وصية ام ابيها شهيدة الاضطهاد "عليها السلام" اخفاء وفاتها وقبرها الشريف

عندما علم الناس في المدينة استياء السيدة فاطمة أم ابيها "عليه السلام" من السلطة، ونقمتها على الذين آزروا تلك السلطة، ونبذوا وراءهم كل المفاهيم والقيم، وعندما تولّد شئ من الوعي عند الناس، وعرفوا أنهم مخطئون في تدعيم السلطة الحاكمة التي لا تعترف بها أسرة النبي الاكرم "صلى الله عليه واله"، على اثر ذلك ارادوا تغطية اعمالهم واستدراك ما فات، فقرروا ان يعودوا فاطمة أم أبيها لاسترضائها حتى ينتهي كل شيء وتكون المأساة نسياً ... ولكن السيدة ام ابيها كانت تعرف هذه الاساليب، وتعلم كل هذه الامور.

هناك حقيقة تاريخية الا وهي، ان عمر قال لأبي بكر: انطلق بنا الى فاطمة لإرضائها، فلما دخلا جبهتهما بالقول:" أشهد الله وملائكته، أنكما أسخطتماني وما ارضيتماني، ولئن لقيت النبي "صلى الله عليه واله" لأشكونكما اليه... والله لأدعونَّ عليك في كل صلاة أصليها"[1]،  ثمة سؤال يطرح نفسه وهو ما الذي دعا السيدة فاطمة أم ابيها "عليها السلام" أن تثبت على رأيها، ولا تتضعضع عن موقفها؟ .

ثم أوصت أمير المؤمنين علي "عليه السلام"، أن لا يشهد جنازتها، ولا يصلي عليها احد منهم، وان تدفن ليلاً، وتجري مراسيم التشييع من التغسيل والتكفين والصلاة والدفن في جو من الكتمان، لم يشترك في تشييع جنازتها الا افراد لم تتلوث ضمائرهم بالانحراف ولم تسود صفحاتهم بالانحراف، فلما توفيت دفنها الامام علي "عليه السلام" ليلاً ... واليك الوصية" اوصيك ان لا  يشهد احد جنازتي من هؤلاء الذين ظلموني، فانهم عدوي وعدو رسول الله، ولا تترك ان يصلي على احد منهم ولا من أتباعهم، وادفني في الليل اذ هدأت العيون ونامت الابصار" [2] .

يبدو ان السيدة فاطمة أم ابيها ارادت ان تسجل اسمها في طليعة المضطهدين المحرومين حتى يقرا اسمها الاجيال بانها اول من اضطهدت، وان اسمها رمزاً للمظلومية والحرمان، حتى يكون تشييع جثمانها تعبيراً عن سخطها على السلطة وعلى كل من أيد واعترف وتعاون مع تلك السلطة.  فكان هذا الفعل من فاطمة أم ابيها "عليها السلام" اكبر شاهد على موجدتها من السلطة .

بعد ما مضى من الليل شطره، قام الامام علي "عليه السلام" لينفذ وصايا السيدة فاطمة ، ولم يعقد الخيوط على الكفن، بل نادى اطفاله المنكسرة قلوبهم هلمّوا وتزودوا من امكم، وهنا حدث شيء يعجز القلم عن تحليله، وينهار أمامه قانون الطبيعة، يقول امير المؤمنين علي "عليه السلام": " اشهد الله انها حنَّت وأنَّت وأخرجت يديها من الكفن، وضمّتهما الى صدرها مليآ" [3].

بعد ما انتهت مراسيم التكفين والتحنيط، جاء دور الصلاة عليها ثم الدفن، وقد حضر الافراد الذين تقرر ان يشتركوا في تشييع الجثمان، ومراسيم الصلاة وهم كل من سلمان، وعمار بن ياسر، ابو ذر الغفاري، والمقداد، وحذيفة، وعبد الله بن مسعود، والعباس بن عبد المطلب، والفضل بن العباس، وعقيل ابن ابي طالب، والزبير وشيعوا جثمان فاطمة ام ابيها، وكأنها امرأة غربية خاملة فقيرة في المدينة لا يعرفها احد!!.    

 ومن الملفت للنظر ان اخفاء القبر الشريف أمر التزم به أغلب الائمة من آل البيت "عليه السلام" ولم يصرحوا بموضع قبر فاطمة أم ابيها "عليها السلام"[4]، بخلاف الامور الاخرى التي صدرت عنهم مثل تعيين قبر أمير المؤمنين علي او حوادث الطف وغير ذلك[5].

نستنتج من ذلك ان الزهراء خرجت من الدنيا وان الكارثة التي حدثت عند الباب بيتها وتركت في جسمها آثاراً تدوم وتدوم ولا تزول، وان مواقف المسلمين تجاه ابنة النبي الاكرم "صلى الله عليه واله" كان لها اثر عميق في نفس السيدة فاطمة لكونها اهانة صريحة لها، وظلماً مكشوفاً واعتداءاً مقصودا، واهداراً لكرامتها، وتضييعاً لمامها الاسمى.

في الوقت نفسه ان الوصية ترمز الى ان فاطمة الزهراء عاشت بعد أبيها ناقمة وغاضبة على اولئك الافراد، واستمرت النقمة والغضب حتى الموت وبعد الموت الى يوم يبعثون، حيث رفضت ام ابيها فاطمة ان يشيعها تلك العصابة، ولا ان يصلوا على جنازتها ولا يشهدوا دفنها، ولا يعرفوا قبرها.

لقد ماتت فاطمة ام ابيها شهيدة الاضطهاد، قتيلة الظلم والاعتداء لا بده للأجيال ان تتأمل في الغضب الفاطمي لعلهم يدركون بعضاً من أبعادها وأهدافها.

جعفر رمضان

 

[1] للمزيد من التفاصيل حول نص الرواية  ينظر: ابن قتيبة الدينوري، الامة والسياسة،(القاهرة: المكتبة المحمودية التجارية، د.ت)، ج1، ص4؛ عمر رضا كحالة، اعلام النساء في عالمي العرب والاسلام، (د. م: مؤسسة الرسالة، 2008)،ج3، ص314.

[2] كاظم القزويني، فاطمة من المهد الى اللحد،(قم: المطبعة العلمية، 1414ه) ص507.

[3] المصدر نفسه، ص520.

[4] اختلفت  جمع الروايات في موضع قبر سيدة نساء العالمين فاطمة "عليها السلام"، واشهر ما نقل عن آل البيت رواية الامام الرضا "عليه السلام" بانها:" دفنت في بيتها فلما زادت بنو امية في المسجد صارت في المسجد" وظل الاحتمال قائما بان القبر الشريف قد يكون في بيتها او في البقيع او بين قبر النبي الاكرم ومنبره، ورجع بعض من العلماء زيارتها عند هذه المواضع الثلاثة ، وهذا دليل قاطع على عدم القطع والحسم في هذه القضية .للمزيد من التفاصيل ينظر: ابو جعفر محمد بن علي بن بابويه القمي الصدوق، عيون اخبار الرضا،(بيروت،2009) ، ص169؛ ابو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، مصباح المتهجد،(بيروت،2009)، ص523.

[5] محمد محمد صادق الصدر ، اضواء على منبر الصدر ، تحقيق :عبد الرزاق الهنداوي، (بغداد،2008)، ص227.

المرفقات