العنوان : قراءة نقديّة لمبحث المظلومية في كتاب (الشهيد الخالد) ج

الثمرة والمصلحة من قتل الإمام عليه السلام

أراد الكاتب أن يصوّر أنّ قتل الإمام عليه السلام  ومظلوميته والفاجعة التي جرت عليه لم يكن فيها ثمرة، أو كانت ولكن كان الضـرر أكبر وأعظم، فاستعرض مجموعة من الثمرات المحتملة، ثمّ ردّها جميعاً؛ فيثبت من خلال ذلك أنّه لا يمكن أن يكون هدف كربلاء هو الشهادة والمظلومية، ونحن سنناقش في ردوده المذكورة على كلّ ثمرة.

الثمرة الأُولى: عمل المسلمين بأحكام الدين

أن تكون الثمرة من النهضة الحسينية هي عمل المسلمين بأحكام الإسلام، فردّ على هذا المحتمل بأنّه لا يمكن تصوّر أنّ قتل الإمام عليه السلام  يؤدّي إلى ذلك، قال: «إذا كان المراد من ذلك: أنّ قتل ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  كان سبباً للعمل بأحكام الإسلام على نطاق واسع من قِبل مسلمي الحجاز والعراق والشام وشمال أفريقيا.

[أقول]: هذا الكلام ليس بصحيح؛ إذ كيف يمكن التصديق بأنّ مقتل الإمام كان باعثاً ومحرِّكاً نحو العمل بأحكام الإسلام بشكل أكثر...»[28].

ويرد عليه: إنّ ما نفاه الكاتب ممكن جداً؛ لإنّ مَن يتابع الهدف الذي كان يسعى إليه بنو أُميّة، والذي أسّس له معاوية يرى ذلك ممكناً، بل هو المتعيّن، حيث كان معاوية وبنو أُميّة يخطّطون لمحو الإسلام على مرحلتين:

الأُولى: تفريغه من واقعه وروحه وحيويته.

الثانية: محو مظاهره وعلائمه وهويته.

 فالإمام عليه السلام  ومن خلال نهضته وشهادته وقف بوجه المرحلتين معاً، فقد حافظ على روح الإسلام وعلى مظاهره في البيت الشيعي، وحافظ على مظاهر الإسلام عند بقية المسلمين، ووقف سدّاً منيعاً بوجه مَن أراد أن يمحو الإسلام، وقد فصّلنا الكلام في هذا المعنى في مقالٍ مستقلّ منشور في هذه المجلة المباركة[29].

الثمرة الثانية: الفتوحات الإسلامية

أن تكون الثمرة هي الفتوحات الإسلامية لبني أُميّة التي وقعت بعد حادثة عاشوراء، فأجاب عن ذلك: إنّه لا ربط لمقتل الإمام الحسين عليه السلام  بهذه الفتوحات، قال: «وإذا كان المراد: أنّ قتل الإمام أدّى إلى قيام فتوحات أُخرى، فقد فُتِحت مثلاً ـ في زمن الوليد بن عبد الملك ـ بلاد الأندلس في الغرب، وبلاد سمرقند وبخارا في الشرق.

[أقول]: فهذا الرأي ليس بصحيحٍ أيضاً؛ فما وجه العلاقة بين مقتل الإمام عليه السلام  وبين فتح الأندلس وسمرقند؟!...»[30].

ونقول في مقام الجواب: لم يدّعِ أصحاب نظرية الشهادة هذا المعنى وهذه الثمرة، بل ولم يدّعِه أحد حسب علمي وتتبّعي، وما هذا الاحتمال إلّا من ذهن الكاتب، وهو واضح البطلان، ولا يحتاج ردّه إلى بيان.

الثمرة الثالثة: إضعاف بني أُميّة

إنّ قتل الإمام عليه السلام  ومظلوميته أضعف حكومة بني أُميّة، فردّ الكاتب على هذه الثمرة: إنّ قتل الإمام عليه السلام  كما أضعفها من جهة، فإنّه قد قوّاها من جهةٍ أُخرى؛ حيث إنّ الحكومة الأُموية أزاحت عن طريقها عدوها اللدود والقوي، وبذلك قمعت حركة أهل العراق، وأخافت بقية الحركات المعارضة لها، وهذا الجانب أقوى من جانب الإضعاف الذي لحق بني أُميّة؛ ولأجل ذلك واصلت حكومة بني أُميّة قمعها، كما في واقعة الحرة وحرق الكعبة، كما أنّها توسّعت من حيث الجغرافيا ومسك الأرض، وأنّها لم تسقط إلّا بعد سبعين سنة من واقعة عاشوراء، قال: «وإذا كان المراد: أنّ مقتل الإمام الحسين عليه السلام  أدّى إلى إضعاف الحكم الأُموي، فلم يستطيعوا بعد مقتله أن يضحّوا بالإسلام مقابل أهوائهم الجاهليّة.

[أقول]: هذا أيضاً لا يمكن قبوله؛ فمن جهة يصحّ القول: بأنّ مقتله عليه السلام  قد أضعف حكومة بني أُموية، إلّا أنّها قد استحكمت من جهة أُخرى...»[31].

يرد عليه:

أولاً: إنّ الكاتب قد اعترف أنّ هناك جنبة أضرّت بني أُميّة، وهي حسب تعبيره: «فقد ضَعُفَت من جهة وقوعها محلّ اشمئزازٍ وكراهية أكثر في أذهان عامة الناس»[32].

وقال أيضاً: «أمّا جانب الضعف فيها، فقد تمثَّل في تنفّر الجماهير التحرّرية من حكومة بني أُمية، تنفّراً مخفياً ومبيَّتاً لا يجرأ أحدٌ على إظهاره»[33].

فهذا الأمر الذي اعترف به الكاتب نفسه، أعظم نتيجة يمكن أن تحقّقها حركة معيّنة ضدّ طاغي، وضدّ حكومة باغية، فإنّ تحويل الرأي العام أمر في غاية الأهميّة والخطورة والصعوبة؛ لأنّه البداية الحتمية لزوال كلّ حكومة، وأُفول كلّ إمبراطورية، فلو ملك شخص الأرض بما فيها وكان مبغوضاً لا يمكنه الاستمرار، ولا الراحة، ولا العيش الهنيء إلّا من خلال القتل والترهيب؛ لذلك نجد أنّ جميع الطغاة يعملون على تلميع صورهم أمام المجتمع والرأي العام، فحتى لو سلّمنا بالإيجابيات التي حصلت عليها حكومة يزيد من قتل الإمام عليه السلام ، إلّا أنّها جميعاً لا تضاهي هذه الخسارة العظيمة التي خسرتها، والتي لم تتخلّص من عارها إلى يومنا هذا، بل وإلى قيام الساعة.

ثانياً: مَن قال: إنّ الإمام الحسين عليه السلام  قد قُتل، وإنّ الحكومة الأُموية تخلّصت منه عليه السلام ، وإنّه عليه السلام  انتهى أمره؟ فإنّ الإمام عليه السلام  منهج وسيرة، مبادئ وقيم، حرية وشموخ وكبرياء، وكلّ حسنات الدهر، وهذه أُمور حيّة حيوية تعيش مع المجتمع في كلّ زمانٍ ومكان، فالإمام عليه السلام  صار فكرة وعقيدة يعيش في القلوب، ويحيى في الضمائر، يزلزل أركان الظلام في كلّ حين، ليس فقط عرش يزيد، بل كلّ طاغٍ متجبّر عنيد، فالإمام عليه السلام  قد انتصـر وقد استمر انتصاره إلى يومنا هذا وسيبقى، فلم تتخلّص منه حكومة بني أُميّة ولا لحظة واحدة، فدعوى الكاتب لا يمكن قبولها بوجه؛ فإنّ خسارة بني أُميّة ابتدأت من كربلاء، فصارت اللعنات إلى الأبد.

ثالثاً: إنّ حركة أهل العراق وإنّ قُمعت، إلّا أنّها لم تنتهِ، بل اشتدّت وزادت، وتعدّدت الثورات، مثل: ثورة التوابين، والمختار، وزيد الشهيد، وغيرها من الحركات الحقّة، فضلاً عن غيرها، وهي كثيرة ذُكرت مفصّلة في كتب التاريخ والسير.

رابعاً: مَن قال: إنّ حكومة بني أُميّة واصلت قمعها؟ فإنّما كانت حكومة يزيد تلفظ أنفاسها الأخيرة، وما واقعة الحرّة إلّا ثمرة من ثمرات كربلاء في وجه تلك الحكومة الباطلة، لا أُريد القول: إنّ تلك الواقعة حقّة في جميع تفاصيلها، وإنّما أُريد أن أقول: إنّ الإمام الحسين عليه السلام  كسر طوق الخوف الذي كان يحيط بالأُمّة، فتحرّكت وثارت، وقامت وكسـرت الأغلال، وضجّت بوجه ذلك الطاغي، لا كما يصوّر الكاتب من أنّ يزيد أحكم سيطرته على الأُمّة وأخافها بعد واقعة عاشوراء، فهذا قولٌ ناقص مجتزئ من التاريخ.

خامساً: ما فائدة كلّ الفتوحات فيما لو لم تكن الحكومة محبوبة، فهي بدون ذلك لا قيمة ولا عيش هنيئاً لها، فقد حقّقت عاشوراء نفرة المجتمع من تلك الحكومة، وما ذلك إلّا لعمق الفاجعة والمظلومية في كربلاء بكلّ ما تحمله الكلمة من معنى.

سادساً: ما قيمة السبعين سنة في قبال 1400سنة، بل في قبال التأريخ وأعماقه وامتداده، بل وإلى الأبد، فالسبعون لا تساوي شيئاً هذا من جهة، ومن جهةٍ أُخرى ربّما تجد موقفاً واحداً يساوي عمراً كاملاً، وعمرٌ كاملٌ تجده في مزبلة التأريخ، وموقفٌ واحدٌ تخلّده الأجيال، ويكون منارةً تستضيء بها الأُمم، وتجد في قبال ذلك عشرات، بل مئات السنين لا قيمة لها.

لا أدري كيف يقرأ هذا الكاتب الأُمور؟! وكيف يحلّلها؟! وكيف يستنتج منها، لعلّه لو دقّق أكثر لكان قد غيّر رأيه.

الثمرة الرابعة: قوّة الشيعة

أن تكون الثمرة هي أنّ الشيعة قد استفادوا وتشكّلت جماعتهم بعد قتل الحسين عليه السلام ، فأجاب: إنّ الشيعة وإن استفادوا من جهة، إلّا أنّهم ضعفوا من جهةٍ أُخرى، قال: «وإذا كان المقصود: أنّ مقتل الإمام عليه السلام  ساعد في رصّ الصف الشيعي وجعله أكثر تنظيماً من ذي قبل. فلا بدّ من القول: إنّ الواقع الشيعي نراه قد قوي ـ من جهةٍ ـ واستحكم بعد شهادة الإمام الحسين عليه السلام ، ومن جهة أُخرى ضَعُف وتقهقر. فجانب القوّة يكمن في تحرّك مشاعر الناس وعواطفهم لصالح الشيعة، وجانب الضعف يتمثّل بفقدان البيت الشيعي زعيماً كبيراً كالحسين بن علي عليه السلام  ومقتل ثلّة من أبرز رجالات الشيعة وشخصياتها. زيادة على ذلك، فإنّ حادثة التوابين ومقتل عدّة آلافٍ من خواص الشيعة ورجالاتها قد أدّى إلى إضعاف الشيعة أكثر مّما مضى، ثمّ جاءت ثورة المختار...»[34].

يرد عليه: ما تقدّم في الجواب عن الثمرة السابقة؛ فإنّ كسب الرأي العام من أهم الأُمور التي تسعى كلّ حركة لتحقيقه، حتى يمكن التحرّك وسط المجتمع، والوصول للغايات المطلوبة، فإنّ التغيير لا يمكن أن يتحقّق إلّا من خلال كسب الرأي العام أو تغييبه، والأول هو عادة المصلحين وقيادات طريق الخير، فإنّهم دائماً يسعون إلى كسب الرأي العام، من خلال الإرشادات والمواعظ الحسنة، وبيان الأدلّة الخطابية والبرهانية لعموم الناس[35].

وأمّا الفاجعة بمقتل الإمام عليه السلام ، فهي وإن كانت عظيمة وجسيمة، وقد تأثّر لها الكون بأرضه وسمائه، ومَن وما فيهنَّ، إلّا أنّ النتيجة المترتّبة أيضاً عظيمة، وهي حفظ الدين الخاتم، وهو الهدف والغاية من الخلقة؛ ولذلك تُعدّ هذه الفاجعة ضمن سلسلة فجائع الأنبياء والأوصياء التي كانت من أجل عبادة الله، إلّا أنّها أعظمها وأفجعها.

وأمّا قوله: إنّ بقية الثورات أضعفت الشيعة، وقتلت رجالها، فهذا منه غريب؛ وذلك:

أولاً: مَن قال: إنّ كلّ قتلٍ يضعف الوضع العام الشيعي؟ فكم من قتلةٍ أحيت مجتمعات، وكم من حياة دمّرت حضارات، فكم من دماءٍ سقت أُمماً، وكم من أنفاسٍ ذابت بسكوت، ولم يكن لها في التأريخ إلّا العدم أو الخنوع.

ثانياً: لو كان كلّ قتلٍ مضعفاً لمشروع مَن قُتل، فلكان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم  قد أضعف الإسلام بحروبه ودفاعاته، وكذا أمير المؤمنين عليه السلام ، عندما قدّموا خيرة الرجالات في تلك الحروب.

 ولكن لا غرابة من الكاتب أن يدّعي مثل هذا الأمر في ثورة التوابين والمختار وزيد الشهيد، بعد أن أفرغ مضمون الثورة الحسينية وجعلها خسارة، وخسارتها أكبر وأكثر من فائدتها.

 ثمّ لو كان الانقسام علامة البطلان لبطل الإسلام، وهذه النقطة كما ترى لا تحتاج إلى ردٍّ وتوقّف.

الثمرة الخامسة: فضيحة بني أُميّة

أن تكون الثمرة من قتل الإمام عليه السلام  ومظلوميته فضيحة آل أبي سفيان، فأجاب عن ذلك: بأنّهم مفضوحون من الأساس، قال: «وإذا كان المراد: أنّ مقتل الإمام الحسين عليه السلام  كان سبباً لفضح آل أبي سفيان والكشف عن حقيقتهم؛ وبذلك تمّ إحياء الإسلام. فهذا المطلب ليس بصحيحٍ أيضاً؛ لأنّ فضائح معاوية وابنه يزيد كانت على مستوى من الظهور لا يُحتاج معه إلى كشف الستار...»[36]. ثمّ ذكر بعض الشواهد على ذلك.

يرد عليه:

أولاً: صحيحٌ أنّ سياسة بني أُميّة التكفيرية الظالمة الجاهلية كانت مفضوحة بعض الشيء، إلّا أنّ شهادة الإمام عليه السلام  ومظلوميته فضحتهم بشكلٍ أكبر، بحيث لو أمكنهم التستّر على بعض جرائمهم لما أمكنهم التستّر على هذه الجريمة الشنيعة، فزيادة فضيحتهم، وبيان زيفهم أمرٌ أساسي ومهمٌّ جدّاً.

ثانياً: إنّ مجموعة من الانتهاكات التي كان يمارسها معاوية ويزيد، والتي ذكر لها الكاتب بعض الشواهد، كانت تمُارس تحت غطاء الدين، وتحت غطاء مبدأ الجبر من أنّ بني أُميّة اختارهم الله، وفرضهم على الأُمّة، بل ونجد إلى هذا اليوم مَن يُبرّر لمعاوية ويزيد، فضلاً عمَّن مضى، ولولا دم الحسين عليه السلام  لأُخفيت وحُذفت تلك المعاصي الشنيعة ليزيد وأبيه معاوية، ولبني أُميّة بشكلٍ عام، فدم الإمام الحسين عليه السلام  كما فضحهم فقد أثبت فضائحهم الأُخرى؛ لذلك يُعتبر دم الإمام عليه السلام  أبرز وأهمّ حلقات فضائح بني أُميّة.

ثالثاً: لم يدّعِ أحدٌ أنّ فضيحة بني أُميّة هو الهدف الوحيد للثورة الحسينية، وإنّما هو أحد أهدافها، وكونه كذلك من المسلّمات والواضحات، ولا أتصوّر أنّ الكاتب يدّعي أنّ قتل الإمام عليه السلام  لم يساهم في فضح بني أُميّة ولو بنسبةٍ قليلة، وهذا المعنى ذكره الكاتب في الهامش معلّقاً عليه: « إلّا أنّ تلك الفضائح التي حلّت بآل أبي سفيان نتيجة تلك الجرائم لا يمكن أن تكون هدفاً لنهضة الإمام عليه السلام»[37]. هامش

أقول: من أين جاء عدم الإمكان؟! وكيف ثبت؟! ولماذا جزم به الكاتب؟! ولأيّ سببٍ لا يمكن أن نعتبرها مقصودة من الأول؟!

الثمرة السادسة: إثارة مشاعر أهل الشام

أن تكون الثمرة هي إثارة مشاعر أهل الشام، فأجاب بأنّ أهل الشام لم تتحرّك مشاعرهم قط، قال: «وإذا كان المراد: أنّ مقتل الإمام عليه السلام  وأسر أهل بيته كان سبباً في تأجيج مشاعر أهل الشام وتمرّدهم على يزيد؛ وبالتالي تمّ إحياء الإسلام بذلك. فهذا أيضاً لا يمكن قبوله، فقد طغى الوضع المادّي على أهل الشام وتمسّكهم بالدنيا على امتداد أربعين سنة من حكومة معاوية..»[38].

ويرد عليه:

أولاً: لا نجزم بأنّ أهل الشام جميعهم يعلمون الحقّ وينكرونه، ويصـرّون على البقاء مع يزيد مع علمهم بفسقه، بل ربّما يوجد العديد من المغرّر بهم، والذين يحتاجون إلى مَن ينبّههم ويوقظهم، أو لا أقلّ إلى مَن يُقيم الحجّة عليهم، فالمجتمع على طبقات متفاوتة في الفهم والإدراك وما إلى ذلك.

فإن قلت: قد كان قبل ذلك أمير المؤمنين عليه السلام ، والإمام الحسن عليه السلام ، ولم تكن هناك فائدة تُذكر من أهل الشام.

قلت: لا نسلّم بعدم الفائدة أولاً. وثانياً: هذا دليل لزوم تعدّد المنذرين، ولأجل ذلك تعدّد الأنبياء والأوصياء؛ ولذلك كانت محاولات الإمام الحسن عليه السلام ، وقد ادّعى بعض المحقّقين أنّ صلح الإمام الحسن عليه السلام  كان من أجل هداية أهل الشام وإيصال المعلومة الصحيحة إليهم فيما يرتبط بأهل البيت عليهم السلام  ومجمل حركة الإمام علي عليه السلام [39].

ثانياً: ليس من الصحيح أن نطلب أن يكون الأثر والتغيّر آنيّاً، بل الأهمّ من ذلك أن يكون التغيّر تدريجيّاً ينعكس على الأجيال القادمة، وهذا النوع من التغيّر أهمّ من ذاك بمراتب؛ لأنّه ممتدّ على طول الزمن.

ثالثاً: مَن قال: إنّ كلّ أهل الشام هجموا على المدينة وعلى مكة؟! فالمجتمع الشامي مجتمع كبير، وجيش يزيد لا يعني كلّ الشام، كما أنّ جيوش بعض الطغاة في الدول الإسلامية لا يمثّل جميع أبناء الشعب.

رابعاً: مَن قال: إنّ الثورة ضدّ الظلم والطغيان تكون في ليلةٍ وضحاها؟! فإنّ الكثير من الثورات تبتدئ بقضيةٍ ما، ثمّ تأتي ثمارها بعد حين، بل بعد عشرات السنين أو أكثر، متأثّرة بتلك الوقعة التي أشعلت الفتيل، وكسرت أطواق الخوف.

نقاش في نقطةٍ هامّة

ذكر الكاتب تحت عنوان نقطة هامّة: أنّ الإمام عليه السلام  أراد الرجوع، وهذا لا يجتمع مع الأهداف المذكورة، قال: «فإنّ الإمام الحسين عليه السلام  عندما واجه الحرّ بن يزيد الرياحي قرّر حينها الرجوع إلى الحجاز، وأصرّ على هذا الأمر إصراراً كبيراً، إلى حدّ اقترح الرجوع وإيقاف النزاع خمس مرّات على الأقل...»[40].

يرد عليه: إنّ هذا لا ينافي الأهداف المذكورة بوجه، نعم، قد يؤثّر في تحديد الوقت الذي قُصدت فيه تلك الأهداف لأن تكون أهدافاً ـ طبعاً حسب المعطيات الظاهرية ـ وهذا لا يُؤثّر على بحثنا في المقام؛ لأنّنا لسنا بصدد بيان تحديد الهدف من أول الحركة الحسينية ومن حين الخروج من المدينة.

عودٌ على بدء

قال الكاتب: « نعم، إنّ الحقيقة تتمثّل في مقاومة الإمام الحسين عليه السلام  وكفاحه البطولي في طريق الإسلام، ومن أجل إحياء تعاليم القرآن، حتى نال بذلك الشهادة»[41].

أقول: وهذا عين ما يقوله الجميع.

نقاش التشبيه الخاطئ

قال الكاتب تحت عنوان تشبيه خاطئ: «ربّما يقال: قد يتطلّب الوضع الصحي المتدهور لمريض ما ـ في بعض الأحيان ـ إلى استخدام السكّين لإجراء عملية جراحية. كذلك في الوضع الاجتماعي، فقد يصل الفساد إلى حدٍّ لم يبقَ معه أيّ طريق للإصلاح عدا طريق الحرب وإراقة الدماء. فلمّا رأى الإمام الحسين عليه السلام  أنّ فساد المجتمع وصل إلى حدٍّ لم ينفع معه إلّا إراقة الدماء، حينها أقدم على فعل مثل هذا العمل الكبير. هنا لا بدّ من القول: هل يُستأصل ـ في حال إجراء العملية الجراحية ـ العضو السالم أم العضو الفاسد؟!»[42].

أقول: مع أنّه ليس من دأب المحصلين النقاش في المثال، إلّا أنّ الكاتب اشتبه في فهم المثال؛ وذلك لأنّ المقصود من التشبيه أنّ هناك حالات فساد في المجتمع،لا يمكن أن تُرفع إلّا بتضحيات ومعانات وألم، فإذا صارت تلك التضحيات ارتفع ذلك الفساد، واجتُثّ من المجتمع، كما في الجسم عندما يتعرّض إلى مرض يحتاج في استئصاله إلى أن يفتح الجلد، ويشقّ اللحم، ويجرح العصب، ثمّ يستأصل العنصر الفاسد والغدّه المرضية، فهناك مراحل اختيارية من الألم يتحمّلها المريض حتى يُستأصل العنصر الفاسد، وأين هذا المعنى مما صوّره الكاتب؟!

تعبير خطير

قال الكاتب: « في حين أنّ الإمام عليه السلام  لم ينهض لخلق مثل هكذا حادثة فظيعة ومروّعة»[43].

أقول: لا أُريد أن أُعلّق على هذا الكلام، فهو لا يستحقّ التعليق، ولكن أدعو القارئ إلى قراءة هذا النصّ في ضمن سياقه من كلام الكاتب؛ حتى يحكم بنفسه، ولا يُقال: تمّ اقتطاع الكلام وعزله عن محيطه؛ فتغيَّر معناه، وتشوّه المراد منه.

الفصل بين فعل يزيد وفعل الإمام الحسين عليه السلام

أكّد الكاتب أنّه لا بدّ من الفصل بين فعل حكومة يزيد وبين ما قام به الإمام الحسين عليه السلام ، وألّا توضع حادثة كربلاء الدموية في حساب الإمام الحسين عليه السلام .

أقول: هذا مسلّم، ولم يدّعِ أحد أنّ المُسبّب لحادثة كربلاء هو الإمام الحسين عليه السلام ، وأنّ حكومة يزيد بريئة من ذلك، فهذا أمرٌ لم يدّعِه أحد من العامّة ـ إلّا بعض النواصب ـ فضلاً عن الخاصّة.

 وأمّا أنّ الكاتب فهِمَ ذلك من بعض العبارات فهذا أمرٌ يخصّه، وكان عليه أن يدقّق أكثر في فهم الكلمات.

غرابة تصوّر

قال الكاتب تحت عنوان تصور خاطئ: «يتصوّر البعض أنّ الإمام الحسين عليه السلام  كان عازماً منذ بداية الأمر على التضحية بنفسه، وأنّ يؤسَر أهل بيته ويُساقون من بلدٍ إلى بلد. وبعبارة أُخرى: كان الإمام يهدف من أوّل الأمر إلى وضع عياله في دائرة الأسر، وسعى جاهداً إلى تحقيق ذلك بداعي تعرية الحكومة الأُموية آنذاك وإظهار حقيقتها.

 [أقول]: هل يمكن أن يُقال: إنّ دخول زينب الكبرى بثيابٍ رثّة على مجلس عبيد الله بن زياد...»[44].

أقول: إنّ الكاتب قد خلط بين أمرين:

 الأول: رضى الإمام عليه السلام  بما حدث في واقعة الطف وما بعدها، وأنّه أمر أفرحه وأفرح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  وأهل البيت عليهم السلام .

الثاني: إنّ ما وقع في كربلاء أمرٌ لا بدّ منه؛ لإحياء أُمّة لا ترجع لوعيها إلّا بذلك، فالإمام عليه السلام  رضي بذلك مضطرّاً لتحمّل كلّ هذه المصائب؛ لأجل الظروف العصيبة التي أحاطت بالأُمّة آنذاك، فلو ادّعى شخصٌ أنّ الإمام عليه السلام  كان راضياً قلباً بما حدث لأجل ما حدث لا لأجل النتائج المترتّبة عليه، لوردت جميع نقوضات الكاتب، ولكنني أستغرب أشدّ الاستغراب من هذا الفهم السطحي لبعض الكلمات، أنا لا أدّعي أنّ الإمام عليه السلام  كان قاصداً لما حدث من أول الأمر، ومن أول التحرّك، فهذا بحثٌ آخر يرتبط بعلم الإمام عليه السلام  الغيبي والظاهري، والشواهد والظواهر الأُخرى، ولكن أقول: لا بدّ أن لا نُحمّل أحداً ما لا يمكن أن يقصده، فكان على الكاتب أن يُميّز بين هذين الأمرين، ولو ميّز لما أشكل.

طلبٌ أخير

قد نقلنا مجموعة من كلمات الكاتب ورددنا عليها، وكان النقل لجزء من كلماته معتمدين بذلك على قراءة المقال السابق، الذي فصّل فيه الكاتب آراءه وأدلّته؛ لذلك أطلب من القارئ الكريم أن يقرأ كلّ ما نقلناه عن الكاتب في ضمن كلامه وسياقه؛ حتى يمكنه أن يؤيد الكاتب، أو يقتنع بما رددنا به عليه، أو يكون له رأي آخر، وهذه دعوة لإنصاف الجميع.

 

الكاتب: الشيخ رافد التميمي

مجلة الإصلاح الحسيني – العدد التاسع

مؤسسة وارث الأنبياء للدراسات التخصصية في النهضة الحسينية

________________________________________

[28] مقال سابق: ص

[29] اُنظر: مقال تحت عنوان: النهضة الحسينية وحفظ المبادئ والمظاهر الدينية، مجلة الإصلاح الحسيني، السنة الأُولى، العدد الرابع: ص97.

[30] مقال سابق: ص

[31] مقال سابق: ص

[32] مقال سابق: ص

[33] مقال سابق: ص

[34] مقال سابق: ص

[35] اُنظر الكلام مفصّلاً عن هذا الموضوع: مقال تحت عنوان: النهضة الحسينية وحفظ المبادئ والمظاهر الدينية، مجلة الإصلاح الحسيني، السنة الأُولى، العدد الرابع: ص113.

[36] مقال سابق: ص

[37] مقال سابق: ص

[38] مقال سابق: ص

[39] اُنظر: البدري، سامي، صلح الإمام الحسن عليه السلام :

[40] مقال سابق: ص

[41] مقال سابق: ص

[42] مقال سابق: ص

[43] مقال سابق: ص

[44] مقال سابق: ص

 

المرفقات