المؤسّسة الشعائرية (الأهداف والغايات)

أشرنا في مقدّمة هذا البحث إلى توجّه أنظار أئمّة أهل البيت عليهم السلام  بعد الفاجعة إلى التركيز على بناء كيان التشيّع، وأشرنا إلى أنّ توظيف المظلومية الحسينية ومأساة كربلاء كان من أهمّ السبل التي سلكها المعصومون عليهم السلام ؛ لتحقيق هذا الهدف والوصول إلى هذه الغاية، وقد تمّ ذلك عبر تأسيس ما أسميناه: مؤسّسة الشعائر الحسينية، وقد تحدّثنا في القسم الأول عن الملامح العامّة والخطوط العريضة لهذه المؤسّسة المباركة.

وبقي علينا أن نتعرّض إلى بيان الأهداف والغايات التي يُراد تحقيقيها من خلال هذه المؤسّسة المباركة.

 

الشعائر من أهم مقوّمات بقاء وانتشار الأديان والمذاهب

يمكن تصنيف الأديان والمذاهب ـ بغضّ النظر عن حقّانيتها أو عدمها ـ إلى ثلاثة أصناف:

الصنف الأول: الأديان والمذاهب التي وُجدت لفترة في التاريخ ثمّ انقرضت.

الصنف الثاني: الأديان والمذاهب التي استطاعت البقاء والمحافظة على وجودها عبر القرون، بالرّغم من التغييرات الاجتماعية والحضارية التي حدثت في العالم، ولكنّها لم تتمكّن من الانتشار والازدهار، وإنّما بقيت منعزلة اجتماعياً، ومنغلقةً على أتباعها، وإذا ما حصلت زيادة في عدد أتباعها، فإنّها تكون زيادة طبيعية ناتجة عن التكاثر الطبيعي لأتباعها؛ بسبب التزاوج والتوالد.

الصنف الثالث: الأديان والمذاهب التي كُتب لها البقاء والدوام والانتشار والازدهار.

والفرق بين الصنف الأول والصنفين الأخيرين يتمثّل ـ في تقديرنا ـ بوجود الشعائر وبعدمها، بمعنى أنّ الأديان والمذاهب التي وُجدت في التاريخ ثمّ انقرضت بعد مدّة من الزمن، لم تكن سوى أفكار ورُؤى خالصة، ولم يكن أتباعها يترجمون تلك الأفكار والرؤى عِبْر شعائر معينة.

وفي الحقيقة، إنّ الأفكار والرؤى الدينية والمذهبية إذا لم تتحوّل إلى شعائر شعبية رمزية تعبّر عن تلك الأفكار والرؤى، وترسّخها وتعمّقها في وجدان القاعدة الجماهيرية لذلك الدين أو المذهب، فإنّ درجة احتمال بقاء ذلك الدين أو المذهب تكون ضئيلة جداً، أو منعدمة.

و أمّا الفرق بين الصنف الثاني والثالث، فيتمثّل بطبيعة تلك الأديان والمذاهب، وطبيعة شعائرها، فإذا كانت أدياناً ومذاهب ذات طبيعة منغلقة ومنزوية أو عنصرية، فإنّها ستتّخذ شعائر ذات طبيعة مشفّرة وملغّزة، لا يفهما سوى أتباع ذلك الدين أو المذهب.

وأمّا إذا كانت أدياناً ومذاهب ذات طبيعة منفتحة وعالميّة الطموح، فإنّها ستتّخذ شعائر تتناسب مع طبيعتها هذه، وستكون تلك الشعائر بمثابة رسائل مفتوحة مكتوبة بلغةٍ إنسانية يفهمها الجميع.

ولا ريب في أنّ المذهب الشيعي يُحسب على الصنف الثالث من هذه الأصناف، فهو مذهب منفتح، ذو طبيعة تمدّدية انتشارية، إن صحّت العبارة.

فهو ـ كما نعتقد ـ الصيغة الحقّة للإسلام المحمّدي الأصيل، والإسلام دينٌ عالميّ، يسعى إلى بسط نفوذه على جميع أرجاء المعمورة.

ومن هنا؛ فقد قام قادة هذا المذهب عليهم السلام  بتأسيس: مؤسّسة الشعائر الحسينية؛ للنهوض بمهمّتين أساسيتين:

1ـ حفظ كيان التشيع وخلوده.

2ـ انتشار هذا الكيان وازدهاره.

1

ـ دور الشعائر الحسينية في حفظ كيان التشيع

إذا كنّا نعتقد بأنّ دعوة التشيع هي الصورة الحقيقية للإسلام المحمّدي الأصيل، فلا بدّ أن نعتقد بأنّ هذه الدعوة محفوظة بحفظ الإسلام، فقد تعهّد الباري سبحانه وتعالى بحفظ هذا الدين وبقائه وخلوده إلى أن تقوم الساعة، غير أنّ هذا لا يتنافى مع تحقّق الحفظ المُشار إليه عبر الأسباب والسنن الاجتماعية والتاريخية، ونحن نعتقد أنّ لمؤسّسة الشعائر الحسينية أكبر دور في حفظ دعوة التشيّع و«أعظم الأثر في بقائها، رغم الضغوط الكثيرة التي تعرّضت لها؛ وذلك لأنّ تفاعل الجمهور بالفاجعة واهتمامهم بإحيائها لا يتوقّف على دفع الخاصّة لهم ـ كرجال الدين أو غيرهم ـ وتشجيعهم إيّاهم؛ ليسهل على العدو القضاء عليها بتحجيم دور الخاصّة، بالترغيب والترهيب، وصنوف التنكيل حتى التصفية الجسدية، كما حصل ذلك قديماً وحديثاً»[1].

بل يرى الشيخ حسن المظفر بأنّ حفظ المذهب من الاندراس هو الغرض النهائي من تأسيس مؤسّسة الشعائر الحسينية، بل هي الغاية القصوى التي قُتل الإمام الحسين عليه السلام  من أجلها، فيقول: «لا شكّ أنّه لا غرض للأئمّة عليهم السلام  ـ وهم حكماء الأُمّة ـ من الأمر بذلك الاجتماع المُحزن، وتذكّر تلك المصيبة المُقرحة في أحوالٍ مخصوصةٍ كثيرة، وزيارته التي لم يكفِهم الترغيب إليها والمبالغة في ثوابها، حتى حذروا من ترْكِها، وبعبارةٍ جامعة: ليس أمرهم بتلك الروابط الحسينية إلّا حفظ المذهب عن الاندراس، وهو الغاية التي قُتل لها الحسين عليه السلام ، وهذه الحِكَم ـ مع أنّها وجدانية ـ قد ألمعوا إليها بعبارات مختلفة، وضوحاً وخفاءً، وأمروا بها صريحاً فيما تضمّن الحث على إحياء أمرهم».

ثمّ يقول بعد عدّة سطور: «أنا لا أشكّ أنّ تلك المجالس والمجتمعات ألبستها الأئمّة الأطهار عليهم السلام  ـ بواسع علمهم وبُعد نظرهم للمستقبل ـ لباساً مذهبياً؛ لأنّها السبب الوحيد لاجتماع كلمة الشيعة، ورسوخ عقائدهم، وبقاء ذكر الجميل بكلّ معانيه للأئمّة فيما بينهم، وتلك نكتة مستورة عن جميع المسلمين، حتى عن الشيعة أنفسهم؛ فإنّهم لا يتصوّرون هذه الفائدة من عملهم، بل قصدهم الثواب الأُخروي فقط...»[2].

وقد أدرك أعداء أهل البيت عليهم السلام  ـ من الأُمويين والعباسيين ـ هذه الملازمة بين إحياء هذه الشعائر وبين بقاء كيان التشيع، واستمرارية وجوده، فسعوا ـ كما أشرنا في المبحث السابق ـ بشتّى الوسائل، وسلكوا مختلف السُّبل للقضاء على هذه الشعائر؛ إذ أدركوا أنّ القضاء على التشيع لا يتمّ إلّا بالقضاء عليها.

وفي المقابل، فإنّ أئمّة أهل البيت عليهم السلام  كانوا قد استعدوا لمواجهة هذا الخطر، وكانوا على طول الخط يتعاملون مع محاولات طمس هذه الشعائر ومحوها على أنّها محاولات لطمس الوجود الشيعي ومحوه والقضاء عليه، وهو ما يمكن ملاحظته في الباب الخامس والأربعون من كتاب كامل الزيارات، الذي أعدّه ابن قولويه لبيان ثواب مَن زار الحسين عليه السلام  وعليه خوف، وأورد فيه عدّة روايات بعضها عن الإمام الخامس أبي جعفر الباقر عليه السلام ، والبعض الآخر عن الإمام السادس أبي عبد الله الصادق عليه السلام ، وفي هذه الروايات يحثّ الإمامان عليهما السلام  شيعتهما على تحدّي السلطات، والاستمرار على زيارة الإمام الحسين عليه السلام ، وتعاهد قبره المطهر، وأن لا يكون الخوف مانعاً لهم عن ذلك؛ فإنّ الله سبحانه وتعالى سيضاعف لهم الثواب، كما أنّ ترك زيارته عليه السلام  لخوفٍ تُوجب الحسرة، وقد نقلنا في المبحث السابق أكثر روايات هذا الباب في مواضع متفرّقة.

وهي روايات لا يمكن فهمها إلّا في ظلّ ظروفها التاريخية، وفي إطار المواجهة التي أشرنا إليها، فليست المسألة مجرّد قيام بعمل فردي مستحبّ، وإلّا لكان مقتضـى القاعدة سقوط ذلك العمل عن الاستحباب، بل حرمته لمخالفته للتقية، التي تجب لحفظ النفس، أو المال، أو العِرض.

إذن؛ فالمسألة ترتبط بما هو أهم من حفظ النفس، أو المال، أو العِرض، إنّها ترتبط بالحفاظ على الكيان الشيعي واستمرارية وجوده، فكانت المدوامة على هذه الشعائر، والإصرار على إحيائها هو الطريق الوحيد لتثبيت هوية التشيع، وترسيخها في ضمير المسلم الشيعي.

وهذا الفهم لمسألة إحياء الشعائر قد توارثه الشيعة جيلاً بعد جيل، فكانوا على الدوام ينظرون إلى محاولات منع إحياء الشعائر الحسينية على أنّها محاولات للقضاء على التشيع والشيعة، فكانوا يُصرّون ـ وبدفعٍ وتشجيع من العلماء ـ على إحياء هذه الشعائر مهما كلّفهم الأمر.

وهذا ما يفسّر لنا أيضاً وقوفهم الحازم ضدّ كلّ مَن حاول التشكيك بشـرعية الشعائر أو بعض مفرداتها؛ حيث تُعتبر هذه المسألة خطّاً أحمرَ لا يُسمح بالاقتراب منه، ولطالما وُصف مَن حاول الاقتراب من هذه الدائرة بكونه متآمراً مع أعداء المذهب وأعداء الحسين عليه السلام .

وهذه النظرة لمسألة الشعائر نظرة صائبة؛ إذا كانت منطلقة من الوعي بأهمّية هذه الشعائر وتأثيرها الكبير في الحفاظ على تماسك الكيان الشيعي وتلاحمه.

ولكن في الواقع، إنّه ليس كلّ مَن ينظر إلى مسألة الشعائر على أنّها خطّ أحمر، ينطلق من الوعي المشار إليه، بل إنّ الكثير من هؤلاء ينطلقون بدافع العاطفة غير الواعية، والتعصّب الأعمى، وهؤلاء هم الذين يقفون حجر عثرة أمام محاولات الإصلاح في الشعائر الحسينية وتهذيبها.

إنّ النقاش الدائر حول الشعائر الحسينية يقع في دائرتين:

الدائرة الأُولى: النقاش الذي يُثيره المخالفون والعلمانيون وبعض الحداثويين من الوسط الشيعي، من شبهات حول أصل إحياء الشعائر الحسينية، ويمكن أن نُعبّر عن الشبهات التي تُطرح في هذه الدائرة بـ الشبهات الكلامية، وهذه الشبهات هي التي ينبغي الوقوف في وجهها ومعالجتها من قِبَل المختصّين بعلم الكلام الإمامي.

الدائرة الثانية: النقاش الحاصل بين فقهائنا حول مشروعية بعض المفردات من الشعائر، وهذا نقاشٌ فقهيّ مؤطّر بالأُطر العامّة للفقه الإمامي، ولا محذور فيه.

وتدخّل غير المختصّين الذين لا يميّزون بين الدائرتين، هو الذي يخلط الأوراق، ويتسبّب فيما نشاهده في محرم من كلّ عام من مشاحنات وتراشقات حول هذه المفردة أو تلك من مفردات الشعائر الحسينية، وقد يصل الأمر في بعض المناطق إلى حدوث فتنة بين أبناء المذهب الواحد.

ويا للأسف! فقد أصبحت هذه الشعائر في بعض المناطق ـ بسبب هؤلاء المتعصّبين ـ سبباً للفرقة والتشرذم، مع أنّها قد شُرّعت من قِبَل أئمّة أهل البيت عليهم السلام  لرصّ صفوف الشيعة، وتوحيد كلمتهم، وشدّ بعضهم بالبعض الآخر.

 

2ـ انتشار التشيع وازدهاره عبر الشعائر الحسينية

كما ساهمت مؤسّسة الشعائر الحسينية في حفظ كيان التشيّع والحفاظ عليه من الانقراض والاندثار، فقد ساهمت هذه المؤسّسة في توسعة هذا الكيان وانتشاره وازدهاره؛ بحيث وصل التشيع ـ ببركة هذه الشعائر ـ إلى أبعد نقطةٍ في العالم، وأصبح عدد الشيعة اليوم حوالي 250مليون نسمة، ممّا يعني أنّهم يشكلون نسبة الربع من المسلمين.

وقد باتت وسائل الإعلام تتحدّث عماّ أطلقت عليه اسم: ظاهرة المدّ الشيعي، وهو مصطلح يُطلق على ظاهرة انتشار التشيّع وتمدّده في بلدان ذات أغلبية تتّبع المذهب السنّي.

وفي الحقيقة، إنّ جميع الذين كتبوا حول سرّ انتشار التشيع وازدهاره وتمدّده ـ من المؤالفين أو المخالفين، وحتى من المستشرقين ـ قد أكّدوا تأكيداً بالغاً على الدور الكبير الذي تلعبه الشعائر الحسينية، وتأثيرها الواضح في هذا المجال.

فكلّما فُسح المجال للشيعة في ممارسة الشعائر الحسينية، كلّما انتعش كيان التشيع، واتّسع وتمدّد في الآفاق، وكلّما ضُيّق عليهم وحوربوا في ممارسة هذه الشعائر، كلّما حدّ ذلك تقدّمهم، وتوقّفوا عن النمو، وإن استمرّوا على إحياء هذه الشعائر سرّاً للحصول على الحدّ الأدنى من فوائدها، والمتمثّل بالحفاظ على الهوية الشيعية من الضياع والاندثار.

 

مقتطفات من كلام المستشرقين: جوزيف الفرنسي، وماربين الألماني

وبحسب تتبّعي لم أجد أحداً قد تناول موضوع مؤسّسة الشعائر الحسينية وأثرها الكبير في نشر مذهب التشيّع وازدهاره أفضل من الكاتبين المستشرقين: الدكتور جوزيف الفرنسـي في كتابه: الإسلام والمسلمون، والمسيو ماربين الألماني في كتابه: السياسة الإسلامية، وقد ترجمت جريدة الحبل المتين الفارسية ـ في العدد الثامن والعشرين من السنة الثامنة بتاريخ: 7محرم/سنة1329هـ/1911م، فصلين من الكتابين المذكورين، يحتويان على فلسفة الشعائر الحسينية، وما لها من دور في تقدّم المذهب الشيعي وازدهاره، فكان لهما دويٌّ في العالم الإسلامي، وأخذا في الشـرق دوراً مهمّاً، وتُرجما إلى التركية والهندية، وترجمهما إلى العربية السيد صدر الدين الموسوي، فنشرت مجلة العلم أحد الفصلين، ونشـرت مجلة العرفان الفصل الآخر.

ولأهمية هذين المقالين قام السيد محسن الأمين بترجمتهما إلى العربية، وخصّص الفصل السابع من خاتمة كتابه المجالس السنية[3] لذكر ما أورده هذان المستشـرقان، ولشدّة ارتباط هذين المقالين ببحثنا نودّ أن نقتطف منهما المقتطفات التالية بالاعتماد على ترجمة السيد الأمين.

 

مقتطفات من كلام الدكتور جوزيف الفرنسي

يقول هذا المستشرق عن بداية نشوء كيان التشيع: «لم تكن هذه الفرقة ـ يعني الشيعة ـ ظاهرة في القرون الأُولى الإسلامية كأُختها، ويمكن أن تُنسب قلّتهم إلى سببين:

أحدهما: إنّ الرئاسة والحكومة التي هي سبب ازدياد تابعي المذهب كانت بيد الفرقة الأُخرى.

والسبب الآخر: هو القتل والغارات التي كانت تتوالى عليهم.

ونظراً لحفظ نفوس الشيعة؛ حكم أحد أئمّتهم في أوائل القرن الثاني عليهم بالتقية، فزادت في قوّتهم؛ لعدم تمكّن العدوّ القوي الشكيمة من قتلهم والإغارة عليهم، بعد أن لم يكونوا ظاهرين، وصاروا يعقدون المجالس سرّاً، ويبكون على مصائب الحسين، واستحكمت هذه العاطفة في قلوبهم على وجهٍ لم يمضِ زمانٌ قليل إلاّ وارتقوا، حتى صار منهم الخلفاء، والسلاطين، والوزراء، وهؤلاء بين مَن أخفى مذهبه وتشيّعه، وبين مَن أظهره.

وبعد أمير تيمور، حيث رجعت السلطنة في إيران إلى الصفوية، صارت إيران مركز فرقة الشيعة، وبمقتضى تخمين بعض سوّاح فرنسا إنّ الشيعة فعلاً: سدس المسلمين أو سبعهم.

ونظراً إلى هذا الترقّي الذي حازته فرقة الشيعة في زمانٍ قليل، من دون جبرٍ وإكراه، يمكن أن يُقال: إنّهم سيفوقون سائر فرق الإسلام بعد قرنٍ أو قرنين.

والسبب في ذلك هو إقامة عزاء الحسين، الذي قد جعله كلّ واحدٍ منهم داعياً إلى مذهبه، ولا يوجد اليوم مكان فيه الواحد أو الاثنان من الشيعة إلاّ ويقيمان فيه عزاء الحسين، ويبذلان في هذا السبيل الأموال الكثيرة».

 

ثمّ يقول بعد ذلك: «ويمكن أن يُقال: إنّ جميع فِرَق الإسلام من حيث المجموع لا يبذلون في سبيل تأييد مذهبهم بمقدار ما تبذله هذه الفرقة في سبيل ترقيات مذهبها، وموقوفات هذه الفرقة ضعفا أوقاف سائر المسلمين، أو ثلاثة أضعافها، كلّ واحد من هذه الفرقة هو في الحقيقة داعٍ إلى مذهبه من حيث يخفى على سائر المسلمين، بل إنّ الشيعة أنفسهم لا يدركون هذه الفائدة المترتّبة على عملهم، وليس في نظرهم إلاّ الثواب الأُخروي.

ولكن حيث إنّ كلّ مَن عمل في هذا العالم لا بدّ وأن يكون له أثر طبيعي في العالم الاجتماعي، قصده الفاعل أو لم يقصده، لم تُحرم هذه الفرقة فوائد هذا العمل الطبيعية في هذا العالم.

ومن المعلوم أنّ مذهباً دعاته خمسون أو ستون مليوناً لا بدّ وأن يرتقي أربابه على وجه التدريج إلى ما يليق بشأنهم».

ثمّ يقول بعد ذلك: «ولقد بلغ اهتمام هذه الفرقة في أداء مراسم مذهبها مبلغاً عظيماً، حتّى جعلت ثلثي المسلمين من أتباع سيرتها، بل اشترك معها كثير من الهنود والمجوس وسائر المذاهب.

ومن المعلوم أنّ بعد مضي قرن ووَصْلِ هذه الأعمال بالإرث إلى أبناء أُولئك الطوائف، يذعنون بها ويصدقون هذا المذهب.

وبما أنّ فرقة الشيعة تعتقد بأنّ جميع المطالب والمقاصد موكول نجاحها إلى أكابر مذهبهم، وهم يفزعون إليهم في قضاء الحوائج، ويستمدّون منهم عند الشدائد، سرت هذه الروح أيضاً إلى سائر الفرق التي اشتركت معهم في تلك الأعمال والأفعال، ومن المعلوم أنّ بمجرد قضاء حاجتهم وبلوغ آمالهم تزداد عقيدتهم بهذا المذهب رسوخاً.

من هذه القرائن والأسباب يمكننا أن نقول: لا يمضي على هذه الفرقة زمان قليل إلاّ وتفوق سائر المسلمين من حيث العدد، وكانت هذه الفرقة قبل قرن أو قرنين تلازم التقية ـ فيما عدا إيران ـ نظراً لقلّتهم، وعدم قدرتهم على إظهار شعائر مذهبهم، ولكن من يوم استولت الدولة الغربية على الممالك الشرقية، ومنحت جميع المذاهب الحرية قامت هذه الفرقة تقيم شعائر مذهبها علناً في كلّ مكان، واستفادوا من هذه الحرية فائدة تامّة، حتى إنّهم تركوا التقية».

 

مقتطفات من كلام المسيو ماربين الألماني

يقول المسيو ماربين الألماني: «كانت الرياسة الروحانية بعد الحسين في أولاده واحداً بعد واحد، وهؤلاء أيضاً جعلوا إقامة عزاء الحسين الجزء الأعظم من المذهب، وأُلبست هذه النكتة السياسية شيئاً فشيئاً اللباس المذهبي، وكلّما ازدادت قوة أتباع علي ازداد إعلانهم بذكر مصائب الحسين، وكلّما سعوا وراء هذا الأمر ازدادت قوتهم وترقّيهم، وجعل العارفون بمقتضيات الوقت يغيّرون شكل ذكر مصائب الحسين قليلاً قليلاً، فجعلت تزداد كلّ يوم؛ بسبب تحسينهم وتنميقهم لها، حتى آل الأمر إلى أن صار لها اليوم مظهر عظيم في كلّ مكان يوجد فيه مسلمون، حتى إنّها سَرَت شيئاً فشيئاً بين الأقوام وأهل الملل الأُخرى، خصوصاً في الصين والهند».

ثمّ يقول: «لعدم اطّلاع بعض مؤرّخينا على كمّية وكيفية هذه المآتم ورواجها، استرسلوا في كلامهم على غير علم، وجعلوا يصفون إقامة أتباع الحسين عليه السلام  لها بأنّها أفعال جنون، ولم يقفوا أبداً على مقدار ما أحدثته هذه المسألة من التغييرات والتبديلات في الإسلام... إنّ مَن يسبر غور الترقيات التي حصلت في مدّة مائة سنة لأتباع علي في الهند، الذين اتخذوا إقامة هذه المآتم شعاراً لهم، يجزم بأنّهم متّبعون أعظم وسيلة للترقّي، كان أتباع علي والحسين في جميع بلاد الهند يُعدّون على الأصابع، واليوم هم في الدرجة الثالثة بين أهل الهند من حيث العدد، وكذلك في سائر البلدان».

ويضيف قائلاً: «عندما نقيس منهج دعاتنا المبشرين مع صرف تلك القوة والثروة بمنهج دعاة هذه الفرقة، نرى أنّ دعاتنا لم يحوزوا العُشر من تقدّم هذه الفرقة.

رؤساء ديننا وإن كانوا يحزِّنون الناس بذكر مصائب حضـرة المسيح، ولكنّه ليس بذلك الأُسلوب والشكل الذي يتّخذه أتباع الحسين؛ ويُحتمل أن يكون السبب في ذلك أنّ مصائب المسيح في جنب مصائب الحسين لا تكون مؤثّرة، مُشجية للقلب بتلك الدرجة التي لمصائب الحسين.

على مؤرّخينا أن يطّلعوا على حقائق رسوم وعادات الأغيار، ولا ينسبوها إلى الجنون».

ثمّ يقول في ختام المقال: «الحسين عليه السلام  أشبه الروحانيين بحضرة المسيح، ولكنّ مصائبه كانت أشدّ وأصعب، كما أنّ أتباع الحسين كانوا أكثر تقدّماً من أتباع المسيح في القرون الأُولى، فلو أنّ المسيحيين سلكوا طريقة أتباع الحسين، أو أنّ أتباع الحسين لم تمنعهم من ترقياتهم عقبات من نفس المسلمين؛ لسادت إحدى الديانتين في قرون عديدة جميع المعمور، كما أنّه من حين زوال العقبات من طريق أتباع الحسين عليه السلام  أصبحوا كالسيل المنحدر، يحيطون بجميع الملل وسائر الطبقات».

 

دَوْر مؤسّسة الشعائر الحسينية في بناء المسلم الشيعي

ما تحدّثنا به في السطور السابقة عن دور مؤسّسة الشعائر الحسينية في حفظ كيان التشيع من الاندراس، وتقويته وانتشاره في البلاد، هو الدور الأساسي والرئيسي الذي تؤدّيه هذه المؤسّسة، ويمكن أن نعبّر عنه بالدور الخارجي، لو صحّت العبارة، وهناك دور آخر تقوم به هذه المؤسّسة من الداخل، وهذا الدور يتمثّل بالمساهمة ببناء الإنسان الشيعي وتكوينه، عقيدياً واجتماعياً وثقافياً.

فعلى المستوى العقدي، تعتبر ممارسة هذه الشعائر تجسيداً عملياً لمفهومي: الموالاة، والبراءة. مولاة أهل البيت عليهم السلام ، والبراءة من أعدائهم.

 وبعبارةٍ أدقّ: إنّ ممارسة هذه الشعائر هي تعبيرٌ عمليٌّ عن الانتماء لخطّ الإمامة، والتبرّي من الخطّ المعادي لها في آنٍ واحد، فهي بمثابة العلامة الفارقة التي يتميّز بها المسلم الشيعي عن غيره.

وقد أشار المعصومون عليهم السلام  إلى هذا البُعد، وركّزوا عليه في أكثر من رواية، فقد روى ابن قولويه بسنده عن أبي جعفر عليه السلام ، قال: «قال: مَن لم يأتِ قبر الحسين عليه السلام  من شيعتنا كان منتقص الإيمان منتقص الدين، وإن دخل الجنة كان دون المؤمنين في الجنة»[4].

فهذه الرواية ونظائرها ناظرة إلى البعد الشعائري في زيارة الحسين عليه السلام ؛ حيث إنّ زيارة الحسين عليه السلام  أصبحت تعبيراً عن الانتماء لخطّ التشيع، ومن هنا اعتبرت الرواية عدم زيارة الحسين عليه السلام  نقصاً في الإيمان، والإيمان في هذه الرواية وأشباهها يعني الانتماء لخطّ التشيع.

وممّا يؤكّد هذا المعنى رواية أُخرى رواها ابن قولويه بسنده عن أبي عبد الله عليه السلام ، قال: «مَن لم يأتِ قبر الحسين عليه السلام  ـ وهو يزعم أنّه لنا شيعة ـ حتى يموت فليس هو لنا بشيعة، وإن كان من أهل الجنة؛ فهو من ضيفان أهل الجنة»[5].

وقد يبدو للوهلة الأُولى وجود تهافت بين مدلول الروايتين؛ حيث اعتبرت الأُولى عدم إتيان قبر الحسين عليه السلام  نقصاً في إيمان الإنسان الشيعي، وإن لم يخرجه ذلك عن دائرة التشيع؛ إذ قالت الرواية: «من شيعتنا».

 بينما أكّدت الرواية الثانية على الملازمة بين مفهوم التشيع وإتيان قبر الحسين عليه السلام .

ولكنّ هذا مجرد تهافت ظاهري، وسرعان ما يرتفع بملاحظة كون الروايتين ليستا بصدد الحديث عن التشيّع بمعناه الكلامي، بل هما بصدد الحديث عن التشيع ككيان اجتماعي قائم، وفي ضوئه نفهم أنّ عدم الزيارة كان في عصر الإمام الباقر عليه السلام  لا يتنافى مع التشيع بمفهومه الاجتماعي، وإن كان يعدّ نقصاً وضعفاً فيه، بمعنى أنّ الإنسان الذي لا يزور الإمام الحسين عليه السلام  كان يُعتبر شيعياً ناقص التشيع أو ضعيف التشيع، ما شئت فعبّر.

أمّا في حياة الإمام الصادق عليه السلام  ـ أو بالدّقة في فترة متأخّرة من حياته ـ فقد أصبحت زيارة الحسين عليه السلام  جزءاً ذاتياً من التشيّع بمعناه الاجتماعي، بمعنى أنّ الإنسان الذي لا يزور لا يُعدّ من المنتمين إلى هذا الكيان، ونكرّر مرةً أُخرى: إنّ حديثنا هنا يتعلّق بـالتشيع بمدلوله الاجتماعي، لا بمدلوله الكلامي.

وأمّا على المستوى الاجتماعي، فيمكن القول: إنّ فائدة إحياء هذه الشعائر لعموم الشيعة كفائدة إحياء شعيرة الحجّ لعموم المسلمين، فإذا كانت شعيرة الحجّ مظهراً من مظاهر وحدة المسلمين، وتجسيداً عملياً لانتمائهم إلى دينٍ واحد، ونبيٍّ واحد، وكتابٍ واحد، فإنّ الشعائر الحسينية تعتبر مظهراً من مظاهر وحدة المسلمين الشيعة، وتجسيداً عملياً لانتمائهم إلى مذهبٍ واحد، وخطٍّ واحد، ففي الحضور في تلك التجمّعات والمآتم والمواسم الحسينية تذوب كلّ الانتماءات وتتبخّر، ولا يبقى سوى الانتماء إلى الحسين عليه السلام .

يقول السيد عبد الحسين شرف الدين في بيان هذا البُعد: «وحسبك في رجحانها [أي: رجحان إقامة المآتم] ما يتسنّى بها للحكيم من إلقاء المواعظ والنصائح، وإيقاف المجتمعين على الشؤون الإسلامية، والأُمور الإمامية، ولو إجمالاً، وبذلك يكون أمل العاملي نفس أمل إخوانه في العراق وفارس والبحرين والهند، وغيرها من بلاد الإسلام.

ولا تنسَ ما يتهيّأ للمجتمعين فيها من الاطّلاع على شؤونهم، والبحث عن شؤون إخوانهم النائين عنهم، وما يتيسّر لهم حينئذٍ من تبادل الآراء فيما يعود عليهم بالنفع، ويجعلهم كالبنيان المرصوص، يشدّ بعضه بعضاً، أو كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو أنّت له سائر الأعضاء، وبذلك يكونون مستقيمين في السير على خطّةٍ واحدة، يسعون فيها وراء كلّ ما يرمون إليه»[6].

وأمّا على المستوى الثقافي، فإنّ مؤسّسة المنبر الحسيني كانت ولا تزال مدرسة لجمهور الشيعة، فيتعلّم المسلم الشيعي في هذه المجالس ما يرتبط بأُمور دينه من عقيدة وفقه وتفسير و... ممّا لا بد له من الاطّلاع عليه، كما يتلقّى فيها ما يرتبط بالثقافة العامّة من سياسة وأدب وتاريخ و...

ومؤسّسة المنبر الحسيني وإن لم تتحوّل إلى أداة تثقيفية بالمعنى المُشار إليه، إلّا في عصـرٍ متأخرٍ عن عصر الأئمّة عليهم السلام ، غير أنّ أئمّة أهل البيت عليهم السلام  قد غرسوا هذه الروح التثقيفية في نفوس أصحابهم، منذ بدايات تشكّل مؤسّسة المنبر الحسيني.

فمن ذلك قول الإمام الصادق عليه السلام : «رحم الله عبداً اجتمع مع آخر فتذاكر أمرنا، فإنّ ثالثهما مَلَكٌ يستغفر لهما، وما اجتمع اثنان على ذكرنا إلّا باهى الله بهما الملائكة، فإذا اجتمعتم فاشتغلوا بالذِّكر؛ فإنَّ في اجتماعكم ومُذاكرتكم إحياءنا، وخير الناس بعدنا مَن ذاكر بأمرنا، ودعا إلى ذكرنا»[7].

ويقول الإمام الصادق عليه السلام  مخاطباً الفضيل بن يسار: «تجلسون وتتحدَّثون؟ قال: نعم، جُعلت فداك! قال: إنَّ تلك المجالس أُحبُّها، فأحيوا أمرنا يا فضيل، فرحم الله مَن أحيى أمرنا...»[8].

 

وقفتان لا بدّ منهما

في نهاية هذا القسم من بحثنا حول المؤسّسة الشعائرية توجد وقفتان أرى من الضـروري أن أختم بهما:

الوقفة الأُولى:

تعرّفنا فيما مضى على ما لمؤسّسة الشعائر الحسينية من دورٍ فعّال وكبير على مستوى حفظ الكيان الشيعي وديمومته، أو على مستوى توسّع هذا الكيان وازدهاره، أو على مستوى بناء الإنسان المنتمي لهذا الكيان وتكوينه، عقيدياً واجتماعياً وثقافياً، والأثر الذي تحقّقه هذه المؤسّسة على هذه المستويات الثلاث هو روح الشعائر الحسينية، كما أنّ النهي عن الفحشاء والمنكر هو روح الصلاة، وكما أنّ الصلاة التي لا تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر هي صلاة ميتة لا روح فيها، فإنّ الممارسات والفعاليات الحسينية التي لا يُراعى فيها الأثر المذكور هي طقوس وعادات ميتة، وفارغة من المحتوى الاجتماعي.

ولكي تكون هذه المؤسّسة قادرة على تحقيق أهدافها، فلا بدّ لها من مواكبة تطوّرات العصر ومتغيّراته، مع المحافظة على عنصر الأصالة؛ فإنّ المؤسّسة الثقافية الاجتماعية ـ كما يقول شمس الدين ـ: ليست هدفاً في حدّ ذاتها، وإنّما هي وسيلة وُجدت لتساهم في إغناء الإنسان، وإثراء عالمه الداخلي، ومساعدته على التناغم مع واقعه الخارجي المتدفّق بالمتغيرات، مع احتفاظه بشخصيته المعنوية والحضارية.

ولذا؛ فإنّ المؤسّسة الثقافية الاجتماعية ذات المحتوى الديني الإسلامي لا بدّ أن تكون واعيةً لتستوعب تغيرات عصرها، ولا بدّ أن تكون ـ مع وعيها ـ مرنة؛ لتستجيب انطلاقاً من قواعدها الفكرية لهذه المتغيّرات، وذلك من أجل أن تكون بوعيها ومرونتها ذات قدرة على التصدّي لما لا يتلاءم مع رؤاها هي، من أفكار واتجاهات تبثّها المؤسّسات الثقافية الاجتماعية الأُخرى[9].

الوقفة الثانية:

يتّضح ممّا سبق حجم المسؤولية الملقاة على عاتق القائمين بشؤون هذه المؤسّسة، كما أنّ هذه المسؤولية يتضاعف حجمها بالنسبة للفقهاء الذين هم الآباء الروحيون لهذه المؤسّسة، فإنّ هذه المؤسّسة قد نشأت ونمت وتطوّرت على أيدي الأئمّة المعصومين عليهم السلام ، فكانوا هم الرعاة لها في زمانهم عليهم السلام ، أمّا الآن فإنّ رعاتها الحقيقيين هم نوّابهم من الفقهاء.

وقد لاحظنا: أنّ دور أئمّة أهل البيت عليهم السلام  تجاه مؤسّسة الشعائر الحسينية كان دوراً فعلياً لا دوراً انفعالياً، بمعنى أنّهم كانوا هم الذين يمسكون زمام المبادرة في رسم أساليب إحياء ذكرى عاشوراء من الناحية العملية المصداقية، ولم يكتفوا بإلقاء الأُصول، ووضع الأُطر العامّة.

أمّا الفقهاء فيمكن أن نقول: إنّ لهم مسلكين في هذه المسألة:

المسلك الأول: هو المسلك الانفعالي بمعنى أنّ الفقيه لا يبادر إلى التدخّل في ابتكار مصاديق خارجية للشعيرة الحسينية، بل يترك الأُمور تسير بحسب ما يخطّط لها القائمون على شؤون الشعائر الحسينية، من خطباء ومنشدين، ومواكب وهيئات... فتنحصر مهمّة الفقيه بالإشراف غير المباشر على مجريات الأُمور في هذا المجال، فيبادر إلى تأييد المظاهر المنسجمة مع قواعد الشرع الحنيف، وينهض في وجه المظاهر المخالفة له.

المسلك الثاني: هو المسلك الفعلي، ويعني أن لا يكتفي الفقيه بالإشراف غير المباشر على المؤسّسة الشعائرية، بل يبادر إلى الإشراف المباشر على مسير هذه المؤسّسة، فيتدخّل في تهذيبها وإصلاحها وتطويرها على كافّة المستويات، وفي رأينا: إنّ هذا المسلك هو مسلك أهل البيت عليهم السلام ، فالمؤسّسة الشعائرية قد تأسّست وتكاملت على أيدي المعصومين عليهم السلام ، فكانوا لا يكتفون بإلقاء الأُصول ووضع الأُطر العامّة، بل كانوا يتدّخلون حتى على مستوى الجزئيات والتطبيقات، فمن ذلك:

1ـ تشجيعهم لفئتي الشعراء والمنشدين، ودفعهم لنظم الشعر الحسيني وإنشاده.

2ـ توظيفهم لفئة القصاص، وتوجيههم لاستغلال موهبتهم لخدمة القضية الحسينية المقدّسة.

3ـ تدخّلهم في توجيه الشعر الحسيني نحو أُسلوب الرثاء، بمعنى أنّهم كانوا يوجّهون الشعراء للتركيز على الوجه المأساوي لواقعة كربلاء.

4ـ تدخّلهم في طريقة الإنشاد، كما في قصّة الإمام الصادق عليه السلام  مع أبي هارون المكفوف[10].

فهذه كلّها مؤشّرات على تدخّل المعصومين عليهم السلام  في تفاصيل وجزئيات المؤسّسة الشعائرية، وعدم اجتزائهم برسم الخطوط العريضة والأُطر العامّة لها.

 وقد تجلّى هذا المسلك من خلال بعض المواقف لبعض السيدات العلويات اللواتي ساهمنَ في تطوير وتنمية المؤسّسة الشعائرية، بحسب المستطاع.

فقد حدّث المرزباني قال: «دخل أبو الرميح على فاطمة بنت الحسين بن علي عليهم السلام  فأنشدها مرثيته في الحسين عليه السلام :

أجالت على عيني سحائب عبرةٍ * فلم تصح بعد الدمع حتى ارمعلّت

تبكى على آل النبي محمد وما * أكثرت في الدمع لا بل أقلّت

أُولئك قومٌ لم يشيموا سيوفهم * وقد نكأت أعداءهم حين سُلّت

وإنّ قتيل الطف من آل هاشمٍ * أذلّ رقاباً من قريش فذلّت

فقالت فاطمة: يا أبا الرميح، هكذا تقول؟ قال: فكيف أقول جعلني الله فداك؟ قالت: قل: أذلّ رقاب المسلمين فذلّت.

فقال: لا أنشدها بعد اليوم إلّا هكذا»[11].

وروى أبو الفرج الأصفهاني عن ابن جامع أنّه قال: «حدّثني جماعة من شيوخ أهل مكة: أنّهم حدّثوا أنّ سكينة بنت الحسين عليهما السلام  بعثت إلى ابن سريج بشعرٍ أمرته أن يصوغ فيه لحناً يُناح به، فصاغ فيه، وهو الآن داخلٌ في غنائه والشعر:

يا أرضُ وَيْحكِ أكْرِمِي أمواتِي * فلقد ظَفِرْتِ بسادتِي وحُمَاتِي

فقدّمه ذلك عند أهل الحرمين على جميع ناحة مكة، والمدينة، والطائف»[12].

ففي الرواية الأُولى دلالة واضحة على تدخّل السيدة فاطمة بنت الحسين عليهما السلام  في تصحيح المفاهيم التي ينبغي أن ينطوي عليها الشعر الحسيني، وهو ما نحن بأمسّ الحاجة إليه هذه الأيام؛ حيث نفتقد لمثل هذه الرقابة والتقويم.

وفي الرواية الثانية نجد السيدة سكينة هي التي تختار الشعر بنفسها، ثمّ تعطيه لابن سريج، فيترفع شأنه بين الناحة في مكة والمدينة والطائف.

وقد سلك هذا المسلك العديد من الفقهاء، منهم: الشيخ جعفر بن محمد بن هبة الله بن نما الحلّي ت645هـ، والسيد رضي الدين أبو القاسم علي بن موسى بن جعفر بن طاووس ت664هـ، ويتجلّى سلوك هذين العلمين لهذا المسلك من خلال تصدّيهما لإعداد كتابين في المقتل الحسيني، حيث كتب الأول: مثير الأحزان، وكتب الثاني: الملهوف على قتلى الطفوف، وهما من أوائل الكتب التي أُعِدّت لغرض القراءة والتعزية، فقد أضحت قراءة المقتل الحسيني في صبيحة يوم عاشوراء من كلّ عام ـ منذ ذلك العصـر أو قبله ـ شكلاً من أشكال العزاء الحسيني الذي تلتزم به الشيعة؛ ولذا تصدّى هذان العلمان إلى إعداد كتابين خاصّين في هذا المجال؛ لغرض السيطرة على رواية المقتل الحسيني، وعدم السماح بحدوث فوضى على مستوى النقل.

وللسيد ابن طاووس نصّ مهم في الإقبال، ينافح فيه عن تجديد قراءة المقتل كلّ عام، وفلسفة ذلك؛ حيث يقول: «فإن قِيل: فعلامَ تجدّدون قراءة المقتل والحزن كلّ عام؟ فأقول: لأنّ قراءته هو عرض قصّة القتل على عدل الله جلّ جلاله؛ ليأخذ بثأره كما وعد من العدل، وأمّا تجدّد الحزن كلّ عشر والشهداء صاروا مسـرورين؛ فلأنّه مواساة لهم في أيام العشر؛ حيث كانوا فيها ممتحنين، ففي كلّ سنة ينبغي لأهل الوفاء أن يكونوا وقت الحزن محزونين، ووقت السرور مسرورين»[13].

ويبدو أنّ الوضع السياسي لم يكن يسمح لابن نما وابن طاووس بتطوير المؤسّسة الشعائرية بأكثر من ذلك، يقول صاحب نصرة المظلوم وهو يتحدّث عن تلك الفترة: «وما كانت التذكارات الحسينيَّة حينئذ إلاَّ مآتم يُقرأ فيها نحو كتاب المقتل، تأليف أبي مخنف ـ وهو مِن أكابر المُحدِّثين الذين تلقَّى منه: ابن جرير الطبري، وغيره، مقتل الحسين ـ أو كتاب الإرشاد للشيخ المُفيد، أو كتاب اللهوف لابن طاووس، وبِضع قصائد انفرد الشعراء من أهل الحلَّة خاصَّة بإنشائها، ولم تُعرَف لغيرهم يومئذٍ قصيدة قطُّ»[14].

وممَّن سلك هذا المسلك: العلّامة محمد باقر المجلسـي ت1110هـ صاحب البحار، حيث كان له دورٌ بارزٌ في تطوير المؤسّسة الشعائرية، وقد عُدّ عصـره من العصور التي انتقلت فيها المؤسّسة الشعائرية إلى طورٍ جديد، ويُقال: إنّه أول مَن أسّس المسـرح الحسيني الشبيه، كما أنّه أول مَن استحدث الصنوج الطوس «في قرى إيران مصاحباً لموكب اللطم المخترِق للأزقّة والمجتمع في الدور والمآتم؛ ليسمع صوته أهل القرى القريبة منهم ويعلموا بإقامتهم للعزاء ليشاركوهم، إمّا في الاجتماع معهم، وإمّا بإقامة عزاء آخر في قريتهم»[15].

قال صاحب نصـرة المظلوم: «حتَّى إذا تسنَّم عرش المُلْك الملوك الصفويَّة، وهم علويُّون موسويُّون، تفنَّنوا بإظهار ضروب الحزن على جدِّهم الأعلى الحسين بن علي، فأحدثوا تمثيل فاجعته لعيون الملأ في يوم عاشوراء، بأمر وإشارة وبتقرير وإمضاء مِن العلّامة الفاضل المجلسـي صاحب كتاب: بحار الأنوار أعلى الله درجته، وذلك بعد الألف مِن الهجرة، في أواسط المئة الحادية عشـر، زمن السلطان الحسين بن سليمان الصفوي، والتمثيل يومئذ في دَوْر نشأته»[16].

وقال المامقاني: «مع أنّ أول مَن مثّل واقعة الطف وأمثالها وأشاع التمثيل فيها، هو العلّامة المجلسـي، الذي هو أكثر العلماء اطّلاعاً على الأخبار وكلمات الفقهاء، وكلّ مَن جاء بعده من علماء البلاد أمضى فعله ولم ينكر عليه»[17].

وقال السيد الشهيد حسن الشيرازي في تعداده للأدوار التي مرّت بها الشعائر الحسينية: «والدور الرابع: دور الصفويين، وخاصّةً عهد العلّامة المجلسي، الذي شجّع الشيعة على ممارسة شعائرهم بكلّ حرية، فأضافوا إليها التمثيل، الذي كان إبداعاً منهم لتجسيد المأساة»[18].

وهذا يعني أنّ دور العلّامة المجلسي لم يكن مقتصراً على التوجيه الشرعي في هذا المجال، بل تعدّى إلى المشاركة العملية في هذا المجال، وابتكار الأساليب المنسجمة مع الضوابط والمحدّدات الشرعية التي وضعها المعصومون عليهم السلام  من جهة، ومواكبة هذه الأساليب لمتغيرات العصر من جهةٍ ثانية، وهذا هو الدور الذي ينبغي أن يؤدّيه الفقيه في رأينا.

 

 

قافية الهاء

 [32][19]

ـ المنسرح ـ

فَارحَم عُبيدَاً إليكَ ملجَـاه                    1.        يَا رَبِّي يَا رَبِّي أنتَ مَولاهُ

طُوبَى لِمَن كُنتَ أنتَ مَولاه                2.        يَا ذَا المَعَالِي عَلَيكَ مُعتَمَدِي

يشكُو إلى ذِي الجَلالِ بَلوَاه                3.        طُوبَى لِمَن كَانَ خَائِفَاً أرِقَاً

أكثَر مِـن حُبِّـهِ لِمَـولاه                      4.        وَمَا بِهِ عِلّـة وَلا سقـم

أجَـابَـهُ اللهُ ثُـمَّ لَـبَّـاه              5.        إذَا اشتكى بثَّهُ وَغصَّتَـهُ

أكـرَمَـهُ اللهُ ثُـمَّ أدنَـاه            6.        إذَا خَلا فِي الظلامِ مُبتَهِـلاً

 

التخريج والتوثيق:

نسبها إلى الإمام الحسين عليه السلام : ابن شهر آشوبت588هـ[20] عدا السادس، وابن حاتم العامليت664هـ[21] عدا الأوّل، ولم يُشاركه عليه السلام  فيها أحد، وقد اختلفت المصادر في روايتها[22].

قافية الياء

[33][23]

ـ الرجزـ

1.  أنَا الحسَينُ بنُ عَلـيّ

2.  أحمِي عِيَالاتِ أبِـيّ

3.  آلَيـتُ أن لا أنثَنِـي

4.  أمضِي عَلَى دينِ النَّبِيّ

 

التخريج والتوثيق:

نسبها إلى الإمام الحسين عليه السلام : أبو مخنف الأزديت157هـ[24]، وابن شهر آشوبت588هـ[25]، ولم يُشاركه عليه السلام  فيها أحد.

 

الكاتب: الشيخ عامر الجابري

مجلة الإصلاح الحسيني – العدد التاسع

مؤسسة وارث الأنبياء للدراسات التخصصية في النهضة الحسينية

________________________________________

[1]ـ الحكيم، محمد سعيد، فاجعة الطف: ص431.

[2] المظفر، حسن بن عبد المهدي، نصرة المظلوم: ص7.

[3] ـ والخاتمة منشورة أيضاً في كتيب خاصّ، نشرته مطبعة العرفان.

[4] ـ ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص355.

[5] المصدر السابق: ص356.

[6] شرف الدين، عبد الحسين، المأتم الحسيني مشروعيته وأسراره: ص94 ـ 95.

[7] ـ المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج1، ص200.

[8] ـ المصدر السابق: ج44، ص282.

[9] ـ اُنظر: شمس الدين، محمد مهدي، واقعة كربلاء في الوجدان الشعبي: ص306 ـ 307.

[10]ـ اُنظر: ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص208.

[11]ـ جواد شبر، أدب الطف: ج1، ص59 ـ 60.

[12]ـ أبو الفرج الأصفهاني، علي بن الحسين، الأغاني: ج1، ص255.

[13]ـ ابن طاووس، علي بن موسى، إقبال الأعمال: ج3، ص90 ـ 91.

[14]ـ المظفر، حسن بن إبراهيم، نصرة المظلوم: ص28.

[15] ـ الحلّي، عبد الحسين قاسم، النقد النزيه لرسالة التنزيه: ص167.

[16] ـ المظفر، حسن بن إبراهيم، نصرة المظلوم: ص28.

[17]ـ الشيرازي، حسن، الشعائر الحسينية: ص104.

[18]ـ المصدر السابق: ص84.

[19] المؤيد، علي حيدر، ديوان أهل البيت: ص434.

[20] ابن شهر آشوب، محمد بن علي، مناقب آل أبي طالب: ج3، ص224 ـ 225.

[21] العاملي، يوسف بن حاتم، الدرّ النظيم: ص17.

[22] اختلاف الروايات:

البيت الثالث: الدرّ النظيم: كان خائفاً وجلاً...

البيت الخامس: المصدر السابق: إذا شكى بثه وحاجته...

[23] المؤيد، علي حيدر، ديوان أهل البيت: ص360.

[24] أبو مخنف، لوط بن يحيى، مقتل الحسين عليه السلام : ص197.

[25] ابن شهر آشوب، محمد بن علي، مناقب آل أبي طالب: ج3، ص258.

 

المرفقات