الجمال والمعرفة في الفكر الاسلامي ..

ما أن جاء الإسلام حتى تبلور للعرب فكراً فلسفياً جمالياً واضحاً خاصاً بهم .. اضطلع بالتعبير عن هويتهم الإسلامية التي اتسمت بالاستقصاء والبحث في قضايا الدين والدنيا ومدى صلتها بالذات الانسانية، وفقاً للمبادئ الإلهية المنزلة في القرآن الكريم وهو بالتأكيد مرجع لا يعترى صدقه ادنى شك..( ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ) . يُعد النص القرآني مصدراً لحقائق ومعارف يقينية لا يغالط فيها أحد، وقد اقترنت أساساً بمبدأ الإيمان والعبادة ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ )..وذلك للدلالة على أن المعرفة تقوم على العبادة وأن تفسير العبادة يقوم على المعرفة... ونظراً لإتباع النص القرآني هذه الآلية في التشكل المبدع فقد تواجدت ثمة ميتافيزيقيا بينه وبين متلقيه شكلت بدورها فجوة نصية تحكم تأويل المتلقي وقراءته له ، ولأن كلام الله المنزل في القرآن قائماً على اساس إلوهية المصدر، فقد اصبحت الإلوهية بالضرورة محوراً متحكماً في ممكنات القراءة وفضاءها .  لقد حمل القرآن متلقيه عل استشفاف المعنى وتثبيت دلالاته في النفس عبر  آليتي التعلم والتعرف، فـالنص القرآني يخاطب المسلم بشكل مباشر وينقل له معانٍ ومعارف بشكل ضمني تارة وصريح تارة آخر ، أما الضمني فيعتمد آلية التعرف في قراءة النص .. وبمعنى ادق حمل المتلقي على التدبر في آيات الله المباركات من خلال الاطلاع على النص القرآني ومحاولة الاستدلال عقلياً ووجدانياً على المعاني الكلية المركزة بدقة خلف لغة القرآن.. وفي الوقت ذاته يعمل على توسيع المساحة الذهنية والمعرفية لمتلقيه ويحثه على تنشيط قدراته التأويلية ، ذلك أن لغة القرآن قد وظفت بشكل إبداعي حملت معه ثقافة العربي واستخدمتها في الوقت ذاته، لتحقق للنص حضوراً متواصلاً بعيداً عن مقولة التاريخ ومستفيداً منها إن وجدت.  مما تقدم نرى ان النص القرآني أُسبغ بطابع جمالي معرفي يفتن متلقيه لفصاحة مضمونه ودقة لغته  وثراء معانيه وقربه من الذات.. إذ لم يبتعد عن مدركات المتلقي ليصعب معه قراءته، ولينغلق بذلك على نفسه ، ولم يقترب في الوقت ذاته من مدركات المتلقي أشد القرب ليكتفي بملامسة حواسه فقط، ليغدو نصاً اعتيادياً سلساً دون معنى .. وهذا ما جعل الخطاب الإلهي خطاباً حيادياً مكتفٍ بذاته باحتوائه على معانٍ مدركة حسياً وأخرى مضمنه مدركة بالقلب والعقل والوجدان ، وأخرى بالحدس والمخيلة عبر تشكلات لغوية نصية ، الأمر الذي يُفضي إلى تعدد القراءات والتأويل . أما آلية التعلم الانفة الذكر فتعتمد على الإيضاح الصريح عبر إفصاح النص عن حالات ومواقف يمكن أن يتعلم منها تعلماً مباشراً يسيراً مشوقاً متدرجاً في خطواته ، ليثير فيه مشاعر معينة وفقاً للحالة أو الموقف المروي ، والغاية التي وظفت اللغة بها على هذا النحو.. وقد أورد القرآن الكريم أسلوبين في عمليات تعزيز التعرف والتعلم هما الترغيب والترهيب ، بغية ترغيب المتلقي على تطبيق مبادئ الإسلام السامية والخوف من العقاب الإلهي في حالة العصيان وارتكاب الآثام . وعلى وفق ذلك تصبح معارف الذات معارف ( حسية ، حدسية ، عقلية ، وجدانية ) وهذه من نعم الله علينا ، إذ أورد الله ذلك بتمييزه بين قوى الحس وقوى العقل.. و أبزر الخالق جل وعلا  بعض المعاني بقالب حسي .. أما المعاني العقلية فلها إطار إدراكي أعلى مرتبة من مجرد الإدراك الحسي، والمظاهر الحسية مثل ( الكون ، الأرض ، السماء ، مظاهر الطبيعة ).. فقد جاءت كوسيلة يمكن الاستدلال بها وصولاً إلى معرفة حقيقة الأشياء وطبيعة المجهولات ، وذلك بأن تضفي الذات معانٍ ودلالات في تأويلها عبر الانفعال بجمالها الحسي ، وأياً كانت المعاني ( مدركة حسياً أو روحياً ) فإنها جاءت في النص القرآني كصورة حية ماثلة في الذهن لمشهد واقعي أو متخيل مرسومة بكلمات معبرة يراد بها غالباً تقريب ما يضرب له عن طريق الاستعارة والكناية أو حتى التشبيه، مع ملاحظة وجود علاقة تشابه بين كلتا الحالتين .. ومن ثم نقل أوجه الشبه بلغة مألوفة أو متداولة حتى يمكن للذات قراءتها وتقبلها والاستجابة لها .  لقد حقق النص القرآني ما سبق ذكه في هذه الدراسة المتواضعة بمعطيات عدة ، منها رصيده المجازي وأفقه الاستعاري وطبيعته التشبيهية ، إذ ينقل المجاز المتلقي من معنى إلى معنى آخر، ومن مستوى معرفي إلى آخر أرقى ، تتبلور فيه الأفكار وتتوالد الصور وتؤدي الإيحاءات أدوارها.. أما التشبيه فيعمل على تكامل الصور ليحقق اندماجاً كاملاً للذات ومشاركة فعلية في الإمساك بالمعنى، وضم صوره بعضاً لبعض واستخلاص حقائقها.. بمعنى آخر الذات الانسانية هنا تعمد الى إبراز جنسيات المعاني، ورفع الاستار عن الحقائق حتى ترى الأفق الاستعاري في صورة متحققة فعلاً.. وإن هذه الفعالية القرائية تقوم أساساً على محاولات المتلقي الدقيقة لاختراق مضمون النص والتفكر به والعمل بمضامينه في شتى مجالات الحياة الاجتماعية والثقافية .   لم تكتفِ الفلسفة الإسلامية بانبثاق فكر فلسفي خاص بها فحسب ، بل عملت على امتصاص ما أفرزته طروحات الاتجاهات الفلسفية السابقة لها والتي تناولت طروحاتها بالنقد والتعقيب، وهو ما يكشف عن مدى اتساع الأفق الذهني والمعرفي للمسلم الذي عدّ القرآن الكريم دستوره الاول ومرجعاً معرفياً وشرعياً .  

اعداد  سامر قحطان القيسي الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة

المرفقات