.
فالقرآن الكريم قد أعطى هذا الجانب اهتماماً كبيراً، لما له من أثر في توطين النفس البشرية على الرضا، والترقب والاهتمام، وفق منطلق عقدي، جعل له التوجيه الإسلامي قاعدة متينة يرتكز عليها، وسنداً قوياً يدعمه، لتشد بذلك جوانب النفس حتى لا تنحرف أو تزيغ.
ان الشعور بالأمْنُ غاية في الاهمية، ومن ثم فقد جعله الله "عزوجل" نعمة جليلة يتفضل بها على خلقة، وقرنه الله بالطعام والاموال والاولاد بل قدمه عليها مثل قوله تعالى ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴾[1] فالتأمل كيف بدا بضد الأمْنُ وهو الخوف ؟ لان الحياة بدون امن وامان قاسية ، بل تكون شديدة المرارة ، ولا يمكن ان تطاق [2].
يمكن القول ان لفظة "الأمْنُ " في القرآن الكريم قد وردت على معان ثلاثة، احدهما الامان التي هي ضد الخيانة وذلك في قولة تعالى ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾[3]، ثانيهما بمعنى الأمْنُ المقابل للخوف وذلك في قولة تعالى ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾[4] أي ان الذين امنوا بالله ولم يشركوا به، امنون من عذابه يوم القيامة لا خوف عليهم ولا هم يحزنون بقوله تعالى ﴿ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا ﴾[5] أي متنا على عباده فيما أنزل عليهم من السكينة والأمْنُة ، وهو النعاس الذي غشيهم وهم مستلئمو السلاح في حال همهم وغمهم ، والنعاس في مثل تلك الحال دليل على الأمان كما قال تعالى في سورة الأنفال﴿ إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ ﴾ [6]. ثالثاً بمعنى المكان الأمْنُ وذلك في قوله تعالى ﴿إِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ﴾[7] أي إن استجارك من المشركين فأعذه وأمنه إن لم يسلم أبلغه موضع أمنه[8] .
ويذكر الطوسي ان من احق بالأمْنُ هم الذين لم يخلطوا ايمانهم بظلم وصدقوا الله تعالى بم اوجب عليهم، ثم بين معنى الأمْنُ هنا فقال " ان الأمْنُ من عذاب الله تعالى وعقابه"[9] وذلك في قوله تعالى ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ ﴾[10]
هناك ملاحظة مهمة الا وهي ان الامام علي ابن ابي طالب "عليه السلام" قد استعمل النصوص القرآنية استعمالاً توظيفياً حقيقياً في خطبة , واقواله ورسائله حيث يجد القارئ في كتاب نهج البلاغة بان هناك ثلاث آيات تدل على الأمْنُ واثنان وثلاثون خطبة ورسالة وحكمة تدل على الأمْنُ الاجتماعي أي "الطمأنينة والراحة النفسية وعدم الخوف " اذ قال الامام علي "عليه السلام" :" أخر الشر فإنك إذا شئت تعجلته، وقطيعة الجاهل تعدل صلة العاقل، من أمن الزمان خانه، ومن أعظمه أهانه"[11] يبدو ذلك واضحاً من كلام الامام "عليه السلام" هو ملاحظة تغيرات الزمان والحذر الواجب من هذا الزمان ولا بد من دوام ملاحظة وعدم الغفلة والاستعداد للحوادث وتأكيداً لهذا السياق قوله تعالى ﴿كَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأمْنُ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [12] أي ان الله تعالى يبين في هذه الآية القرآنية الكريمة حال المشركين الذين لا يخافون عذاب، اذ كيف يأمنون من ذلك العذاب ويبين من هو احق بالأمْنُ المؤمن الذي يخاف الله تعالى هو احق بالأمْنُ [13].
ثم يؤكد الامام علي "عليه السلام" ان " مَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ رَبِحَ، وَمَنْ غَفَلَ عَنْهَا خَسِرَ، وَمَنْ خَافَ أَمِنَ" [14] أي ان من يحاسب نفسه باستمرار واتقى الله وسار في طريق الحق امن من عذابه يوم القيامة متمثلا في قوله تعالى ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾[15] هنا يبين القرآن الكريم حال المؤمنين الذين لم يشاركوا الله ولم يبطنوا ايمانهم بكفر اولئك لهم الطمأنينة والأمْنُ.
ان لفظة الأمْنُ في كتب اللغة تعني الراحة النفسية وعدم الخوف وهذا ما نلاحظه من وصية الامام علي "علية السلام " الى ابا ذر الغفاري قائلا: "لاَ يُؤْنِسَنَّكَ إِلاَّ اَلْحَقُّ وَ لاَ يُوحِشَنَّكَ إِلاَّ اَلْبَاطِلُ فَلَوْ قَبِلْتَ دُنْيَاهُمْ لَأَحَبُّوكَ وَ لَوْ قَرَضْتَ مِنْهَا لَأَمَّنُوكَ "[16] أي ان من اراد ان يسير على طريق الحق يكون طريقه واضح ويأنسه وان من يسير على طريق الحق يكون طريقه موحش وانه اذا سار على طريقهم هو طريق الباطل احبوه واعطوه الامان وهو ما يؤكد عليه القران الكريم بقوله ﴿كَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأمْنُ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [17]
نستنتج من ذلك ان موضوع الأمْنُ عند استعراضه في القرآن هو طمأنينة النفس وزوال الخوف والفعل منه( أمن – يأمن-أمناً)، كما استنتج ان الأمْنُ بمعنى الايمان أي الايمان من عذاب الله تعالى فالمؤمنون امنون عكس الكفار والمنافقين . كما ورد مفهوم الأمْنُ في القرآن الكريم في ثلاثة مواضيع وبنيت معنى اللفظة من خلال سياقة النص على اساس اراء المفسرين .
جعفر رمضان
[1] سورة البقرة ، الآية 155
[2] عبد الرحمن بن صالح المحمود ، مفهوم الامن في القران
[3] سورة البقرة ، الآية 283
[4] سورة الانعام ، الآية 82.
[5] سورة ال عمران، الآية 154.
[6] سورة الأنفال، الآية11.
[7] سورة التوبة، الآية 125
[8] ابي محمد الحسين بن مسعود البغوي، معالم التفسير "تفسير البغوي"، (بيروت: دار ابن حزم)، ج1، ص430.
[9] امين الاسلام ابي الفضل ابن الحسن الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القران ، ، تحقيق، محسن الامين،( بيروت: منشور الاعلمي للمطبوعات، 2005)، ج3، ص76.
[10] سورة الانعام ، الآية 82.
[11] محمد جواد مغنية ، في ظلال نهج البلاغة ، تحقيق، سامي الغدير(د.م: مطبعة ستار)، ج5،ص205.
[12] سورة الانعام ، الآية 81.
[13] ابن ميثم البحراني ، شرح نهج البلاغة،( بيروت: مؤسسة الاداب الشرقية)، ص
[14] نهج البلاغة ، المصدر السابق .
[15] سورة الانعام ، الآية 82.
[16] ابن ابي الحديد المدائني، شرح نهج البلاغة ، تحقيق، محمد عبد الكريم الشمري، (بيروت: دار الكتب العلمية، 2003)، 19، ص121
[17] سورة الانعام ، الآية 81.
اترك تعليق