همسة عند الامير ..

بُني فن الزخرفة الإسلامية على تشكيلات لا حصر لها من الزخارف النباتية والهندسية.. والذي وجد مساحة واسعة للانطلاق بتشكيلاته في الوحدات المعمارية ذات الطابع الديني أو المشاهد والمراقد الدينية المقدسة.. حيث ينطوي على تنويعات هائلة تقترب من نزعة التجريد والاختزال.. وهو في نفس الوقت يشير إلى حيوية الفنان المسلم التي تثير الصور المخزونة في ذاكرته لتحريك التوالد والانشطار المميز في الوريقات والسيقان والوحدات الهندسية الصغرى التي تشكل كلية الوحدة الزخرفية أو التكوين الزخرفي في المساحة التصميمية الكلية .  المصورة اعلاه لأحدى التحف الفنية المتمثلة بشباك ضريح امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام في النجف الاشرف.. والتي ابدع الفنان في صياغتها وتشكيل اجزائها بما يتوافق وقدسية المكان وهيبته..   مثل الفنان الشباك بصندوق رائع من الفضة الخالصة الموشاة بالذهب.. يعلوها تاج من الذهب تحف به أربع آنيات مجسمة وضعت في زواياه، وتم تزيينه بالزخارف النباتية المتسلقة وثمارها مع أزهار متنوعة واوانٍ بارزة، فضلاً عن أنصاف أعمدة ذات أخاديد طولية ، وأخرى مزينة بالعناقيد وأوراق العنب تتواجد في الزوايا الأربع، كما وتزين اضلاعه نصوص بخط الثلث مع توظيف زخارف آشورية وبابلية، لهذا نجد الشباك يزهو بتنوع لا ينضب ضمن تكوين منسجم وجميل . وظفت على الشباك المطهر مجموعة من الأزهار الجميلة والمتنوعة وبصور عدة فمنها البسيطة المسننة والمفصصة والمركبة ، ومنها ما له صلة بالتراث الآشوري والبابلي والمصري ، ومنها ايضاً ما تضمن بعض من خط الثلث المطعم بالياقوت (هو العلي العظيم) ويرتكز هذا التكوين وغيره على اعمدة صغيرة من الذهب.. وتحف بقاعدة تلك الاعمدة الذهبية أزهار رباعية الفصوص شعاعية الهيئة ، كما وظفت على جانبي القسم العلوي من باب الشباك المليء بعناقيد وأغصان العنب زهرة ذات أوراق مسننة خط بداخلها (يا علي) بخط الثلث بلون مصمت بخامة الفضة . وقد زخرف الشباك بالنباتات المتسلقة مما اكسبها حركة وديناميكية وحيوية وتنوع مثلها بشجرة العنب( كونها من ثمار الجنة ).. ومنحها أغصان متموجة وأوراق معرقة لتبعث عند المشاهد الشعور بالراحة والطمأنينة عند الدخول الى الروضة المقدسة، وكأن الزائر دخل الى روضة سرمدية تتمتع بجمال يتأرجح ما بين محاكاة الواقع ومحاكاة عالم المثل الذي لا يذبل ولا يمل بل يتمتع بالتجدد والتنوع والأنسجام ضمن كل واحد، بينما يشغل بعضها الآخر أفاريز بتكرار متعاكس يتوسطه قلب زخرفي رباعي التناظر خط بداخله (يا علي) بخط الثلث ايضاً. صاغ الفنان ايضاً نوعان من الانية التي زينت الشباك الشريف .. مُثلت بالآنية البارزة التي تتفرع منها أغصان العنب وملحقاته وهي مصمتة بلون الفضة وترتكز على اشكال طابوق مستطيل ذي تكرار تساقطي نصفي... أما النوع الآخر من الانية فهي الآنية المجسمة والتي تمتاز بقاعدة ذات تحدبات و تقعرات وتكون نحيفة الشكل عن غيرها وهي مصمتة بلون الذهب .  وظفت الفنان ايضاً اشكالاً من السلال المشبكة تملؤها أزهار الجوري ويحف بها أوراق وعناقيد العنب، بينما كانت السنادين محززة تتفرع منها أغصان العنب وملحقاته تفصل بينها أفاريز وكأنها أغصان متسلقة ملتفة حول تاج الشباك، وكلا السلال والسنادين كانت مصمتة بلون الذهب وذلك فق تنسيق جمالي وانشاء حر.. وقد وُظف في جميع أنحاء بدن الشباك نوع واحد من الخطوط وهو خط الثلث، وقد نفذ بعضه بمادة المينا على أرضية بيضاء متباينة بدرجات مختلفة مع لون الخط الأزرق او الأخضر، فضلاً عن انتشار أزهار صغيرة في الفضاء المحيط بالخط وبلون وردي فاتح مما فعل من دور جمالية التنوع من خلال التباين اللوني والمظهري ، وقد نفذت ايضاً بعض النصوص القرآنية المصمتة بلون الذهب وأخرى بلون الفضة تضم آيات قرآنية وأدعية وأقوال لرسول الله صلى الله عليه وآله.  اتسم الشباك بتنوع الشبكة التحتية لتنوع الإنشاء الزخرفي ضمن توليفة جمالية موحدة، وقد قُسمت واجهته المكونة من بناء مستطيلات طويلة بحجمين، حيث احتوت المستطيلات العريضة في ثلثها العلوي عقداً مفصصاً وعلى جانبيه أنشاء غصني حر يبدأ من أكتاف العقد، وتتوسط العقود المفصصة شبكة مربعات متماسة من الجوانب ومتساوية بالقياس مع رسم دوائر على زوايا المربعات. أما تاج الصندوق فقد غلبت عليه الشبكة العمودية مع خطوط أفقية لتنظيم الإنشاء الزخرفي مع خطوط إحاطة دائرية مثل إحاطة قرص الشمس المجنح والأزهار ، كما تنوع هذا التكوين من حيث الإنشاء الخطي بشكل جميل ومتجانس ومنسجم ، أما الشكل فتأرجح ما بين محاكاة الواقع ومحاكاة رموز تراثية تعود أصولها الى الاشورين والبابليين والمصريين وفق الرؤية الجمالية الإسلامية الخالصة ، وقد زاد التنوع اللوني من غنى الشكل وجماليته مع سيادة لون المادة الخام كالذهب والفضة المتباينة من حيث القيمة الضوئية . أن الروائع التي نفذها الفنان المسلم في المراقد والاضرحة المقدسة في العراق ودول اخرى هي بلا شك تعد تعبيرا جماليا وبنائيا عن المحتوى الشكلي والروحي للتكوينات الزخرفية المعقدة.. إذ أن اصطباغ تلك العمائر بالمظاهر الزخرفية ، يعزز من التنوع الحامل لتلك التكوينات كونه وسيلة تنظيم مهمة لتأسيس منتج جمالي استثنائي، يرتبط بشكل مباشر بفكرة ابتكار الاشكال والابتعاد عن المحاكاة والانعزال عن الواقع التشخيصي أو المادي للأشياء.. فالصور المجردة لفن الزخرفة والتجريد الهندسي الخالص.. وايضاً صور الخط العربي، إنما هي نوع من الصور الفنية اليدوية.. واليد من شأنها تحويل قوة النفس إلى فعل مدرك.. بتحريك المواد واحالتها الى خطوط وأشكال وألوان على السطح التصويري الزخرفي.. أما العقل فمن شأنه تنسيق الأجزاء والهيئات التصويرية بالمقادير والألوان..  ويتم ذلك بعد تخليص الاشكال من الآثار الطبيعية المادية (المكانية والزمانية) سواء كانت هذه الأشكال ذات أصول طبيعية مثل فن التوريق والأرابسك، او من معطيات العقل كالتجريدات الهندسية الخالصة وصور الخط العربي. من هنا كانت التكوينات الزخرفية تتشكل ضمن طبيعة جمالية خالصة ، فالأثر الذي تتركه تلك الزخارف (أيّاً كان نوعها) ، يقوم على أسس الابتكارات الحاصلة في طريقة التنظيم والتعشيق والتجاور والتراكب بين الوحدات الزخرفية والتنوع في هذه العلاقات ، لاسيما تلك التي نراها عند ضريح امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام .  سامر قحطان القيسي الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة

المرفقات