رواية قطع رأس بكر بن غانم على يد عليٍّ الأكبر عليه السلام (عرضٌ ونقد)

توطئة

يبدو أن الخبرَ عندما يُعرض في ظلِّ أجواءٍ خاصة ـ ويُتلقى ممزوجاً بجوانب متعددة ـ قد يُلهي ذلك بعض المستمعين عن تتبُّع هفواته، والالتفات إلى عثراته، خصوصاً إذا عُرض الخبر ضمن حادثة معروفة ثابتة.

وقد يكون عدم ثبوت بعض الأخبار أو جزئياتها غيرَ مؤثرٍ في مسير الأحداث والصورة العامة لها، فيعود الحديثُ عنها والتصدّي لها في سلّم الأولويات؛ لأنها تؤثّر سلباً على صورة عاشوراء المشرقة، وعند ذلك فمسؤوليتنا ـ كمنتمين لمدرسة عاشوراء، ومؤمنين بسموِّها ورفعتها، ومعتزّين بشموخها وهيبتها ـ تُحتّم علينا التعرّض لتلك الأخبار أو جزئياتها، وبيان حقيقة الأمر فيها ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً.

 

خبر قطع رأس بكر بن غانم بعد قتله

خبرٌ ـ وبعبارة أدقّ جزء خبرٍ ـ يتداوله بعض الخطباء (وفقّهم الله) وهم يسردون وقائع قتال عليِّ بن الحسين الأكبر عليه السلام  في يوم عاشوراء، ومؤدّاه: أنّ رجلاً فارساً فاتكاً من جيش عمر بن سعد يُقال له: (بكر بن غانم) برز لقتال عليٍّ الأكبر عليه السلام ، فتقاتلا وتمكّن عليُّ بن الحسين عليهما السلام  من قتل غريمه ابن غانم، ثم احتزّ رأسه، وأتى بالرأس إلى أبيه الحسين عليه السلام  متفاخراً بذلك، وطالباً للجائزة على فعله وبطولته، ولم يكن يطمع بأكثر من شربة ماءٍ.

ولعلّ كثرة تردُّد هذا الخبر على الأسماع جعل بعضنا يأنس به رغم غرابة العمل ـ وهو قطع الرأس ـ واستبعاد صدورهِ من سليل الرسالة ونجل النبوة، عليّ بن الحسين الأكبر عليه السلام ، فلم نتساءل ـ كعموم مستمعين لا كأفراد ـ : أليسَ هذا الفعل مخالفاً لما جاءت به النصوص الواردة عن النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وأهل بيته الأطهار عليهم السلام  من حُرمة المُثلة، فكيف يُستساغ هذا التمثيل من حزّ الرأس وحمله باليد؟!!

يحقّ لنا أن نضع هذا الخبرَ المُتداول على ألسنة بعض الخطباء والذاكرين على طاولة البحث والنقد، والذي ترسّخَ بمرور الزمن ممزوجاً بشجاعة عليٍّ الأكبر عليه السلام  في كربلاء، ومشوباً بصورة مثيرة للعواطف والبكاء، فقد رجع الأكبر عليه السلام  لأبيه الإمام الحسين عليه السلام  يشكو العطش الشديد وطلب الجائزة برأس بكر بن غانم.

ولعل هذه الأجواء المشحونة عاطفةً وشجاءً تُبعدُ ـ نوعاً ما ـ إثارة التساؤل والاعتراض أو تجعل بعضاً يتسامح في نقده بحجّة ما يتركه نقل الخبر من تهييج للعواطف وإثارة للأشجان، ناسين أو متناسين أنه إلى جنب ذلك ستكون صورة مشوهة للحدث وللشخصيات السامية، وإظهارها بعيدةً عن روح الإسلام وسماحة تعاليمه، ومؤسِّسةً للعنف والبطش وظاهرة حزّ الرؤوس المستفحلة في عالمنا اليوم، إذا ما أمعنا النظر، وأخلصنا التأمل.

وقبل نقد الخبر وطرح استبعادات صدور هذا الفعل من شبيه المصطفى عليٍّ الأكبر عليه السلام ، نتعرّف أوّلاً على مصادر هذه الحكاية المتداولة، ثمّ نعرض نصوص المصادر المعتبرة في قتال ورجوع عليٍّ الأكبر عليه السلام  من ساحة القتال، لتتشكل بعد ذلك رؤية واضحة للخبر وتفاصيله، ونصدر الحكم بعدها على الخبر.

 

خبر قطع رأس بكر بن غانم في المصادر

بعد البحث والتتبع يُمكننا القول بثقةٍ وتثبّت: إنّ خبر قطع رأس بكر بن غانم لم يرد في مصدرٍ معتبر ولا مقتلٍ معتمَد، وهو أمرٌ يُثير الاستغراب والدهشة، فمع شهرة هذا الخبر وتداوله لا ترى له أثراً في المصادر وكتب المقاتل!!

بل الأكثر غرابةً أنّ الكتب غير المعتبرة ـ والتي اشتملت على الصحيح والضعيف من أخبار عاشوراء ـ خلت هي الأُخرى من هذا الخبر، أو ذكرت قتل الأكبر عليه السلام  لبكر بن غانم دون الحديث عن حزّ الرأس، فضلاً عن حمله إلى أبيه الحسين عليه السلام .

فكمال الدين الحسين بن علي الواعظ الكاشفي المتوفّى سنة (910 هـ)، صاحب كتاب (روضة الشهداء)، لم يأتِ على ذكر الخبر من قريب أو بعيد[1]، مع انتهاجه للأُسلوب القَصصي في عرض الحوادث، والذي قد يصل أحياناً إلى الأُسلوب الخيالي.

أما الفاضل الدربندي المتوفّى سنة (1285 أو 1286هـ)، فلم يورد هو الآخر قضية حزّ الرأس، مع إيراده لخبر قتال بكر بن غانم، على الرغم من منهجه التسامحي في إيراد الأخبار.

وساق الخبر في أسرار الشهادة هكذا: «... وطلب البراز، فلم يبرز إليه أحد، فهتف عمر بن سعد ببكر بن غانم وندبه فبرز إليه، فلما برز تغيّر لونُ الحسين، فقالت ليلى أُمُّ عليّ: ممَّ تغيُّرك يا سيدي؟ لعله قد أصابه شيء؟

قال: لا، ولكن قد برز إليه مَن يُخاف عليه منه، فادعِ لولدك علي، فإنّي قد سمعت من جدي رسول الله صلى الله عليه وآله: إن دعاء الأُم مُستجاب في حقّ ولدها.

قال: فجرّدت رأسها، وهي في الفسطاط، ودعت له إلى الله عزّ وجل بالنصر عليه.

وقال: جرى بينهما حرب شديد، حتى انخرق درعُ بكر بن غانم من تحت إبطه، فعاجله عليٌّ بن الحسين بضربةٍ قسمه نصفين لا رحمه الله»[2].

وهكذا أورده صاحب معالي السبطين نقلاً عن الفوادح للشيخ حسين البحراني، فقال: «لما برز عليّ بن الحسين عليه السلام  وطلب المبارز، فلم يبرز إليه أحدٌ، فدعا ابنُ سعدٍ طارقَ بن كثير، وقال له: تأخذ ما تأخذ من ابن زياد، فاخرجْ إلى هذا الغلام وجئني برأسه. فقال: أنت تأخذ مُلك الريّ وأنا أخرج إليه! فإن تضمن لي إلى الأمير إمارة الموصل أخرجْ إليه. فضمنَ وأعطاه خاتمه ميثاقاً له، فخرج وقاتل قتالاً شديداً إلى أن ضربَ علي بن الحسين عليه السلام عليه ضربةً منكرةً فقتله، فخرج أخوه وضرب عليٌ عليه السلام  على عينيه وقتله، فلم يخرج إليه أحدٌ، إلى أن نادى عمر: ألا رجل يخرجُ إليه. فبادر إليه بكرٌ بن غانم، فلما خرج إليه اللعين تغيّر وجهُ الحسين عليه السلام ، فقالت أُمّهُ ليلى: يا سيدي، ولعل قد أصابه شيءٌ؟ قال: لا، ولكن قد خرج إليه من أخاف عليه؛ فادعي له؛ فإنّي قد سمعتُ من جدي رسول الله صلى الله عليه وآله أن دعاء الأُمّ يُستجاب في حق الولد. فكشفت رأسها، ودعت له، ولعنت بكراً إلى أن جرى بينهما ما جرى، وتعاركا معركةً شديدة، إلى أن التفت علي بن الحسين عليه السلام  تحت إبطه وقد انخرق درعه، فضربه علي ضربةً فقطعه نصفين»[3].

وبهذا يغيب خبر قطع الرأس تماماً عن المصادر التي لا تتميّز باعتبارٍ واعتماد كافيَين، فضلاً عن غيابه عن المصادر القديمة والمعتبرة.

نعم، يوجد هذا الخبر في كتبٍ غير معتمدة، خلطت بين الصحيح والضعيف من أخبار عاشوراء، وفيها أخبار أقرب للقَصص وحكايات القصاصين منها إلى الأخبار التاريخية، فقد نقل السيد علي الهاشمي المتوفّى سنة (1396هـ) في كتابه (ثمرات الأعواد) خبر حزّ الرأس والإتيان به، ومن دون ذِكر المصدر الذي نقل عنه، فضلاً عن سند الرواية.

قال صاحب الثمرات: «ثم طلب البراز، فلم يبرز إليه أحد، فحمل على القوم وجعل يضرب فيهم بسيفه، هذا والحسين عليه السلام  واقف بباب الخيمة وليلى تنظر في وجه الحسين عليه السلام  تراه يتلألأ نوراً وسروراً بشجاعة ولَدِه عليٍّ، فينما هو كذلك إذ تغير لون وجهه، فقالت له ليلى: سيدي، أرى لون وجهك قد تغيّر، أهل أُصيب ولدي؟

فقال لها: لا يا ليلى، ولكن برز له مَن أخاف منه عليه، يا ليلى، ادعي لولدك عليِّ.

دخلت ليلى إلى الفسطاط، نشرت شعرها، جرّدت عن ثدييها، قائلة: إلهي، بغربة أبي عبد الله، إلهي، بعطش أبي عبد الله، يا راد يوسف إلى يعقوب اُردُدْ إليَّ ولدي علياً.

قال الراوي: فاستجاب الله دعاء ليلى، ونصر علياً على بكر، فقتله وحزّ رأسه، وجاء به إلى أبيه الحسين عليه السلام ، وقد قتل مائة وعشرين فارساً، وهو ينادي: أبه، العطش قد قتلني، وثقل الحديد قد أجهدني، فهل إلى شربة ماء من سبيل، أتقوّى بها على الأعداء؟...»[4].

 

روايات قتال عليٍّ الأكبر عليه السلام  ورجوعه من ساحة الحرب

تحدثت المصادر المعتبرة والمقاتل المعتمدة عن قتال عليٍّ الأكبر عليه السلام  وشجاعته وأراجيزه ورجوعه لأبيه الحسين عليه السلام  واستسقائه الماءَ من أبيه، أو إخبارَ أبيه بالعطش الذي يُعانيه، وسنختصر في السرد على الأخبار التي تحدثت عن رجوعه من ساحة الحرب، ولقائه بأبيه الحسين عليه السلام  ثم نزوله للميدان مجدداً؛ والسبب في ذلك أن الخبر المزعوم يدّعي أن علياً الأكبر عليه السلام  عاد برأس بكر بن غانم لأبيه الحسين عليه السلام ، ومن خلال سرد روايات رجوع الأكبر لأبيه عليه السلام  تتوضح الصورة لنا من خلال المصادر المعتبرة بما يدحض الصورةَ المشوَّهَة والمشوِّهة.

 1ـ رواية الشيخ الصدوق: روى الشيخ الصدوق رحمه الله في أماليه حديثاً عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام  نقله عن أبيه الإمام محمد الباقر عليه السلام  عن أبيه الإمام زين العابدين عليه السلام : «فلمَّا بَرَزَ إِلَيْهِمْ (عليّ بن الحسين) دَمَعَتْ‏ عَيْنُ‏ الحُسَيْنِ‏ عليه السلام  فقال: اللَّهُمَّ، كُنْ أَنْتَ الشَّهِيدَ عليهِمْ؛ فَقَدْ بَرَزَ إِلَيْهِمُ ابْنُ رَسُولِكَ وَأَشْبَهُ النَّاسِ وَجْهاً وَسَمْتاً بِهِ.

فجعَلَ يَرْتَجِزُ وهو يقولُ:

نَحْنُ وَ بَيْتِ اللهِ أَوْلَى بِالنَّبِيِ‏               أَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍ‏

أَمَا تَرَوْنَ كَيْفَ أَحْمِي عَنْ أَبِي‏

فَقَتَلَ منهُمْ عَشَرَةً، ثُمَّ رَجَعَ إلى أَبِيه، فقال: يَا أَبَتِ، العَطَشَ. فقال له الحُسينُ عليه السلام : صَبْراً يَا بُنَيَّ، يَسْقِيكَ جَدُّكَ بِالْكَأْسِ الأوْفَى. فَرَجَعَ فقاتلَ حَتَّى قَتَلَ منهُمْ أَرْبَعَةً وَأَرْبَعِينَ رَجُلاً، ثُمَّ قُتِلَ صلّى الله عليه»[5].

2ـ رواية الخوارزمي: روى الخوارزمي في كتابه (مقتل الحسين عليه السلام ) ما نصّه: «... فلم يزَلْ يُقاتل حتى ضجَّ أهلُ الكوفةِ لكثرةِ مَن قُتل منهم، حتى أنّه رُويَ أنّه على عطشه قتلَ مئةً وعشرينَ رجلاً، ثمَّ رجَعَ إلى أبيهِ وقد أصابته جِراحاتٌ كثيرة، فقال: يا أبه، العطشُ قد قتلني، وثِقلُ الحديد قد أجهدني، فهل إلى شربةٍ من ماءٍ سبيل، أتقوّى بها على الأعداء؟

فبكى الحسينُ عليه السلام ، وقال: يا بُنيّ، عزَّ على مُحمدٍ وعلى عليٍّ وعلى أبيك أن تدعوهُم فلا يُجيبونَك، وتستغيثُ بهم فلا يُغيثونك...»[6].

3ـ رواية ابن شهر آشوب: روى الشيخ ابن شهر آشوب& في كتابه مناقب آل أبي طالب، ما نصّه: «ثم تقدَّم عليٌّ بن الحسين الأكبر عليه السلام  وهو ابنُ ثمان عشر سنة، ويقال: ابنُ خمس وعشرين، وكان يُشبَّه برسول الله صلى الله عليه وآله خَلقاً وخُلُقاً ونطقاً، وجعل يرتجز ويقول:

من عُصبةٍ جَدُ أبيهِمُ النبي                 أنا عليُّ بنُ الحسينِ بن علي

واللهِ لا يحكم فينا ابنُ الدعي               نحنُ وبيتِ اللهِ أوْلى بالوصي

أطعنُكُم بالرمحِ حتى ينثني                 أضربُكُمْ بالسيفِ أحمي عن أبي

طعنَ غلامٍ هاشميٍّ علوي

فقتل سبعين مبارزاً، ثم رجَعَ إلى أبيه وقد أصابته جِراحاتٌ، فقال: يا أبه، العطشُ. فقال الحسين عليه السلام : يسقيك جدُّك، فكرَّ أيضاً عليهم، وهو يقول:

وظهرت من بعدِها مَصادقُ               الحربُ قد بانتْ لها حقائقُ

جموعَكُمْ أو تُغمدُ البوارقُ                 واللهِ ربِّ العرشِ لا نفارقُ

 فطعنه مُرّةُ بنُ مُنقِذٍ العَبديُّ على ظهرِه غدراً، فضربوه بالسيف.

فقال الحسين عليه السلام : على الدنيا بعدك العَفا، وضمَّه إلى صدرِه، وأتى به إلى باب الفُسطاط، فصارت أُمُّه شهربانويه[7] وَلهى تنظر إليه ولا تتكلم، فبقى الحسين عليه السلام  وحيداً»[8].

4ـ رواية ابن طاووس: أورد السيد ابنُ طاووس& في كتابه اللهوف وقائع قتاله عليه السلام  كالآتي: «فلمّا لم يبقَ معه سوى أهل بيته خرج عليٌّ بنُ الحسين عليه السلام  وكان من أصبحِ الناس وجهاً، وأحسنِهم خُلقاً، فاستأذن أباه في القتال، فأذن له، ثم نظر إليه نظر آيسٍ منه، وأرخى عليه السلام  عينهِ وبكى.

ثم قال: اللهمَّ اشهدْ، فقد برز إليهم غلامٌ أشبهُ الناس خَلْقاً وخُلُقاً ومنطقاً برسولك صلى الله عليه وآله، وكنا إذا اشتقنا إلى نبيِّك نظرنا إليه، فصاح وقال: يا بن سعد، قطع اللهُ رَحِمَك كما قطعت رحمي.

فتقدّم نحو القوم، فقاتل قتالاً شديداً، وقتل جمعاً كثيراً، ثم رجع إلى أبيه، وقال: يا أبت، العطشُ قد قتلني، وثِقلُ الحديد قد أجهدني، فهل إلى شربةٍ من ماء سبيل؟

فبكى الحسين عليه السلام ، وقال: واغوثاه! يا بني، قاتل قليلاً، فما أسرع ما تلقى جدك محمداً صلى الله عليه وآله، فيسقيك بكأسه الأوفى شربةً لا تظمأ بعدها أبداً.

فرجَع إلى موقفِ النزال، وقاتل أعظمَ القتال، فرماه مُنقذُ بنُ مُرّة العَبدي لعنه الله تعالى بسهمٍ فصرعه، فنادى: يا أبتاه، عليك السلام، هذا جدي يقرؤك السلام، ويقول لك: عجّل القدوم علينا، ثم شهق شهقةً فمات.

فجاء الحسين عليه السلام  حتى وقف عليه، ووضع خده على خده، وقال: قتل الله قوماً قتلوك، ما أجرأهم على الله! وعلى انتهاك حرمة الرسول! على الدنيا بعدك العَفَاء»[9].

5ـ رواية المجلسي: قال العلامة المجلسي& في بحار الأنوار: «وقال أَبو الفَرَجِ في المقاتلِ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ، عن يحيى بنِ الحَسَنِ، عن بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الوَهَّابِ، عن إِسْمَاعِيلَ بنِ أَبِي زِيَادٍ إِدْرِيسَ، عن أَبِيه، عن جَعْفَرِ بنِ مُحَمَّدٍ، عن أَبيه عليه السلام :‏ أَنَّ أَوَّلَ قَتِيلٍ قُتِلَ مِنْ وُلْدِ أَبِي طَالِبٍ مَعَ الحُسَينِ ابْنُهُ عَلِيٌّ. وحدَّثَنِي أحمدُ بنُ سَعِيدٍ، عن يحيى بنِ الحَسَنِ، عن غيرِ وَاحِدٍ، عن مُحَمَّدِ بنِ أَبِي عُمَيْرٍ، وعن أَحمدَ بنِ عبدِ الرَّحْمَنِ الْبَصْرِيِّ، عن عبدِ الرَّحْمَنِ بنِ مَهْدِيٍّ، عن حَمَّادِ بنِ سَلَمَةَ، عن سَعِيدِ بنِ ثَابِتٍ، قال: لمّا بَرَزَ عَلِيُّ بْنُ الحُسَين إليهِمْ أَرْخَى الحُسَيْنُ عليه السلام  عَيْنَيْهِ فَبَكَى، ثُمَّ قال: اللَّهُمَّ، فَكُنْ أَنْتَ الشَّهِيدَ عَلَيْهِمْ؛ فَقَدْ بَرَزَ إِلَيْهِمْ غُلَامٌ أَشْبَهُ الْخَلْقِ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله. فجَعل يَشُدُّ عَلَيْهِمْ‏ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلى أَبيهِ فيقولُ: يَا أَبَهْ، الْعَطَشَ. فيقولُ لَهُ الحُسَينُ: اصْبِرْ حَبِيبِي؛ فَإِنَّكَ لَا تُمْسِي حَتَّى يَسْقِيَكَ رَسُولُ اللهِ بِكَأْسِهِ. وجعلَ يَكُرُّ كَرَّةً بعدَ كَرَّةٍ، حَتَّى رُمِيَ بِسَهْمٍ فَوَقَعَ في حَلْقِهِ فَخَرَقَهُ، وأَقْبَلَ يَتَقَلَّبُ فِي دَمِهِ، ثُمَّ نادى: يَا أبتاه، عليكَ السَّلامُ، هَذَا جَدِّي رسولُ اللهِ يُقْرِئُكَ السَّلامَ ويقولُ: عَجِّلِ القَدُومَ علينا. وَشَهَقَ شَهْقَةً فارقَ الدُّنْيَا»[10].

ونكتفي بهذا القدر من روايات الكتب المعتبرة والمعتمدة في سرد حادثة رجوع عليّ الأكبر عليه السلام  لأبيه الحسين عليه السلام ، فبه تتوضح لنا الصورة الحقيقية نقيةً من الزيادات الزائفة والمشوِّهة والتي أوردها القصّاصون بلا وازعٍ في رعاية الأمانة العلمية في النقل، ولا وعيٍّ من إلصاق فعلٍ مُشين بشبيه المصطفى خَلقاً وخُلقاً ومنطقاً!!

 

استبعادات وقوع الخبر

بعد سرد الخبر بصورتيه، المعتبرة والملفّقة، ومع وضوح الزيف والإضافة المشينة، وتكشّف أنّه ينتمي إلى خيال وتساهل بعض القصّاصين والذاكرين، ولا يرقى أن يكون خبراً ضعيفاً؛ لعدم وجوده من الأساس في مصدرٍ معتبرٍ، مع هذا وذاك لا نجد مانعاً من طرح استبعادات لصدور هذا الفعل من سليل الرسالة عليِّ بن الحسين عليهما السلام ، ومؤيدات تنفي وقوع هذا الخبر عن ساحته الجليلة، تقف إلى جنب عدم وروده في مصدر معتبر، تضعّف الصدور وتعاضد الرفض.

والغياب التام للخبر وعدم إشارة المصادر والمقاتل المعتمدة والمعروفة كافٍ في رفض الخبر ونفيه، ولكن قد يقول قائل: عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود، وعدم وجوده في المصادر المتوفرة لا يعني عدم وروده في المصادر المفقودة وهي كثيرة، وإن كنّا لا نقطع بوجوده في مصدرٍ مفقود فإنّا لا نقطع بعدم وجوده كذلك.

ومن هنا؛ نسجّل بعض الاستبعادات النافية للخبر المزعوم، والتي تُجلُّ ساحة الحسين عليه السلام  عن أن تلوّث بمثل هذه الحكايات والقَصص الخيالية:

الاستبعاد الأول: سموُّ قدْرِ عليٍّ الأكبر عليه السلام  وعلوّ مكانته، وتحرّزه في دينه، وهو الناشىءُ في منازل النبوة والمترعرع في بيوتاتها، فكيف يُستساغ أن يُقدِمَ عليُّ بن الحسين عليهما السلام  على هذا الفعل مع وضوح النهي الشرعي عن التمثيل بالقتيل، لا بل بالكلب العقور؟! كما في وصية جدّه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ؛ حيث أوصى بعدم التمثيل بجثة قاتله فقال: «يا بني عبدِ المطلب، لا ألفينّكم تخوضون دماءَ المسلمين خوضاً، تقولون: قُتل أميرُ المؤمنين، قُتلَ أميرُ المؤمنين، ألا لا يُقتلنّ بي إلّا قاتلي، اُنظروا إذا أنا متُّ من ضربته هذه فاضربوه ضربةً بضربة، ولا يُمثَّلُ بالرجل؛ فإنّي سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وآله يقول: إيّاكم والمثلةَ، ولو بالكلبِ العَقور»[11].

الاستبعاد الثاني: من أدب الحرب في الإسلام عدم التمثيل بالقتيل، وهذا ما كان يدأب النبيُّ الأكرم صلى الله عليه وآله على الإيصاء به، وتثبيته في أخلاقية المحارب في الإسلام، ففي الكافي: بإسناده عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد الله عليه السلام  قال: «إنّ النبي صلى الله عليه وآله كان إذا بعث أميراً له سرية أمره بتقوى الله عزّ وجلّ في خاصة نفسه، ثم في أصحابه عامة، ثم يقول: اغزُ بسم الله، وفي سبيل الله، قاتلوا مَن كفرَ بالله، ولا تغدروا، ولا تغلّوا، ولا تُمثّلوا، ولا تقتلوا وليداً، ولا متبتلاً في شاهق، ولا تحرقوا النخل، ولا تغرقوه بالماء، ولا تقطعوا شجرة مثمرة...»[12]، وأمثال ذلك الكثير.

فهل ترى ذلك كلّه كان غائباً عن عليٍّ الأكبر عليه السلام ، أم تراه كان متجاهلاً لكل هذا الإرث النبوي السامي؟!

وكيف ذاك وهو كما وصفه أبوه أبو عبد الله الحسين عليه السلام  عندما برز للقتال: «اللهمَّ اشهدْ، فقد برزَ إليهم غلامٌ أشبهُ الناسِ خَلقاً وخُلُقاً ومنطقاً برسولِك صلى الله عليه وآله، وكنّا إذا اشتقنا إلى نبيِّكَ نظرنا إليه»[13].

الاستبعاد الثالث: إذا فرضنا جدلاً أنّ علياً الأكبر عليه السلام  قد فعل هذا الفعل، واحتزّ رأس بكر بن غانم، وجاء به إلى أبيه الحسين عليه السلام ، بدافعٍ ما، كحماس الشباب واندفاعهم، أو بدافع إدخال الرعب في قلوب الأعداء، أو غيرها من الدوافع، فهل يُستساغ أن يسكت الإمام الحسين عليه السلام  عن هذا العمل ـ وسكوتُه إمضاء ـ ولا يعترض على وَلَدهِ، ولا يُنبهه مسدِّداً له وموجِّهاً، بل ومحافظاً على قيمة إسلامية سامية وأدب رفيعٍ من آداب الحرب في الإسلام، والحسين عليه السلام  هو الناهض بأعباء الحفاظ على الإسلام النقي وتعاليمه؟!

وقد يُعترض على هذا الاستبعاد بأنَّ المقام لا يناسب أن ينهى الإمامُ الحسين عليه السلام  ولدَه عليّاً الأكبر عليه السلام  عن هذا الفعل؛ لأنَّ الساحة ساحة حرب وقتال، وقد تكون للنهي هنا تداعيات سلبية كالفتِّ في عضد معنوية عليٍّ الأكبر عليه السلام  واندفاعه للقتال.

ويُردّ عليه: أنّ النهي لما كان واجباً فلا وجه للقول: بأنّ المقام لا يناسب النهي، والإمام الحسين عليه السلام  ملقىً على عاتقه تصحيح مسار الأُمة وإصلاح ما فسد من أمر الدين بكل جزئية من جزئياته، وقد حرص عليه السلام  على الأمر المستحب كصلاة الجماعة فكيف بالواجب وهو النهي عن المُثلة؟! وبهذا لا نتصور إجراء قاعدة التزاحم هنا وتقديم الأهم على المهم.

وإن قيل: ربما نهى الإمامُ عن ذلك الفعل ولكن لم يصل النهيُ إلينا.

فنقول: عدم وصول النهي بعد صدوره من الإمام عليه السلام  مستبعد مع وصول تفاصيل أُخرى أقل أهميةً منه، ولو نهى الإمام عليه السلام  لوصل إلينا النهي مع توفر الدواعي لنقله.

الاستبعاد الرابع: بكرُ بن غانم ـ كما يدلُّ عليه خبر قتاله مع عليٍّ الأكبر عليه السلام  ـ فارسٌ مغوار، اشتُهر بشجاعته وقوته، معتمَدٌ عند عمر بن سعد، وقد وقع اختيار ابن سعدٍ عليه لقتال عليٍّ الأكبر عليه السلام  بعد أن ضجّ أهل الكوفة لكثرة مَن قُتِل منهم.

وما نُسب للحسين عليه السلام  من قول يكشف عن شجاعة الرجل وشراسته بوضوح وجلاء، فقد قال عليه السلام  ـ تبعاً للخبر ـ : «برزَ له مَنْ أخافُ منهُ عليه»، كما أورده صاحب ثمرات الأعواد.

اكتفى الحسين عليه السلام  بهذه العبارة في التعريف بالخطر الذي يداهم عليّاً الأكبر عليه السلام ، وكلامه عليه السلام  يدلُّ على أنّ الرجلَ غنيٌّ عن التعريف، فهو في شجاعته وقوته وبطشه قد بعث الخوفَ في نفس الحسين عليه السلام  على حياة وَلدِه وسلامة فِلْذة كبده عليٍّ الأكبر عليه السلام .

ولكننا سنُفاجأ بأنّ هذا الرجل ـ وهو بهذه الشهرة والصيت ـ لا وجود له إلا في هذا الخبر، فأحداث كربلاء لم تسجّل لنا موقفاً آخرَ له، أو ذِكراً لاسمه، ومن بعد سجلات كربلاء جهلته كتبُ التأريخ والرجال، فهو غائب تماماً عن كل هذا، فكيف تتناسب هذه الشهرة التي يُصورها الخبر له مع ذلك؟!!

وقد يقول قائل: هذا الاستبعاد ينفي أصل قتال عليٍّ الأكبر عليه السلام  لبكر بن غانم، ولا يكتفي بنفي قطع الرأس فقط.

فنقول: الحق مع القائل هنا، فمع استبعاد وجود بكر بن غانم أساساً سينتفي أمر قتاله، فضلاً عن قتله وحزِّ رأسه، لكن ما يهمّنا في المقام هو نفي حزِّ الرأس، وليس أمر وجوده، والاستبعاد المطروح يصلح لذلك مع سعته لنفي وجود هذه الشخصية من الأساس.

الاستبعاد الخامس: صعوبة حزّ الرأس والمعركة دائرة، ولا أقول استحالة ذلك، فما لم تضع الحربُ أوزارَها، ويُجلّي السكونُ غبارَها، فإنّ حزّ رأس القتيل والحربُ قائمة يعني فسح المجال للعدو للانقضاض عليه، ويزيد هذا الاحتمال ويقوى مع طبيعة معركة كربلاء، فلنا أن نتصوّر النتيجة لو نزل عليٌّ الأكبر عليه السلام  لبكر بن غانم واحتز رأسه، والأعداء قد أحاطوا به، وهو وحيد في الميدان، ولتقريب الصورة أذكّر القارئ الكريم بمشهد القاسم بن الحسن عليهما السلام  عندما أهوى ليشدَّ شسعَ نعله، وهي عملية أقل مؤونة وأسرع إنجازاً من حزّ رأسٍ، ولكنها كانت فرصةً مؤاتية للعينٍ غادرٍ أن ينقضَّ على القاسم عليه السلام  بسيفه ويُرديه مضمخماً بدمه الزكي.

إلّا أن يقال: إنّ النزال كان فرداً لفردٍ، وهو أمرٌ متعارف في المعارك آنذاك، وحينها لا يوجد خطر كبير يهدد الأكبرَ عليه السلام ؛ وحينئذٍ ينتفي هذا الاستبعاد.

ويمكن الرد عليه بـ: أنّ ما يُستشفّ من أجواء المعركة لا يُساعد على هذا الاحتمال، مع عدم القطع بنفيه، فالمساحة لم تكن بهذا البعد المفترض، وأجلى من ذلك في استبعاد هذا الاحتمال أنّ روايات رجوع عليٍّ الأكبر عليه السلام  تحدّثت عن حملاته على الجيش وقتله عدداً منهم، وكل ذلك يصوّر لنا أنه لم يكن بمنأى عن جيش عمر بن سعد وبعيداً عنه، فقد روى الخوارزمي في مقتله: «ثم حَمَلَ عليُّ بن الحسين وهو يقول:

أنا علي بنُ الحسين بن علي

                        نحن وبيت الله أوْلى بالنبي

فلم يزَلْ يُقاتل حتى ضجَّ أهلُ الكوفةِ لكثرةِ مَن قُتل منهم، حتى أنّه رُويَ أنّه على عطشه قتلَ مائةً وعشرينَ رجلاً، ثمَّ رجَعَ إلى أبيهِ وقد أصابته جِراحاتٌ كثيرة، فقال: يا أبه، العطشُ قد قتلني، وثِقلُ الحديد قد أجهدني، فهل إلى شربةٍ من ماءٍ سبيل، أتقوّى بها على الأعداء؟..»[14].

الاستبعاد السادس: قد تُطرح دوافع ومسوغات لهذا العمل كما مر في الاستبعاد المتقدم كاندفاع الشباب وحماستهم، أو إدخال الرعب في قلوب الأعداء، أو بث الاطمئنان في قلوب معسكر الحسين عليه السلام ، وغيرها من التبريرات التي قد تكون مقبولة بمستوى ما وبنظرة سطحية، ولكن بنظرة أعمق وبموازنة بين هذه التبريرات وما يعكسه هذا الفعل من صورة بعيدة عن روح الإسلام وتعاليمه يتضح لنا أنّ هذه التبريرات ستكون هزيلةً واهية لا تصمد أمام النتيجة النهائية.

الاستبعاد السابع: خبر حزّ الرأس والإتيان به للإمام الحسين عليه السلام  يرتبط بوجود ليلى أُمّ عليٍّ الأكبر عليه السلام ، فمن يرويه ـ مع ما في روايته من علل ـ يروي وقوفَ ليلى عند الحسين عليه السلام  وهو يراقب قتال وَلَدِه، ثم تسأله عن خبر وَلدها عندما يتغيّر لون وجهه عليه السلام ، فيخبرها أنّ بكر بن غانم قد برز له، إلى آخر الخبر.

ومعروف أنّ وجودَ ليلى أمِّ عليٍّ الأكبر عليه السلام  في الطفّ هو نفسه موضع حديثٍ وأخذ وردّ، ولعل صوتَ النافين لوجودها في كربلاء أعلى من صوت المثبتِين، فيكون الخبر ـ مع ما فيه من جهاتٍ أُخرى ـ مرتبطاً بقضية وجود ليلى بنت أبي مُرة بن عروة بن مسعود الثقفي رضوان الله عليها.

وهنا تنبيهان:

الأول: ما أُثير في الاستبعاد الرابع يُثار هنا، وهو أن هذا الاستبعاد ينفي أصل قتال وقتل بكر بن غانم، والجواب هناك نفس الجواب هنا.

الثاني: وجود بكر بن غانم مرتهن بوجود ليلى أُمّ علي الأكبر عليه السلام  ـ حسب هذا الاستبعاد ـ ولا عكس؛ إذ لو انتفى هذا الخبر فالمثبتون لوجودها في كربلاء لهم أدلة أُخرى على وجودها، ليس هذا مقام الحديث عنها.

إشكالات وردود

رغم ما تقدم من استبعادات تُبعد ـ بل وتنفي ـ وقوع هذا الفعل الشنيع بقي أن نشير إلى  بعض الإشكالات التي ربما ترد على تلك الاستبعادات، نستعرضها فيما يلي:

الإشكال الأوّل: قد يقول قائل: يمكن أن يكون عليٌّ الأكبر عليه السلام  قد قطع رأس بكر بن غانم بضربة سيفٍ أثناء القتال، وهذا يقع في الحروب، ولا يُعد من المُثلة في شيء.

ويردّه: أنَّ الخبرَ المصطنع لا يفترض ذلك ولا يصوّر المشهد هكذا، بل يقول: قتله ثمّ احتزّ رأسه، والأكثر دفعاً لهذا الافتراض هو التصريح بأنه جاء برأس بكر بن غانم إلى أبيه الحسين عليه السلام ، بل ويُنشدون شعراً على لسان عليٍّ الأكبر عليه السلام  في تلك اللحظات حيث يقول:

صيدُ الملوكِ ثعالبٌ وأرانبٌ

                        وإذا برزتُ فصيديَ الأبطالُ

ورواية الدربندي: «حتى انخرق درعُ بكر بن غانم من تحت إبطه، فعاجله عليٌّ بن الحسين بضربةٍ قسمه نصفين لا رحمه الله»[15]، فلا تدلُّ ـ لو تمّ الاستدلال بها ولا يتمّ ـ على قطع الرأس كما هو واضح، بل قطع جسمه إلى نصفين.

الإشكال الثاني: قد يقال: تداول الخبر على الألسن يدلُّ على وجودٍ ما، فقد يكون وارداً في مصدرٍ فُقد، أو نُقل شفاهةً لا كتابةً، فوصلنا سماعياً لا مأثوراً.

ويردُّ هذا القول: أنّ التداول بل الشهرة ليست دليلاً على حتمية الوجود، فكم من مشهور لا أصلَ له، ونحن لم نتوقف عند هذا الخبر لانعدام مصادره، بل أوقفتنا الاستبعادات وقادتنا المضعِّفات إلى البحث عن مصدر الخبر، فلم نعثر له على عينٍ ولا أثر، فلماذا نتمسك بعد ذلك بمثل هذه القصة الخيالية، وهي خادشةٌ لمكانة عليٍّ الأكبر عليه السلام  ورفعته وشخصيته؟!

إنّ عطاء عليّ بن الحسين الأكبر عليه السلام  في كربلاء وبطولته وشجاعته وتضحيته من أجل دينه ليست بحاجة إلى اختلاقٍ أو تزوير أو إضافة، فما ورد عنه باتفاق المؤرخين يكفيه خلوداً وشموخاً ورفعة، وقطعُ رأس رجلٍ بعد قتله هو أبعد ما يكون عن ساحة نجلِ الحسين عليه السلام ، وأقرب ما يكون من أعدائه، فهو بهم أليق وبنهجهم ألصق.

الإشكال الثالث: حادثة قتل بكر بن غانم وحزّ رأسه على يد علي الأكبر عليه السلام  والمجيء بالرأس لأبيه، لها حادثة مشابهة في زمن النبي صلى الله عليه وآله حيث قتل عبد الله بن مسعود أبا جهل وقطع رأسه وأتى به إلى النبيّ صلى الله عليه وآله، فحمد الله تعالى وشكره، وهي حادثة مذكورة معروفة. فلماذا نستبعد حادثةً بعد أن وقع نظيرها في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله ولم يستنكر ذلك الفعل؟!

الرد: ويمكن جواب هذا الإشكال في نقاطٍ:

الأُولى: خبر بكر بن غانم لم يرد في مصادر تأريخية معتبرة كما ورد خبر ابن مسعود في قطعه رأس أبي جهل، والمشكلة الأُولى التي تواجهنا في قضية بكر بن غانم عدم وجودها في مصدر معتبر، فضلاً عن وجود سند لها.

الثانية: الإجابة عن قضية بكر بن غانم بقضية عبد الله بن مسعود جوابٌ نقضيٌّ وليس جواباً حَليّاً، بمعنى أنّ هذا لا يحلّ القضيّة التي نحن فيها، بل يجعلها قضيتين، فكما ورد الإشكال في قضية ابن غانم يرد الإشكال نفسه في قضية أبي جهل.

الثالثة: قطع عبد الله بن مسعود رأس أبي جهل غير متفق عليه ـ على الأقل ـ إن لم نقل: غير ثابت، وذلك لأُمور، منها:

أولاً: النقاش في سند الخبر ورجاله، كرواية أبي عبيدة، عن أبيه عبد الله بن مسعود، حيث يُختلف في صحة سماعه عن أبيه؛ لأن أباه مات وقد كان صغيراً، يقول العسقلاني: «واختُلف في سماعه من أبيه والأكثر على أنّه لم يسمع منه، وثبت له لقاؤه وسماع كلامه فروايته عنه داخلة في التدليس»[16]،  والتوسع في هذا موكولٌ لغير هذا المحل.

ثانياً: تضارب الأحاديث في كيفية قتل أبي جهل وفي قاتله، وحاول ابن حجر العسقلاني الجمع بين تلك الأخبار، فقال: «فيُحْتَمل أَنْ يَكُون مُعَاذ بن عَفْرَاء شَدَّ عليه مع مُعَاذ بن عَمْرو كما في الصَّحِيح وضَرَبَهُ بعد ذلك مُعَوِّذ حتى أَثْبَته ثُمَّ حَزَّ رَأْسه ابن مَسْعُود، فَتُجْمَعُ الأقوال كُلّهَا»[17].

ثالثاً: تصريح بعض الأخبار أنّ عبد الله بن مسعود قطع رأس أبي جهل بالضربة التي قتله فيها، ولم يكن قتله قبل أن يحزّ رأسه، كما في الخبر الذي أورده ابنُ حجر العسقلاني في شرح الباري: «وأَمَّا ما وقَعَ عند مُوسى بن عُقْبَة وكذا عند أَبِي الأسود عن عُرْوَة: أَنَّ ابن مَسْعُود وَجَدَ أَبَا جَهْل مَصْرُوعاً بينه وبين المعركة غَيْر كَثِير مُتَقَنِّعاً في الْحديد واضِعاً سَيْفه على فَخِذه لا يَتَحَرَّك مِنْهُ عُضْو، وظنَّ عبد الله أَنَّهُ ثَبَتَ جِرَاحاً فَأَتَاهُ مِنْ وَرَائِهِ، فَتَناولَ قَائِم سَيْف أبي جَهْل فَاسْتَلَّهُ وَرَفَعَ بَيْضَة أَبي جَهْل عن قَفَاهُ فَضَرَبَهُ فوقَعَ رَأْسه بين يَدَيْهِ، فَيُحْمَل على أَنَّ ذلك وَقَعَ له بعد أَنْ خَاطَبَهُ بما تقدَّم، والله أَعلم»[18].

بل يظهرُ من بعضها أنّه لم يتم قطع الرأس، كما في رواية الاستيعاب لابن عبد البر، بغض النظر عن الاختلاف في رواية أبي عُبيدة عن أبيه عبد الله بن مسعود: «حدثنا خلف بن قاسم، حدثنا الحسن بن رشيق الدولابي، حدثنا عثمان بن عبد الله، حدثنا يحيى الحماني، حدثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر، فقلت: يا رسول الله، إنّي قتلت أبا جهل. قال: بالله الذي لا إله غيره، لأنت قتلته؟ قلت: نعم. فاستخفه الفرح، ثم قال: انطلق فأرنيه. قال: فانطلقت معه حتى قمت به على رأسه. فقال: الحمد لله الذي أخزاك، هذا فرعون هذه الأُمة، جرُّوه إلى القليب. قال: وقد كنت ضربته بسيفي فلم يعمل فيه فأخذت سيفه فضربته به حتى قتلته فنفلني رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه»[19].

ويُستبعد أنّ عبارة «حتى قُمتُ به على رأسه» تعني على الرأس مقطوعاً، بقرينة قول النبيِّ صلى الله عليه وآله: جرّوهُ إلى القليب. المنصرفة إلى جرّ الجسد.

نتيجة البحث

عرفنا من خلال هذا البحث أن لا صحةَ لما يتردد على ألسنة بعض الخطباء وغيرهم من أنّ عليَّ بن الحسين الأكبر عليه السلام  الشهيد بكربلاء، قد حزّ رأس بكر بن غانم بعدما قتله، وجاء إلى أبيه الحسين عليه السلام  وهو يحمل ذلك الرأس، في منظر هو أليق بأعداء أهل البيت عليهم السلام  وأُسلوبهم في قطع الرؤوس والتمثيل بالقتلى.

ويؤيد نفيَ قطع الرأس أُمورٌ:

أولاً: عدم ورود الخبر في مصدرٍ معتبر أو مقتل موثوق.

ثانياً: عدم وروده في المصادر التي خلطت بين الصحيح والضعيف من الأخبار واتخذت منهجاً تسامحياً.

ثالثاً: لم نعثر على الخبر إلا في كتبٍ غير معتبرة، ولا تتمتع بقيمةٍ ورصانة علمية، وهي إلى كتب القصص أقرب منها إلى كتب التأريخ والوقائع، مع خالص تقديرنا لأصحابها.

رابعاً: يضاف إلى ذلك استبعادات عديدة، أهمها:

1ـ تعارضه مع سمو شخصية علي الأكبر عليه السلام  وتحرزه في الدين.

2ـ منافاة هذا الفعل لأدب الحرب في الإسلام، وحرمة التمثيل بالقتلى.

3ـ عدم نهي الإمام الحسين عليه السلام  عن هذا الفعل، وهو الإمام الناهض بأعباء الحفاظ على الشرع وتعاليمه.

4ـ مجهولية بكر بن غانم المتعارضة مع الشهرة التي يُضفيها عليه الخبر.

5ـ صعوبة حزّ الرأس في تلك الأجواء والمعركة قائمة والقتال محتدم.

 

الكاتب : الشيخ أركان التميمي

مجلة الإصلاح الحسيني – العدد العاشر

مؤسسة وارث الأنبياء للدراسات التخصصية في النهضة الحسينية

_____________________________________

 

 

 

[1]  اُنظر: الكاشفي، حسين، روضة الشهداء: ص 655.

[2] الدربندي، آغا بن عابد، إكسير العبادات في أسرار الشهادات:ج2، ص515.

[3] الحائري، محمد مهدي، معالي السبطين: ج1، ص417.

[4] الهاشمي، علي بن الحسين، ثمرات الأعواد: ج 1، ص 233.

[5] الصدوق، محمد بن علي، الأمالي: ص162، المجلس الثلاثون.

[6] الخوارزمي، الموفق بن أحمد، مقتل الحسين عليه السلام : ج2، ص30.

[7]  وهذا من الغرائب، ولعل ابن شهر آشوب قد تفرّد بهذا، فشهربانويه أُمّ الإمام زين العابدين عليه السلام .

[8] ابن شهر آشوب، محمد بن علي، المناقب: ج4، ص 109.

[9] ابن طاووس، علي بن موسى، الملهوف: ص 166.

[10] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج45، ص45.

[11] نهج البلاغة، كتاب: 48.

[12] الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج 5، ص29.

[13] ابن طاووس، علي بن موسى، اللهوف في قتلى الطفوف: ص 113.

[14] الخوارزمي، الموفق بن أحمد، مقتل الحسين عليه السلام : ج 2، ص30.

[15] الدربندي، آغا بن عابد، إكسير العبادات في أسرار الشهادات: ج 2، ص 515.

[16] ابن حجر العسقلاني، أحمد بن علي، طبقات المدلسين: ص48.

[17] ابن حجر العسقلاني، أحمد بن علي، فتح الباري في شرح صحيح البخاري: ج11، ص301.

[18] ابن حجر العسقلاني، أحمد بن علي، فتح الباري في شرح صحيح البخاري: ج11، ص301.

[19] ابن عبد البرّ، يوسف بن عبد الله، الاستيعاب في معرفة الأصحاب: ج 1، ص303.

 

المرفقات