أثر صناعة الجمال في تصحيح مسار العنف
ما نعني بالعنف هنا هو: كلّ ما هو غير جميل، كلّ ما يحتوي على شيء من القبح في النفوس والطباع والسلوك، هنا تعطينا السيدة زينب عليها السلام دروساً في ذلك، وسنفصّل البحث بما يناسبه من المطالب التالية:
المطلب الأوّل : أثر الجمال في ردّ العدو وإصلاحه
من أهمّ المفاهيم التي جاء بها القرآن الكريم هو إصلاح الآخر بالحكمة والموعظة الحسنة، ودفع السيئة بالحسنة، فقال (جلّ وعلا): ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ﴾[1]، وقال: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيم﴾[2]، وقال: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالمُهْتَدِينَ ﴾[3]، فكان المسلمون أوّل مَن أضاع هذا المبدأ بعد الرسول الكريم صلى الله عليه وآله، ودخلت الأُمّة في حروب ونزاعات وعنف لها أوّل وليس لها آخر، فبدأت منذُ حروب الردّة إلى حروب داعش، فكان العنف يقابله العنف الأقوى ليقضي عليه، ولكن السيدة العظيمة عليها السلام في موقفها هذا أعادتنا إلى هذا المبدأ من جديد؛ فلو راجعنا قليلاً في الرواية نجد أنّ السائل الذي قد وجّه السؤال إلى السيدة زينب عليها السلام، ولم يكن عدواً لها وحدها، بل هو عدو لله ولرسوله، وإنّما كان يدّعي الدين؛ لأنّه لا مفرّ اليوم من الإسلام بعد أن أصبح دولة ومكاسب، يسعى له المرتزقة ممّن يدّعون أنّهم من حماة الدين، المهم من هذا أنّ العدو مهما كانت درجة عنفه وقوته وتوحشه لا بدّ من وجود حلّ لهدِّ البناء القوي الذي يتحصن خلفه، هذا البناء كان في داخله خواء وفراغ مجوّف ينكسر من أوّل ضربة على قشرته الزائفة، لذلك يجب مواجهته، لا السكوت عنه أو تركه يعيث في الأرض فساداً؛ لذلك فقد تصدّت له بكبرياء الحق، وبالصدق، وبالإيمان، لم تخشَ من بطشه وسطوته، إنّها قوة الجمال الحقيقي الذي يقهر كلّ قوى الشر والظلام.
في مراجعة قصيرة أيضاً لواقعة الطفّ ولرحلة السبي، وللوقوف بين يدي ابن زياد نجد أنّ الأمر كان مهولاً على سيدة جليلة، لم يكن يجرؤ أحد للنظر إلى خيالها، فكيف بالوقوف في مثل هذا الموقف المهين والمشين على كلّ المسلمين؟! كيف وصلت بهم الأُمور من الإساءة إلى بيت النبوة؟ في الوقت الذي ينظر لها على أنّها سبية خارجية أو كما يصفها ابن حريث في الرواية: «فَقَالَ لَهُ عَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ: إِنَّهَا امْرَأَةٌ، وَالمَرْأَةُ لَا تُؤَاخَذُ بِشَيْءٍ مِنْ مَنْطِقِهَا».
إنّ هذا الموقف الذي سجلته هذه السيدة العظيمة عليها السلام يجب أن يكون درساً تتعلّمه الأجيال، وهو أن يكون الرد على عالم العنف والتوحش والقبح لا بنفس منطقه، بل يكون بالمنطق المعاكس له؛ لأنّ الاستمرار في العنف لا يولد إلّا مزيداً من العوالم الموتورة، من تشريد، ويتامى وأرامل، وجوع وفقر، وثارات لا متناهية، إنّ الرد على هذا الطاغية كان فيه من السلم بمقدار ما فيه من القوة التي بقيت على مدى الدهور تذكرها الأجيال، إنّ الصوت الخافت الهامس النقي الصافي، ينتصر على كلّ أصوات الفوضى والهذيان والصراخ، هكذا هي المسألة.
ولعلّنا نحن اليوم نحاول أن نتوصل إلى نظرية المقاومة بالسلم، أو المقاومة بصناعة الجمال، أو إشاعة ثقافة الجمال في قبال ثقافة العنف، ولتتحقق هذه النظرية يجب أن يكون حاملها على قدر من الإيمان بقدر ما تحمله هذه السيدة، وكثيراً ما يُذكر نماذج من الذين استطاعوا تغيير العالم الطاغي، والوقوف أمام الجبابرة، وما كان سلاحهم سوى الكلمة أو حتى الصمت، ولعلّ غاندي الذي انتصر بثورته على المستعمرين لا بشيء سوى صمته وصيامه، ومناهضته للعنف، فأصبح ممّن يخلدهم التاريخ لمواقفهم السلمية، ونيلسون مانديلا لم يكن ليصل بجنوب أفريقيا إلى ما وصلت إليه، لو تعامل بمنطق السلاح والقوة المادية، نحن اليوم في عالم العنف والإرهاب والتوحش والفوضى التي صنعها الجهلة من المسلمين بأمس الحاجة إلى قوة ومنطق المثقف، والصوت الذي يصنع السلام بالجمال، لا بالسلاح.
ولننهض بعالمنا الإسلامي الذي دمرته الحروب والصراعات، لا بدّ من توفر بعض الشروط، والتي يجب أن يتحلّى بها مَن وقع عليه الظلم أوّلاً؛ لينهض بنفسه.
أوّلها أن يكون حكيماً، وأن يكون صادقاً؛ ليكون له أثره الذي يتركه على نفوس العدو كما فعلت السيدة زينب عليها السلام، وأن يكون سريعاً مباغتاً قوياًَ، لا مهادنة لديه ولا تقلب في المواقف، عندها يكون كنقاط المطر التي تسقط تباعاً على صخرة في مكانٍ واحدٍ؛ لذلك نحن لم نشاهد السيدة زينب عليها السلام قد تقلّبت في مواقفها بوجود الحسين أو بعد غيابه، إنّما الموقف واحد والقوة واحدة، وإن تغيّرت المواقف، هكذا نحن نحتاج إلى الثبات في مواقفنا، وإن كانت بسيطة، وأن تكون غير مسلحة وغير مدعومة من محاور القوة في الأرض وشرارها؛ ليكون البقاء للخير للجمال؛ لأنّ الشرّ يأكل بعضه بعضاً، ولا بدّ للقاتل من أن يُقتل، بينما مَن يزرع الجمال يحصد الخير، الجمال هو الحل الوحيد لنا في مقابل العنف الذي يسود العالم.
المطلب الثاني: أثر القيادة في تحقيق النصر
إنّ من أهم المواقف التي مرّت بها السيدة زينب عليها السلام هي قيادة ركب مفجوع، كلّ أفراده من الفاقدين، ما بين أيتام وثكالى، وما من قائد لهم سواها حيث كان الإمام السجاد عليه السلام وقتها عليلاً لا يقوى على أن يقوم هو بإدارة الركب، وأيّما فرد غيرها قد واجه من المواقف التي واجهتها من العطش، والقتل، وحرق الخيام، وهلع الصغار، ربّما لا يلومه أحد لو كان ردّة الفعل عنده هي البكاء والعويل، والندب والنواح، ولكن هي لم تكن امرأة وحسب، بل كانت قائدة لـمَن تبقّى من بيت علي وفاطمة عليهما السلام، وأدركت أن بقوتها بقاء هذا البيت واستمراره، وبانهيارها ينهار كلّ شيء؛ ولهذا كانت واقفة تدافع عن قضيتها ودينها واسمها، ولو كانت نطقت بكلمة غير الذي قالته في مواجهة ابن زياد ربّما انهار الجميع من نساء وأطفال، سواء من العلويات، أو من نساء الأصحاب، إنّ موقف السيدة زينب عليها السلام كان قد منح القوة لكلّ مَن معها، وسلب الظفر والفوز من العدو الذي بطش ببيت محمد صلى الله عليه وآله، هذا الموقف الرسالي تُعلّمنا إيّاه السيدة زينب عليها السلام، بأن نتعالى على الجراح ونكبر على المواقف، فننتصر ونستمر، ويهزم الأعداء.
وهذا سرّ بقاء النساء والأطفال على مواقفهم، رغم الجوع والعطش وقسوة الجند ووجع السياط، ورغم قسوة رؤية الرؤوس المرفوعة على الرماح تتقدّم الركب المسبي إلى الشام، هكذا تقاد الجيوش، وهكذا تنتصر ولا تستسلم، وتعلّمنا أنّ المعارك الرسالية والأهداف النبيلة لا تنتهي بموت أصحابها، بل تصنع من موتهم حياة لهم وللأجيال من بعدهم، ربّما لو كانت قد استسلمت السيدة زينب عليها السلام لما بقيَ من الطفّ إلّا أن تكون معركة غير متكافئة، انتهت بقتل الأخيار على يد أشرار الأرض، وطواغيت الظلام، وهكذا كلّ المعارك هي صراع بين إرادتين إحداها تمثّل الخير والثانية تمثّل إرادة الشرّ، ولكن لماذا بقيت هذه المعركة دون غيرها يتجدد ذكرها ليُلهم النفوس صناعة النصر، كما صنعته السيدة زينب عليها السلام، وهي ما زالت تعلو ثيابها دماء أُسرتها من الإخوان والأولاد والأهل والأصحاب.
إنّه درس في قلب الخسارة فوزاً، والهزيمة انتصاراً، والموت حياةً، وهذا هو ما قالته بنفسها في ردّها على شماتته وتشفيه: «لَعَمْرِي! لَقَدْ قَتَلْتَ كَهْلِي، وَقَطَعْتَ فَرْعِي، وَاجْتَثَثْتَ أَصْلِي، فَإِنْ كَانَ هَذَا شِفَاءَكَ فَقَدِ اشْتَفَيْتَ».
هكذا انتصرت السيدة زينب عليها السلام، بكلمة واحدة استطاعت أن تقلب الطاولة على رأس صاحبها ابن زياد، واستطاعت أن تجعل منه قزماً ضئيلاً، أمام قامة التحدي التي تملكها هذه المرأة البالغة من العمر على مشارف الستين[4]، وعبثاً حاول أن يتهمها بالسجاعة ولم ينجح، «قَالَ ابْنُ زِيَاد: هَذِهِ سَجَّاعَةٌ، وَلَعَمْرِي لَقَدْ كَانَ أَبُوكِ سَجَّاعاً شَاعِراً».
يحاول أن يوجّه الحوار إلى اتجاه آخر كما فعل القرشيون قبلاً، بأن يتهموا الرسول صلى الله عليه وآله بكونه شاعراً وكاهناً وساحراً، وهذا ديدن أصحاب الباطل عندما تكون معهم القوة المادية، يوجهون كلّ أسلحتهم لشغل الرأي العام بأكاذيبهم، وينسبونها للآخر؛ ليكسبوا الحرب الباطلة، وتتبعهم أصحاب النفوس الضعيفة، والمنافقون، والمرتزقة، ممّن يبحثون عن المكاسب، ولكن حين قالت له: « يَا بْنَ زِيَادٍ مَا لِلْمَرْأَةِ وَالسَّجَاعَةَ». هكذا وقف كلّ مَن كان تحت لواء السيدة زينب عليها السلام منتبهاً يقظاً متحدياً؛ لأنّ هذه الكلمات القصيرة الثابتة، لها أثرها في نفوس النساء والأطفال، ولأنّ مقاييس النصر والهزيمة لا تقاس بمقياس مادي؛ فما تراه انتصاراً أو انكساراً ليس بالضرورة أن يكون كذلك في نظر الآخر المقابل، لكن الموقف هنا واضح في أنّ مشاعر القوة والتضحية والفداء، قد عادت من جديد إلى أصحاب الركب الحسيني، أو مَن بقيَ منهم حيّاً، ليشهد النصر مرّة ثانية على يد السيدة الجليلة، التي استطاعت أن تزرع الثقة في قلب كلّ مَن كانت منكوبة وكسيرة واستطاعت أن تشبع أفواه الأطفال الصغار من طعم الكبرياء الذي أطعمتهم، أعطتهم الدرس في أنّ الموت جوعاً بكبرياء خير من الموت على شبع الذل، وهكذا قادت السيدة زينب عليها السلام الرحلة لتكمل المسيرة إلى الشام.
الكاتب: م. د. كواكب باقر الفاضلي
مجلة الإصلاح الحسيني – العدد السابع عشر
مؤسسة وارث الأنبياء للدراسات التخصصية في النهضة الحسينية
__________________________________________
[1] المؤمنون: آية 96.
[2] فصلت: آية 34.
[3] النحل: آية 125.
[4] وُلدت السيدة زينب صلى الله عليه وآله في السنة السادسة للهجرة في الخامس من جمادي الأُولى. القزويني، محمد كاظم، زينب الكبرى صلى الله عليه وآله من المهد إلى اللحد: ص35.
اترك تعليق