الايهام وحقيقة الاشكال ..

ان تطور الاشكال والمضامين في الاعمال الفنية الحديثة والمتزامن للتطور المستمر لمجمل لفنون البصرية عبر العصور..  قد اصبح غير واضح ويميل الى الايهام المفرط في الاشكال، ويعزى ذلك الى ان الفنون تتساوق مع ما يجري في الحياة العامة من أحداث ومستجدات وتطورات وعلى جميع الاصعدة.. وإن تطور الأشكال والأساليب يصبح أقل وضوحاً بالنسبة للمتلقي العام.. فكلما تراكمت الخبرة والتقنية والتجربة الإبداعية لدى الفنان تطورت أشكاله وأساليبه الفنية في انتاج تكويناته الابداعية المبهمة .

لقد دأب الفنانون الى خلق الانجازات الفنية الكبيرة عبر التأريخ بمجرد قدرتهم الايهامية على دمج الاشكال والمواضيع معا.. الامر الذي جعل المشاهد يرى العمل الفني كما هو في حقيقته، فعندما ننظر الى لوحة ما فلا نتعدى اشكالها الى ما هو اعمق وابعد.. بل نفهمها كما هي على اساس انها تذوق جمالي وحسب.

ان المشكلة التي اثارتها ثنائية الايهام والحقيقة قد حملت الكثير من الابداع وتنوع الاساليب ومن ثم القدرة على استقصاء المرجعيات المؤثرة في خلق هذا الايهام، لذلك فأن البحث في الايهام والحقيقة هو بحث في اشكاليات كبيرة لاسيما اذا ما اثيرت على صعيد الافراد والجماعات الفنية.. ولا شك ان مجمل التأثيرات الخارجية التي يتعرض لها الفنان أياً كانت.. لا تنمو في النفس الا بمقدار ما تخصبها ردود الفعل الذاتية التي تختلف من شخص لأخر.. ومن آن لآن عند الشخص الواحد، وهذه الردود الذاتية نفسها ليست الا تراكما حيويا من تفاعل الذات مع المؤثرات الموضوعية الخارجية، لذا نجد ان كل فنان امام نموذج مستقل بعالمه وابعاده عن سواه، لكنه على استقلاله ونموذجيته وليد التزاوج والتفاعل بين مختلف المؤثرات من داخل وخارج .

فالحياة الخاصة للفنان في فرديتها وابعادها النفسية والاجتماعية تخضع للرقابة بأشكال مختلفة ويشعر الفرد دائما انه امام سلطة يخاف منها ورقابة شديدة هو بحاجة الى ان يهرب منها.. ومن خلال الانتقالات من بنية اجتماعية الى اخرى، فالحياة النفسية غدت اكثر كثافة بفعل انها لم تعد مستهلكة فيجد الفنان نفسه محكوما بالحرية، مبتعداً الى ابعد من نفسه في صورة يمكن ان تأخذ شكلا سلبيا، وهو ليس اقل من رمز لتكامل مستقبلي مطلوب تحقيقه في اعمال الفنان، وهذه الحياة النفسية الفردية او الجماعية التي لا يمكن ان تجد تعبيرها او تفتحها في اطار مجتمع يمشي بأهوائه دون موجه، تجد طريقها نحو الخيال وابتكار الاشكال .

ان  فلسفة الفرد الجديد لا تصبح مذهبا عاما يأخذه عن غيره او يفرضه على غيره.. بل هي عملية اختراع مستمرة في كل لحظة لذاته التي بواسطتها تزول ثنائية العنصر الواحد والاخر، لأن العنصر الواحد يستطيع ان يكون الاخر بالنسبة لذات الفنان، وبهذه الطريقة تتم مواجهة الفراغ في التكوينات الفنية ومواجهة الاشكال المعهودة وانهيار الاشكال المألوفة، ويأتي اللون ليأخذ مكان الشكل ويزول وهم ادراك الاشكال ويميل نحو اللامتناهي والمطلق والابدي،  وبما ان عيوننا واذاننا وحواسنا المختلفة في الشم والذوق تخلق من الحقائق قدر ما يوجد على الارض من بشر.. فكل منا يخلق رؤيته للعالم، وليس للفنان من رسالة غير ان يعيد في اخلاص تقديم هذه الرؤية بجميع الوسائل الفنية التي تعلمها ويستطيع استخدامها.

 ان كبار الفنانون هم اولئك الذين يفرضون على البشرية رؤيتهم الخاصة، حيث تجد ذات الفنان حاجة مباشرة لنزع الاشكال وجعلها اكثر تعبيرا عما يختفي خلف العالم الظاهر الذي هو الاكثر قلقا للفنان نفسه، ولما تكونه من انطباع لدينا عنه،  فنتاجه لم يعد يواكب المسيرة الفنية، ويمكن تشبيه مثل هكذا انتاج بالفصامي الذي انقطع عن مجموعة القيم التي يؤمن بها عامة الناس، فهو بينها كالغريب الذي انقطعت به السبل فهو يحاول ان ينشئ لغة جديدة تقوم على الحذف حينا وعلى الابتداع احيانا اخرى.

فالفنان يجنح الى نسق من الاشياء يخالف ما نرى وما نعرف من اجل الوصول الى حقائق مستقرة باقية ومن اجل ارتياد دفائن واسرار، لكن الطابع الاصلي لهذا الارتياد هو انه عالم متكامل مكتف بذاته ، مكتف بثرائه ، بفضل تعقده وتركيبه ، ومن ثم فالمنظورات في انفسها ليست اهلا وحدها لإيجاد الدلالة او لكشف النسق المركب الذي يسيطر عليه مبدآن متآزران .

وبلغة علم النفس يمكننا القول ان للعمل الفني صلات بكل منطقة من مناطق العقل ، فهو يستمد فاعليته او طاقته الحيوية وتحديه المنطق من "الهو" التي تعد منبع ما اعتدنا تسميته الالهام وتعطيه "الانا" الكيان والصورة ،"الانا" التي تميل الى ان تجمع محتوياتها وعملياتها العقلية في مركب واحد ، وبذلك تولد درجات التنسيق الفائقة التي تحتاج اليها الانا الارقى في منتجاتها الناجحة .

والنتاج الفني مجهود يحاول تجاوز عقبة ما ،عقبة السلبية المنهارة امام تلقي رسالة غير متوقعة او اسيء فهمها ، عقبة الابتعاد اوالتشتت والتفرق الذي لا يستجمع مذاهب او طبقات او جماعات ، عقبة تغير معاني الاشارات ، عقبة كل ما يؤمن التواصل الكلي الذي لا يستطيع الفنان ، مهما كانت الطريقة التي يتبعها ، الا ان يحاول تحقيقها .

ان البحث التقني للاتصال بوساطة عنصر جزئي يدل على كل لكن لا يشكله، وهذا كله يجعل من العمل الفني نظاما شبه متماسك من النشاطات المثارة او الجلية الموجهة صوب التواصل الحقيقي، وهذا ما يدعم النتاج بقيمة ديناميكية قد يجهلها المبدع نفسه، وهذا التعريف الجدلي يسمح بتعيين موضع الحاجز الحقيقي الذي يصطدم به نشاط الفعل الخيالي الذي يبدعه الفنان، ذلك الحاجز الذي بالامكان ان نرده الى الم ما او مرض فسيولوجي تم التغلب عليه او نقله الى اطار اخر .

سامر قحطان القيسي

الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة

المرفقات