المضامين الإصلاحية في خطب الإمام الحسين عليه السلام ومواعظه

توطئة[1]

ممّا لا شك فيه أنّ النهضة الحسينيّة قد رفدت الأُمّة بدروس وعِبر، حري بها أن تتخذ منها مناراً تهتدي بهديه، ومنهجاً تترسم خطاه إذا ما أرادت أن تنجو من العثرات، وما يعصف بها من انحرافات، فقد كان الباعث الأهمّ لهذه النهضة، هو تصحيح المسار الذي جنح بالأُمّة، وإصلاح ما لحق بها من مفاسد.

لقد تصدى الإمام الحسين عليه السلام لهذه المهمّة الصعبة، وما انطوت عليه من مخاطر، فكان للكلمة وقعها المدوي، أعقبه بالعمل ليكون العمل مصداق القول، في زمن خفت فيه صوت الحق؛ إذ آثر الناس العافية، فلاذ بالصمت مَن لاذ، وتهاوى من أخذه بريق الذهب.

تصدى الإمام لمسؤولية الإصلاح بحكم تكليفه الشرعي بوصفه إمام الأُمّة، من خلال الوعظ والإرشاد، وهذا ما ترك أثره البالغ في نفوس الناس ممّا أثار مخاوف السلطة التي عجّلت بخروجه، من خلال محاولة إجباره عليه السلام على البيعة، هذه البيعة التي تعني الكثير، إذ تُشكّل قضية أخذ البيعة من الإمام إضفاءً للشرعية على النظام الجديد، وإبعاداً لخطر يؤرّق سلطته.

لقد تجسّد الإصلاح في مقولة الإمام الشهيرة التي سطّرها في وصيته لمّا شرع بنهضته: «هذا ما أوصى به الحسين بن علي إلى أخيه محمد بن الحنفية: أنّ الحسين يشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وأنّ محمداً عبده ورسوله، جاء بالحقّ من عنده، وأنّ الجنّة حقّ والنّار حقٌ، والساعة آتيةٌ لا ريب فيها، وأنّ الله يَبعث مَن في القبور، وأنّي لم أخرج أشراً، ولا بطراً، ولا مُفسداً، ولا ظالِماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي صلى الله عليه وآله أُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المُنكر، وأسير بسيرة جدّي وأبي علي بن أبي طالب، فمَن قَبلني بقبول الحقّ؛ فالله أوْلى بالحقّ، ومَن ردّ عليّ هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم، وهو خير الحاكمين، وهذه وصيّتي إليك يا أخي، وما توفيقي إلّا بالله عليه توكّلت وإليه أُنيب»[2].

وضع الإمام الحسين عليه السلام المبادئ التي ارتكزت عليها نهضته؛ إذ بدأ بصيغة النفي (لم أخرج أشراً)[3]، و(لا بطراً)[4]، و(ولا مُفسداً)[5]، و(لا ظالماً)[6]، وفيها استبعد كلّ المفاسد التي قد ترافق أيّ عمل يقوم به المرء، فهو لم يطلب الدنيا التي قد تُثار تجاه طُلّابها بعض الشبهات وتتخللها بعض المفاسد وربّما تلحق الضرر بالأُمّة، وبعد ذلك انطلق الإمام عليه السلام في إبراز أهداف نهضته الإصلاحية، من خلال إشارته إلى مطلب الإصلاح، وهو مطلب عام، ثمّ شرع بالإفصاح عن جزئياته ومفرداته، ومنها الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، واتباع السيرة النبوية الشريفة التي أجمع عليها المسلمون وغير ذلك.

سنحاول في هذه الوقفة العُجلى إلقاء الضوء على خطب الإمام الحسين عليه السلام ومواعظه للناس، وما تحمل من مضامين إصلاحية وجهت بالدرجة الأُولى نحو إصلاح النفس، التي تُعدّ واسطة العمد التي يستند إليها إصلاح المجتمع برمّته، ثمّ نُعرّج إلى المواعظ التي تخاطب الآخر ـ سواء كان من الموالين للإمام عليه السلام، أم من معارضيه ـ وما تحمل من نصائح غايتها تسديد الخُطى، وتقويم ما انحرف عن جادة الحقّ من المخالفين على اختلاف مشاربهم، سواء أكانوا من قادة القوم الذين أخذتهم العزّة بالإثم، أم ممّن غُرّر بهم وضُللوا وصُورت لهم الأُمور على غير حقيقتها.

المبحث الأوّل: إصلاح النفس (الموعظة الموجّهة إلى الذات)

لعلّ الخطاب الموجّه للنفس وتذكيرها بأوامر الله سُبحانه وتعالى ونواهيه تحمل من المضامين الكثيرة، وبخاصّة ما يصدر عن المعصوم عليه السلام، فهي تترك أثراً كبيراً في المتلقي؛ إذ تعطيه الحافز على الاقتداء واستلهام العبرة؛ فخوف المعصوم من ارتكاب المعاصي التي تؤدي إلى النار، إنّما هو تذكير للعامّة بوجوب الحذر من ارتكاب هذه المعاصي التي تدفع بصاحبها إلى النار، وممّا حمل هذا المعنى في مواعظ الإمام الحسين عليه السلام، قوله عندما سُئل: «كيف أصبحت يا بن رسول الله؟ قال عليه السلام: أصبحتُ ولي ربٌّ فوقي، والنار أمامي، والموت يطلبني، والحساب محدق بي، وأنا مرتهن بعملي، لا أجد ما أحبّ، ولا أدفع ما أكره، والأُمور بيد غيري، فإن شاء عذّبني، وإن شاء عفا عنّي، فأيّ فقير أفقر منّي؟!»[7].

نلمس في هذا النصّ الكثير من المضامين الإصلاحية الموجّهة للنفس؛ ليعم تأثيرها في الآخر، إذ كانت إجابته تمثّل مساراً واضحاً يوصل مَن سار عليه إلى مأمنه ونجاته، ويُحصّنه ممّا قد يقع به المرء؛ نتيجة غفلته أو ابتعاده عن جادّة الحقّ، ركّز الإمام عليه السلام على مسألة مهمّة في حياة العبد أَلا وهي مخافة الله سُبحانه وتعالى، الذي يراقب العبد (أصبحت ولي ربّ فوقي)، فعندما يطمئن المرء بوجود الرقيب المطّلع على الخفايا لا يقدم على المعاصي، بل يحرص على التحلّي بالمحاسن والمحامد كالتقوى والورع، والسير على ما يرضي الرقيب إذا ما علم أنّ الأعمال لا تُترك على عواهنها، بل هناك جزاء (والنار أمامي، والموت يطلبني، والحساب محدق بي)، وهنا يتحدد الجزاء في ضوء العمل (وأنا مرتهن بعملي)، فالمرء رهين بعمله لا يدفع عن نفسه (لا أجد ما أُحبّ، ولا أدفع ما أكره، والأُمور بيد غيري)، وهذا يوجب الانقطاع إلى الله والتسليم بقضائه، مع الأخذ بالأسباب في اتباع أوامره والابتعاد عمّا يغضبه.

ومن أقواله التي وردت على هيئة الدعاء، وأراد بها وعظ الآخر عِبر وعظ النفس وحثّها على شكر النعم التي أنعم الله بها على العباد: «اللهمّ لا تستدرجني بالإحسان، ولا تُؤدّبني بالبلاء»[8]، فالاستدراج من الله سُبحانه وتعالى للعبد هو: أن يسبغ عليه النعم، ويسلب منه الشكر[9]، وكأنّ الإمام عليه السلام يستحضر معنى قوله تعالى: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾[10]، فالإمام عليه السلام استلهم مضمون الآية الكريمة، فجاء دعاؤه بصيغة النهي الذي خرج من معناه الأصلي إلى معنىً مجازي، فطلب أن لا يكون ما يناله من الإحسان إنّما هو استدراج يُنسيه الشكر مستحضراً صورة الكافرين الذين ينالهم من الخير، فينقلب عليهم فيزدادوا إثماً؛ لأنّهم جحدوا فحقّ عليهم العذاب، وهذا درس آخر لنا أطلقه الإمام؛ إذ جمع في هذا الدعاء معاني كثيرة في ألفاظ قليلة، أفصح فيها عليه السلام عن امتلاكه ناصية الفصاحة والبلاغة[11] ؛ وبذلك اكتسب النصّ قوة التأثير في المتلقّي.

الثبات على المبدأ

لم تثنِ الإمام الحسين عليه السلام الضغوط عمّا اختطّه لنفسه من طريق؛ إذ تروي كتب التاريخ كثرة المعارضين لنهضته، فهذا ابن عباس يتوسل محاولاً منعه من الشخوص إلى الكوفة بكلّ الوسائل، فلم يفلح؛ إذ يقول بعد أن استيأس من ثني الإمام عليه السلام عن المسير: «والله، لو أعلم أنّي إذا تشبثت بك وقبضت على مجامع ثوبك، وأدخلت يدي في شعرك حتى يجتمع الناس عليَّ وعليك، كان ذلك نافعي لفعلته، ولكن أعلم أنّ الله بالغ أمره...»[12]، فثبات الإمام عليه السلام نابع من عقيدته الراسخة، وإيمانه المطلق بصحة نهضته التي هدفها الإصلاح، فضلاً عن تردي الواقع الذي تمرّ به الأُمّة، وانحراف المسيرة بعد أن تصدى لها ذوو الضلالة والانحراف.

لقد تجسّد ثبات الإمام الحسين عليه السلام في رفضه الخضوع إلى اللّئام كما وصفهم في خطبته المشهورة، إذ يقول: «أَلا وإنّ الدعيّ ابن الدعيّ قد تركني بين السلّة والذلّة، وهيهات له ذلك منّي، هيهات منّا الذلّة، أبى الله ذلك لنا ورسوله والمؤمنون، وحجُورٌ طهُرت وجُدود طابت، أن يُؤثر طاعة اللِّئام على مصارع الكرام، أَلا وإنّي زاحف بهذه الأُسرة على قلّة العدد، وكثرة العدو، وخذلة الناصر»[13]، لم يتأثر بالعدو وكثرته، ولا قلّة الناصر، وتنصّل مَن راسله عن عهودهم، وتمثّل عليه السلام فقال:[14]

فَإِنْ نَهْزِمْ فَهَزّامُونَ قدْماً                    وَإِنْ نُهْزَمْ فَغَيْرُ مُهَزَّمينا

وَما إِنْ طبُّنا جُبْنٌ وَلكِنْ                     مَنايانا وَدَوْلَةُ آخَرينا

فَلَوْ خَلُدَ الْمُلُوكُ إِذاً خَلُدْنا                    وَلَوْ بَقي الْكِرامُ إِذاً بَقينا

إِذا مَا الْمَوْتُ رَفَّعَ عَنْ أُناس                كَلاكِلَهُ أَناخَ بِآخَرينا

فَأَفْنى ذلِكُمْ سَرَواتِ قَوْمي                  كَما أَفْنَى الْقُرُونَ الأْوَّلينا

فَقُلْ لِلشّامِتينَ بِنا أَفيقُوا                      سيَلْقى الشّامِتُونَ كَما لَقينا(2) 

إنّ ثبات الإمام الحسين عليه السلام على المبادئ والقيم الحقّة، التي هي ميراث النبوّة على قلّة الناصر وشراسة العدو، وتمسّكه بالرسالة الإصلاحية التي أصرّ على إبلاغها للأجيال، من الدروس التي يجدر بنا التمسّك بها في زماننا هذا وفي كلّ أوان، فـ «ما أحوج المسلمين اليوم أن يستلهموا جهاد أُولئك العظماء الأفذاذ، ويقتفوا آثارهم، في التمسّك بالدين، والثبات على المبدأ، والتفاني في نصرة الحقّ، ليستردوا مجدهم الضائع، وعزّهم السليب، وينقذوا أنفسهم من هوان الهزائم الفاضحة والنكسات المتتالية»[15].

لقد أطلق الإمام الحسين عليه السلام صرخةً في وجه الظالمين، ما زالت مدوية في الآفاق تزلزل عروش الظلم، رفعها الثائرون شعاراً يشدّ من أزرهم ويقوي عزائمهم كلّما عصف بالأُمّة خطب، قالها في أوج المحنة: (هيهات منّا الذلّة)، شعار رفعناه بألسنتنا وما علينا إلّا تعزيز القول بالفعل إذا ما أردنا الإصلاح وإنقاذ الأُمّة من حال التردّي والضياع. 

اتّباع السنّة

 لقد سار الإمام الحسين عليه السلام على هدي الرسالة المحمدية السمحة، التي أرست قواعد البناء والإصلاح، وغرست شجرة الخير؛ ليعم نفعها الجميع، فتعهد الإمام الحسين عليه السلام رعاية هذه الشجرة لتؤتي أُكلها كلّ حين، فرفع شعار الإصلاح واتّباع سنّة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله في تحقيق هذه الرسالة «خرجت لطلب الإصلاح... وأسير بسيرة جدّي وأبي علي بن أبي طالبٍ»[16].

لقد تصدى الإمام الحسين عليه السلام إلى إحياء سنّة جدّه المصطفى صلى الله عليه وآله من خلال التصدي للبدع التي تجذّرت في المجتمع، فابتعد القوم عن سبل الرشاد، فكان لزاماً على إمام الأُمّة أن يصدع بدعوته إلى السنّة النبوّية السمحة، وهنا يقول الإمام الحسين عليه السلام: «وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسُنّة نبيّه صلى الله عليه وآله، فإنّ السنّة قد أُميتت، وإنّ البدعة قد أُحييت، وإن تسمعوا قولي وتُطيعوا أمري أهدكم سبيل الرشاد»[17].

جسّد الإمام عليه السلام اتباعه لسنّة نبيّه صلى الله عليه وآله على أرض الواقع، من خلال رفضه للانحراف، والتصدي لتقويمه بالقول والفعل، من خلال رفضه البيعة، ونهضته للمطالبة بالتغيير ورفع الظلم والحيف الذي لحق بالأُمّة إذ يقول: «أيّها الناس، إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله قال: مَن رأى سلطاناً جائراً مستحلّاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يُغيّر عليه بفعل ولا قول، كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله، أَلا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطَّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله، وحرّموا حلاله...»[18].

من هنا؛ نجد أنّ الإمام الحسين عليه السلام إنّما خرج لطلب الإصلاح امتثالاً لأمر الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، وتثبيتاً لسنّته التي خولفت وابتعد عنها الناس بعد انحراف بني أُميّة عن المسار القويم، وتركوا طاعة الرحمن، وركنوا إلى الشيطان، فبدى ظلمهم للعباد بيّناً، وهنا نجد القرآن الكريم قد نهى عن اتّباع مَن عطّل سنّة نبيّه واتّبع هواه، كقوله تعالى: ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ﴾[19]. وعليه فإنّ قول النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وفعله وتقريره إنّما هو امتداد لما جاء في القرآن الكريم من أوامرٍ ونواهٍ، فأمر النبي صلى الله عليه وآله بعدم الركون إلى السلطان الجائر إنّما هو امتداد لأمر الله سُبحانه وتعالى بعدم الركون إلى الظالم، وما صرخة الإمام الحسين عليه السلام بوجه الظالم إلّا امتثالاً لأمر الله وإحياءً لسنّة نبيّه.

المبحث الثاني: الموعظة الموجّهة إلى الآخر

تعدّدت سبل توجيه المواعظ والإرشادات عند الإمام الحسين عليه السلام، فلم تقتصر على مخاطبة الآخرين من خلال مخاطبة الذات؛ إذ نجده أحياناً يُخاطب الآخر بصورةٍ مباشرةٍ؛  لتتحقق الأهداف المرجوّة من هذه المواعظ، فقد يحمل الخطاب معنى الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر، أو ربّما يكون الغرض منه إلقاء الحجة على المتلقّي الذي استبدّ به العناد والتعنّت والغي، وسنتعرّض لهذه المضامين في ضوء هذه المواعظ:

أوّلاً: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

من الواجبات التي حثّت عليها الشريعة الإسلامية بوصفها أداة لتقويم ما اعوجّ من سلوكيات في المجتمع الإسلامي، وقد عرفها أهل اللغة بأنّها: «ما يُستحسن من الأفعال، وكلّ ما تعرفه النفس من الخير وتطمئن إليه. والمنكر: كلّ ما قبّحه الشرع وحرّمه وكرّهه»[20]، ويمكن أن نتبيّن المعروف من المنكر من خلال ما ورد في القرآن الكريم والسنّة النبويّة الشريفة، فـ«كلّ ما أمر الله ورسوله به فهو معروف، وما نهى الله ورسوله عنه فهو منكر»[21]، و«لا يختصّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمورد من الموارد، ولا مجال من المجالات، بل هو شامل لجميع ما جاء به الإسلام من مفاهيم وقيم، فهو شامل للتصورات والمبادئ التي تقوم على أساسها العقيدة الإسلامية، وشامل للموازين والقيم الإسلامية التي تحكم العلاقات الإنسانية، وشامل للشرائع والقوانين، وللأوضاع والتقاليد، وبعبارة أُخرى: هو دعوة إلى الإسلام عقيدةً ومنهجاً وسلوكاً، بتحويل الشعور الباطني بالعقيدة إلى حركة سلوكية واقعية، وتحويل هذه الحركة إلى عادة ثابتة متفاعلة ومتصلة مع الأوامر والإرشادات الإسلامية، ومنكمشة ومنفصلة عن مقتضيات النواهي الإسلامية»[22].

 لقد تصدى الإمام الحسين عليه السلام إلى هذه المسؤولية الشرعية بصورة جلية، إذ تجسّدت على أرض الواقع بالقول والفعل، فيقول: «اعتبروا أيّها الناس بما وعظ الله به أولياءه من سوء ثنائه على الأحبار، إذ يقول: ﴿لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ...﴾[23]. وقال: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ...﴾[24]. إِلى قوله: ﴿لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾[25]، وإنّما عاب الله ذلك عليهم؛ لأنّهم كانوا يرون من الظلمة الذين بين أظهرهم المنكر والفساد، فلا ينهونهم عن ذلك رغبةً فيما كانوا ينالون منهم ورهبةً ممّا يحذرون، والله يقول: ﴿فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ﴾[26]، وَقال﴿وَالْمؤْمِنُونَ وَالْمؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمنْكَرِ...﴾[27]، فبدأ الله بالأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر فريضةً منه، لعلمه بأنّها إذا أُدّيت وأُقيمت، استقامت الفرائض كلّها، هيّنها وصعبها. وذلك أنّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر دعاء إلى الإسلام مع ردّ المظالم ومُخالفة الظالم، وقسمة الفيء والغنائم وأخذ الصدقات من مواضعها ووضعها في حقّها...»[28].

لقد انطلق الإمام الحسين عليه السلام من حقيقة راسخة مفادها: أنّ فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا ما أُدّيت على أُصولها ستُصلَح شؤون الأُمّة كلّها ويتحقق الأمن المجتمعي، فيُنتصر للمظلوم ويُردع الظالم.

ولم تكن الغاية من تبنّي مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند الإمام الحسين عليه السلام إلّا الإصلاح، وإقامة العدل، ونصرة المظلوم؛ إذ يقول: «اللهمّ، إنّك تعلم أنّه لم يكن ما كان منّا تنافساً في سلطان ولا التماساً من فُضول الحطام، ولكن لِنُرِيَ المعالم من دينك، ونُظهر الإصلاح في بلادك؛ ويأمن المظلومون من عبادك، ويعمل بفرائضك وسُننك وأحكامك، فإن لم تنصرونا وتنصفونا قوي الظلمة عليكم، وعملوا في إطفاء نور نبيّكم، وحسبنا الله، وعليه توكّلنا، وإليه أنبنا، وإليه المصير»[29].

وانطلاقاً من هذا المبدأ وجد الإمام الحسين عليه السلام أنّه لا بدّ من الخروج؛ لطلب الإصلاح الذي لا يتمّ ولا تتحقق الأهداف المرجوة منه إلّا بالقول والعمل، فالقول هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بنطاقهما الواسع على وفق ما يقبله العقل والوحي، والعمل هو اتّباع سيرة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله ووصيه الإمام علي عليه السلام.

ثانياً: إلقاء الحجة

لم يترك الإمام الحسين عليه السلام خصومه دون وعظ أو إرشاد؛ عسى أن يعودوا إلى رشدهم، من خلال إيضاح الصورة التي التبست عليهم بوعي منهم أو من دون وعي؛ إذ ربّما تؤثر الدعاية الإعلامية للخصم، فينساق الناس وراءها عبر قلب الحقائق، فتنطلي الأكاذيب، وهذا غالباً ما يقع فيه عامّة الناس؛ بسبب سهولة الإيقاع بهم وتضليلهم، فيما يركب العناد والتعنت الفئة الثانية التي هي على اطلاع ومعرفة بالحقيقة، إلّا أنّ حبّ الدنيا وبريق الذهب قد خطف أبصارها، فوقعت في شراك النفس الأمّارة بالسوء.

أمام هذا الانسياق وراء هوى النفس ومغريات الدنيا وجد الإمام عليه السلام ضرورة ملحّة إلى تبصير الفئة الأُولى على الأقل؛ علّها ترجع إلى رشدها، فكان لا بدّ من إلقاء الحجة على الناس وتحذيرهم من الانحراف والردّة، فوجّه خطابه إليهم في أوج المعركة، فـ«لمّا استكفّ الناس بالحسين عليه السلام ركب فرسه، واستنصت الناس، وحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: تَبّاً لكم أيّتها الجماعة وترحاً وبُؤساً لكم، حين استصرختمونا وَلهين، فأصرخناكم مُوجفين، فشحذتم علينا سيفاً كان في أيدينا، وحمشتم علينا ناراً أضرمناها على عدوّكم وعدوّنا، فأصبحتم إلباً على أوليائكم، ويداً على أعدائكم من غير عدل أفشوه فيكم، ولا أمل أصبح لكم فيهم، ولا ذنب كان منّا إليكم، فهلّا لكم الويلات إذ كرهتمونا والسيف مشيم، والجأش طامن، والرأي لما يستحصف، ولكنّكم أسرعتم إلى بيعتنا كطيرة الدبا، وتهافتّم إليها كتهافت الفراش، ثمّ نقضتموها سفهاً وضِلّة، فبُعداً وسُحقاً لطواغيت هذه الأُمّة، وبقيّة الأحزاب ونبذة الكتاب، ومُطفئي السنن، ومُؤاخي المستهزئين الَّذين جعلوا القرآن عضين، وعصاة الإمام، وملحقي العهرة بالنسب، ولبئس ما قدّمت لهم أنفسهم أن سَخِط الله عليهم وفي العذاب هم خالدونَ، أفهؤلاء تعضدون، وعنّا تتخاذلون، أجل والله، خذلٌ فيكم معروف، نبتت عليه أُصولكم، واتزرّت عليه عروقكم، فكنتم أخبث ثمر شجر للناظر، وأكلة للغاصب، أَلا لعنة الله على الظالمين الناكثين، الَّذين ينقضون الأيمان بعد توكيدها، وقد جعلوا الله عليهم كفيلاً»[30].

ممّا يميّز هذا الخطاب، الشدّة والقوة التي يتطلبها الموقف، وكأنّ القوم قد وصلوا إلى مرحلة اللا عودة، فأراد تعنيفهم وزجرهم، فاستعمل ألفاظاً تتسم بالشدّة، فذكّرهم بكتبهم وبيعتهم له، ثمّ تراجعهم وانحيازهم إلى  الطاغوت...

ثالثاً: حفظ كرامة الآخر

ومن المضامين الإنسانية التي حفلت بها السيرة الحسينيّة الشريفة، التي تُعدّ دروساً ومبادئ رصينة وراسخة، يجدر بالمؤسسة التي تُعنى بحقوق الإنسان أن تتخذ منها مناراً تهتدي به، ومنهاجاً تحذو حذوه؛ لتحفظ كرامة الإنسان وتصون ماء وجهه؛ لأنّه قيمة عُليا كرّمه الله سُبحانه وتعالى وسخّر له كلّ شيء: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾ [31]، ولمّا كان الإنسان هذا قدره وهذه منزلته عند الله سُبحانه وتعالى، نجد هذا التكريم قد انسحب على سلوك الأئمّة عليهم السلام وطريقتهم في التعامل مع الإنسان، ونجد ذلك الأمر جلياً في خطاب الإمام الحسين عليه السلام الموجّه للإنسان حينما «جاءه رجل من الأنصار يُريد أن يسأله حاجة، فقال عليه السلام: يا أخا الأنصار، صُن وجهك عن بذلة المسألة، وارفع حاجتك في رقعة، فإنّي آتٍ فيها ما سارّك إنْ شاء الله. فكتب: يا أبا عبد الله، إنّ لفلان عليّ خمسمائة دينار، وقد ألحّ بي، فكلّمه ينظرني إلى ميسرة. فلمّا قرأ الحسين عليه السلام الرقعة دخل إلى منزله، فأخرج صرّة فيها ألف دينار، وقال عليه السلام له: أمّا خمسمائة، فاقض بها دينك، وأمّا خمسمائة فاستعن بها على دهرك، ولا ترفع حاجتك إلّا إلى أحد ثلاثة: إلى ذي دين، أو مروءة، أو حسب، فأمّا ذُو الدين فيصون دينه، وأمّا ذو المروءة فإنّه يستحيي لمروّته، وأمّا ذُو الحسب، فيعلم أنّك لم تُكرم وجهك أن تبذله له في حاجتك، فهو يصون وجهك أن يردّك بغير قضاء حاجتك»[32].

لم يتبع الإمام عليه السلام صدقته بالمنّ، وكأنّه استحضر مضمون الآية الكريمة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَالله لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾[33]، ولم يكتفِ الإمام عليه السلام بحفظ ماء وجه السائل، بل وضع قاعدة لذلك من خلال إرشاد مَن يضطر إلى طلب الحاجة من الناس، أن لا يسأل إلّا ذا دين (فيصون دينه)؛ فيكتم أمر السائل ولا يذيع خبر مسألته بين الناس، وذا المروءة؛ (فإنّه يستحيي لمروءته)، فلا يهدر كرامة السائل فيحسن إليه، أمّا ذو الحسب، فإنّه يستجيب لمَن يسأله قضاء حاجة من دون منٍّ أو أذى.

رابعاً: الحضّ على المكارم

 من مواعظه عليه السلام في الحضّ على المكارم وترغيب الناس في التسابق في عمل الخير، وقضاء حوائج الآخرين، وتجنب المنّ والأذى، إذ يقول: «أيّها الناس، نافسوا في المكارم، وسارعوا في المغانم، ولا تحتسبوا بمعروف لم تعجّلوه، واكتسبوا الحمد بالنّجح، ولا تكتسبوا بالمطل ذمّاً، فمهما يكن لأحد صنيعة له رأى أنّه لا يقوم بشكرها فالله مكافٍ له، فإنّه أجزل عطاءً وأعظم أجراً. اعلموا أنّ حوائج الناس إليكم من نعم اللَّه عليكم، ولا تملَّوا النعم فتحور نقماً، واعلموا أنّ المعروف مُكسب حمداً ومعقب أجراً، فلو رأيتم المعروف رجلاً رأيتموه حسناً جميلاً يسرّ الناظرين ويفوق العالمين، ولو رأيتم اللؤم رجلاً رأيتموه سمجاً مشوّهاً تنفر منه القلوب وتغضّ دونه الأبصار»[34].

لقد رسم الإمام عليه السلام للمكارم صوراً محسوسة تتمثّل أمام الناظر بأحسن صورها وأبهاها؛ لتكون ممّا تشخص إليها الأبصار، وتهفو إليها الأنفس، فقد شبّه صورة المعروف بصورة رجل وضيء حسن الوجه يسرّ الناظرين، ويقابل ذلك بصورة اللؤم، فيشبّهه بصورة رجل سمج مشوّه تنفر منه القلوب.

وتتوالى عباراته مفعمة بالمواعظ التي تحثّ على التحلّي بمكارم الأخلاق والصفات الحميدة، التي ترتقي بالنفس وتنزع منها كلّ ما يشينها؛ لأنّ بصلاح النفس يصلح المجتمع بأسره، إذ يقول: «أيّها الناس، مَن جاد ساد، ومَن بخل رذل، وَإنّ أجود الناس مَن أعطى مَن لا يرجو، وإنّ أعفى الناس مَن عفى عن قُدرة، وإنّ أوصل الناس مَن وصل مَن قطعه، والأُصول على مغارسها بفروعها تسموا، فمن تعجّل لأخيه خيراً وجده إذا قدِم عليه غداً، ومَن أراد الله تبارك وتعالى بالصنيعة إلى أخيه كافأه بها في وقت حاجته، وصرف عنه من بلاء الدنيا ما هو أكثر منه، ومَن نفّس كُربة مُؤمن فرّج الله عنه كرب الدنيا والآخرة، ومَن أحسن أحسن الله إليه، والله يحبّ المحسنين»[35].

ولعلّ سوق كلّ مكرمة وما يقابلها من ثواب يترك في النفس أثراً واضحاً، فجعل (على سبيل المثال) ثمن الجود السيادة، على حين قابل بين كلّ رذيلة بجزائها، فجعل الدناءة والوضاعة مصير كلّ بخيل، وكذلك قابل بين الوصل والقطع، والأُصول والفروع، والدنيا والآخرة.

 

المبحث الثالث: أساليب الوعظ عند الإمام الحسين عليه السلام

أوّلاً: الموعظة الموجهّة للقريب (الموالي)

لقد وسمت الدعوة الإصلاحية التي نهض بها الإمام الحسين عليه السلام بميسم الإقناع والموعظة الحسنة، التي تقوم على الدليل الجلي، وترك الخيار أمام الآخر في تلبية الدعوة أو الإعراض عنها، ولم يتبع الإكراه والقوة لإرغام الناس على تأييد مشروعه الإصلاحي، وتقويم الانحراف الذي بدأ واضحاً في مسيرة الأُمّة، فانبرى لهذه المهمّة مضحّياً بنفسه فيما أشار على أتباعه وأهل بيته أيضاً بأنّ لهم الخيار في الانسحاب لّما اتضحت معالم المواجهة الحتمية مع الموت، فأطلق مقولته الشهيرة: «هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً، ثمّ ليأخذ كلّ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي، تفرّقوا في سوادكم ومدائنكم حتى يُفرّج الله، فإنّ القوم إنّما يطلبوني، ولو قد أصابوني لهوا عن طلب غيري»[36].

وكرر الخطاب في موضع آخر ومناسبة أُخرى، مؤكّداً حتمية النهاية، مستشرفاً للأحداث من خلال استقراء الخصم الذي استحوذ الضلال على نفوسهم، مخيّراً الجميع بإخلاء الساحة إذ يقول: «... اعلموا أنّكم خرجتم معي لعلمكم أنّي أقدم على قوم بايعوني بألسنتهم وقلوبهم، وقد انعكس الأمر، لأنّهم استحوذ عليهم الشيطان؛ فأنساهم ذكر الله، والآن ليس لهم مقصد إلّا قتلي وقتل مَن يجاهد بين يديّ، وسبي حريمي بعد سلبهم، وأخشى أن تكونوا ما تعلمون وتستحيون. والخدع عندنا أهل البيت محرّم، فمَن كره منكم ذلك فلينصرف، فالليل ستير، والسبيل غير خطير، والوقت ليس بهجير، ومَن واسانا بنفسه كان معنا غداً في الجنان نجيّاً من غضب الرحمن...»[37].

لم يترك الإمام عليه السلام مناسبةً إلّا وكرّر على مسامع أصحابه ما ستؤول إليه الأُمور، فقد جمع أصحابه وأهل بيته قُبيل المعركة، فخطبهم بنفس مطمئنة بقضاء الله، أَذِنَ لهم بالانصراف وترك المواجهة قائلاً: «إنّي لا أحسب القوم إلّا مُقاتلوكم غداً، وقد أذنت لكم جميعاً، فأنتم في حلٍّ منّي، وهذا الليل قد غشيكم، فمَن كانت له منكم قوّة فليضمّ رجلاً من أهل بيتي إليه، وتفرّقوا في سوادكم، حتى يأتي الله بالفتح أو أمر من عنده، فيصبحوا على ما أسرّوا في أنفسهم نادمين، فإنّ القوم إنّما يطلبونني، فإذا رأوني لهوا عن طلبكم»[38].

لقد نصح الإمام الحسين عليه السلام لأصحابه وأهل بيته، فلم يوهمهم، ولم يجبرهم على أمر يخشون عاقبته، فمَن كان منهم مؤمناً بعدالة نهضة إمامه ازداد شوقاً للثبات والتضحية، ومَن آثر العافية أُذن له بالانسلال في ظلام الليل، غير أنّه لن يدرك الفتح.

  ثانياً: الموعظة الموجهة للبعيد(المخالف)

مثلما عمل الإمام الحسين عليه السلام مع أصحابه وأهل بيته في إسداء النصيحة والموعظة الحسنة، وتخييرهم بين البقاء والشهادة والفوز بالجنان أو ترك المواجهة والانسحاب، كذلك فعل مع الخصوم مرشداً ناصحاً ومذكّراً أملاً منه بصلاح أمرهم، وعودتهم إلى رشدهم؛ إذ يقول مخاطباً الجموع المحتشدة لقتاله: «الحمد لله الّذي خلق الدنيا فجعلها دار فناء وزوال، مُتصرّفةً بأهلها حالاً بعد حال، فالمغرور مَن غرّته، والشقيّ مَن فتنته، فلا تغُرّنّكم هذه الدنيا، فإنّها تقطع رجاء مَن ركن إليها، وتُخيّب طمع مَن طمع فيها، وأراكم قد اجتمعتم على أمر قد أسخطتم الله فيه عليكم، فأعرض بوجهه الكريم عنكم، وأحلّ بكم نقمته، وجنّبكم رحمته، فنعم الربّ ربّنا، وبئس العبيد أنتم، أقررتم بالطاعة، وآمنتم بالرسول صلى الله عليه وآله، ثمّ إنّكم زحفتم إلى ذرّيّته تريدون قتلهم، لقد استحوذ عليكم الشيطان، فأنساكم ذكر الله العظيم، فتبّاً لكم وما تُريدون، إنّا لله وإنّا إليه راجعون، هؤلاء قوم كفروا بعد إيمانهم، فبُعداً للقوم الظالمين»[39].

لم يدّخر الإمام عليه السلام جهداً في النصح والتذكير للخصم في العودة إلى جادّة الحق مذكراً القوم بقرابته من النبي المصطفى صلى الله عليه وآله، إذ يقول: «أقول لكم: اتّقوا الله ربّكم ولا تقتلون، فإنّه لا يحلّ لكم قتلي، ولا انتهاك حُرمتي، فإنّي ابن بنت نبيّكم وجدّتي خديجة زوجة نبيّكم، ولعلّه قد بلغكم قول نبيّكم محمد صلى الله عليه وآله: الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة...»[40].

نخلص ممّا تقدّم أنّ الإمام الحسين عليه السلام لم يترك الخصوم على عمايتهم، بل انفتح عليهم بشتى الوسائل؛ لغرض الإصلاح وتصحيح الأفكار المنحرفة؛ أملاً بتبصير القوم وكشف الحقائق التي طمستها السلطة، من خلال تضليل الكثير ممّن خرج لقتال الإمام الحسين عليه السلام.

ثالثاً: مواعظ جرت مجرى الحِكَم

لقد أطلق الإمام الحسين عليه السلام كمّاً هائلاً من المواعظ المكثّفة التي تمتاز بالقصر وعمق الدلالة والأثر، بما تحمله من إرشادات مفعمة بالعبرة، وتنمّ عن ترسخ القيم والمفاهيم الإسلامية، فهي خلاصة ميراث زاخر، صِيغَ على وفق مقتضيات المرحلة التي اتسمت بالتعقيد والانحراف، فكانت الحاجة إلى عبارة قصيرة تنطوي على دلالات ومعانٍ مكثّفة لتحقق السيرورة وسهولة الالتقاط، ومن هذه الحكم: قوله عليه السلام: «إنّ الحلم زينة، والوفاء مروءة، والصلة نعمة، والاستكبار صلف، والعجلة سفه، والسفه ضعف، والغلو ورطة، ومجالسة أهل الدناءة شرّ، ومجالسة أهل الفسق ريبة»[41].

يدعو الإمام الحسين عليه السلام من خلال هذه الحِكَم القصيرة والمركّزة إلى ترويض النفس وتنشئتها التنشئة الصحيحة، التي ترتكز على مجموعة من المُثل والقيم الحميدة التي من شأنها بناء إنسانٍ سوي يتزود من الفضائل ويتجرد من الرذائل، فأشار إلى فضيلة (الحلم)[42]، فعدّها زينة يتزيّن بها المرء، ثمّ عزّز هذه الفضيلة بفضيلة أُخرى وهي (الوفاء)[43]  إذ عدّها عليه السلام (مروءة)[44] ؛ فالإنسان الوفي لا يغدر؛ لأنّ عفّته ومروءته تمنعه أن يفعل هذا الفعل، وعزّز هذا المعنى  بفضيلة أُخرى، وهي (الصلة)[45]،  سواء أكانت معنوية أو مادية، فهي نعمة من نعم الله على العبد يمنحها لمَن وطّن نفسه على البذل.

ومن الصفات الذميمة التي نهى عنها الإمام عليه السلام (الاستكبار)[46]، الذي يُعدّ من التكبر والمعاندة التي تخرج الإنسان عن أريحيته وتواضعه إلى حال تختلط عليه الأُمور، فلا يتبيّن الحق من الباطل، وهنا يشبّه الإمام الاستكبار بالصلف (والاستكبار صلف)، و(الصلف)[47]  هو أيضاً مجاوزة الحدّ، وقِيل في معنى المثل: «صلف تحت الراعدة، يقال ذلك لمَن يُكثِر كلامه ويمدح نفسه ولا خير عنده»[48].

ومن المعاني الأُخرى التي ينبغي الابتعاد عنها ممّا أشار إليه الإمام عليه السلام قوله: «والعجلة سفه»[49]، وهنا يدعو الإمام إلى التروي والتلبث عند الإقدام على أمر ما، ووزن الأُمور بميزان الحكمة والابتعاد عن الخفّة والتسرّع في التعاطي مع الأُمور.

نخلص ممّا تقدّم أنّ كلام الإمام الحسين عليه السلام وفعله يحمل من المضامين الإصلاحية الكثير، منها:

1ـ ما يبدأ بالنفس على عدّها منطلق الإصلاح وبابه، فبصلاح النفس وإصلاحها تتهيأ الأرضية الخصبة لإصلاح المجتمع برمّته.

2ـ تصدى الإمام عليه السلام لإصلاح الأُمّة من خلال الوعظ والإرشاد، فعبّر عن ذلك عِبر مخاطبة الذات؛ ليحثّ المتلقي على الاقتداء بما يقوله الإمام ويفعله.

3ـ قرن الإمام القول بالعمل في تصديه للدعوة الإصلاحية، وتمسّك الثبات على المبدأ الحقّ، ولم يرضخ للضغوط، ولم يأبه بالنتائج والمخاطر التي واكبت النهضة؛ لأنّه وجد في التصدي للإصلاح قيمة عُليا تستحق التضحية.

4ـ استقرأ الإمام الحسين عليه السلام المستقبل من خلال الواقع الذي تعيشه الأُمّة، فوجد في نهضته أملاً مستقبلياً في تصحيح الانحراف والعودة إلى جادّة الحقّ، وعليه لم تكن نتائج النهضة آنيّة إنّما تؤسس لمرحلة مستقبلية.

5ـ لم تقتصر الدعوة الإصلاحية التي بُنيت على الوعظ والإرشاد ـ منذُ بدايتها حتى اللحظات الأخيرة لواقعة الطفّ ـ على حثّ الموالين على التمسك بالمُثل والقيم العُليا والثبات على المبدأ، بل شملت المخالفين أيضاً، فأراد تبصير مَن ضُلل أو غُرّر به من خلال الوعظ وإسداء النصيحة متبعاً أساليب مختلفة، منها: التذكير، والتحذير، فكان خطابه يتسم بالشدّة حيناً وبالسلاسة واللين حيناً آخر.

6ـ لقد كانت خطب الإمام الحسين عليه السلام ومواعظه امتداداً لمنهج النبي صلى الله عليه وآله وأبيه الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، من خلال تضمين هذه الخطب والمواعظ من أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وكلام الإمام علي عليه السلام، فكان كلامه تثبيتاً للسنّة النبويّة الشريفة واتباعاً لها.

 

الكاتب: م. د. ثائر عباس النصراوي / م. د. مجبل عزيـز جاسم

مجلة الإصلاح الحسيني - العدد السادس عشر

مؤسسة وارث الأنبياء للدراسات التخصصية في النهضة الحسينية

 

________________________________________

[1] جامعة الكوفة/كلّية التربية.

[2] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج44، ص329.

[3] «الأَشَرُ: المَرَح، والأَشَرُ: البَطَرُ، أَشِرَ الرجلُ ـ بالكسر ـ يَأْشَرُ أَشَراً فهو أَشِرٌ وأَشُرٌ وأَشْرانُ مَرِحَ... وقيل: أَشَدُّ البَطَر... وآشَرِهِ، أَي: أَبْطَرِه وأَنْشَطِه». ابن منظور، محمد بن مكرم، لسان العرب: ج4، ص20.

[4]  «البَطَرُ: النشاط، وقيل: التبختر، وقيل: قلّة احتمال النِّعمة، وقيل: الدَّهَشُ والحَيْرَةُ، وأَبْطَرهُ، أَي: أَدهشه، وقيل: البَطَرُ الطُّغيان في النِّعْمَةِ، وقيل: هو كراهة الشيء من غير أَن يستحق الكراهية، بَطِرَ بَطَراً فهو بَطِرٌ، والبَطَرُ الأَشَر، وهو شدّة المَرَح... وقال الليث: البَطَرُ كالحَيْرَة والدَّهَشِ، والبَطَرُ كالأَشَرِ وغَمْطِ النعمة، وبَطِرَ بالكسر يَبْطَرُ وأَبْطَرَه المالُ وبَطِرَ بالأَمر: ثَقُل به ودَهِشَ؛ فلم يَدْرِ ما يُقَدِّم ولا ما يؤخر. وأَبْطَرَه حِلْمَهُ: أَدْهَشَهُ وبَهَتَهُ عنه، وأَبْطَرَه ذَرْعَهُ: حَمَّلَهُ فوق ما يُطيق. وقيل: قطع عليه معاشه وأَبْلَى بَدَنَه». المصدر السابق: ج4، ص68.

[5] «الفسادُ: نقيض الصلاح، فَسَدَ يَفْسُدُ ويَفْسِدُ وفَسُدَ فَساداً وفُسُوداً فهو فاسدٌ». المصدر السابق: ج3، ص335.

[6] «الظُّلْمُ: وَضْع الشيء في غير موضِعه... وأصل الظُّلم الجَوْرُ ومُجاوَزَة الحدِّ... والظُّلْم: المَيْلُ عن القَصد. والعرب تَقُول: الْزَمْ هذا الصَّوْبَ ولا تَظْلِمْ عنه، أي: لا تَجُرْ عنه... يقال: ظَلَمَه يَظْلِمُهُ ظَلْماً وظُلْماً ومَظْلِمةً، فالظَّلْمُ مَصْدرٌ حقيقيٌّ والظُّلمُ الاسمُ يقوم مَقام المصدر وهو ظالمٌ وظَلوم». المصدر السابق: ج12، ص373.

[7] الصدوق، محمد بن علي، الأمالي: ص707. الصدوق، محمد بن علي، مَن لا يحضره الفقيه: ج4، ص440.

[8] الإربلي، علي بن أبي الفتح، كشف الغمّة في معرفة الأئمّة: ج2، ص241. اُنظر: العاملي، محمد بن مكي، الدرة الباهرة من الأصداف الطاهرة: ص23.

[9] اُنظر: المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج75، ص117.

[10] آ ل عمران: آية178.

[11] اُنظر: الإربلي، علي بن أبي الفتح، كشف الغمّة في معرفة الأئمّة: ج2،  ص240.

[12] أبو الفرج الإصفهاني، علي بن الحسين، مقاتل الطالبيين: ص73. اُنظر: سبط بن الجوزي، يوسف ابن فرغلي، تذكرة الخواص: ص239 وما بعدها. الذهبي، محمد بن أحمد، سير أعلام النبلاء: ج3، ص293وما بعدها.

[13] الطبرسي، أحمد بن علي، الاحتجاج: ج2، ص25.

[14] المصدر السابق.

[15] الصدر، مهدي، أخلاق أهل البيت عليهم السلام: ص190.

[16] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج44، ص330.

[17] الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: ج4، ص266.

[18] المصدر السابق: ج4، ص304. اُنظر: ابن الأثير، علي بن أبي الكرم، الكامل في التاريخ: ج4، ص48.

[19] هود: آية113.

[20] عبد المنعم، محمود عبد الرحمن، معجم المصطلحات الفقهية: ص493.

[21] الطبرسي، الفضل بن الحسن، تفسير مجمع البيان: ج1، ص483.

[22] مركز الرسالة، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: ص12.

[23] المائدة: آية63.

[24] المائدة: آية78.

[25] المائدة: آية79.

[26] المائدة: آية44.

[27] التوبة: آية71.

[28] ابن شعبة الحرّاني، الحسن بن علي، تحف العقول عن آل الرسول صلى الله عليه وآله: ص237.

[29] المصدر السابق.

[30] الطبرسي، أحمد بن علي، الاحتجاج: ج2، ص24. اُنظر: ابن عساكر، علي بن الحسن، ترجمة الإمام الحسين عليه السلام:  ص321.

[31]  الإسراء: آية٧٠.

[32] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج75، ص118.

[33] البقرة: آية264.

[34] ابن حمدون، محمد بن الحسن، التذكرة الحمدونية: ج1، ص102.

[35] المصدر السابق.

[36] ابن شهر آشوب، محمد بن علي، مناقب آل أبي طالب: ج3، ص248.

[37] الشريفي، محمود وآخرون، موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام: ص482.

[38] الذهبي، محمد بن أحمد، سير أعلام النبلاء: ج3، ص301.

[39] ابن شهر آشوب، محمد بن علي، مناقب آل أبي طالب: ج3، ص249.

[40] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج45، ص6.

[41] الإربلي، علي بن أبي الفتح، كشف الغمّة في معرفة الأئمّة: ج2، ص30.

[42] الحِلْمُ بالكسر: «الأَناةُ والعقل وجمعه أَحْلام وحُلُومٌ، وفي التنزيل العزيز: ﴿أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا﴾ [الطور: آية32] . قال جرير:

هَلْ مِنْ حُلُومٍ لأَقوامٍ فَتُنْذِرَهُم                ما جَرَّبَ الناسُ من عَضِّي وتَضْرِيسي؟   

      قال ابن سيده: وهذا أحد ما جُمع من المصادر وأحلام القوم حُلماؤهم، ورجل حليم من قوم أحلامٍ وحُلماء، وحلم بالضم يحلُم حِلماً صار حَليماً، وحلُم عنه وتَحَلَّم سواء، وتَحَلَّم تكلّف الحِلْمَ... والحِلْم نقيضُ السَّفَه... قال المُخَبَّل السعدي:

ورَدُّوا صُدورَ الخَيْل حتى تَنَهْنَهَتْ                     إلى ذي النُّهَى واسْتَيْدَ هُوا للمُحَلِّمِ       

أي: أَطاعوا الذي يأْمرهم بالحِلْمِ...». ابن منظور، محمد بن مكرم، لسان العرب: ج12، ص146.

[43] «الوفاءُ: ضِدُّ الغَدْر...  أَوْفَى الكيلَ، أي: أَتمه وَلَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ شَيْئاً....». المصدر السابق: ج15، ص398.

[44] «المُرُوءَة: كَمالُ الرُّجُولِيَّة... وَقِيلَ للأَحْنَفِ: مَا المُرُوءَةُ؟ فَقَالَ: العِفَّةُ والحِرْفةُ. وَسُئِلَ آخَرُ عَنِ المُروءَة، فَقَالَ: المُرُوءَة أَن لَا تَفْعَلَ فِي السِّرِّ أَمراً وأَنت تَسْتَحْيِي أَن تَفْعَلَه جَهْراً...». المصدر السابق: ج1، ص155.

[45] «الصلة: وَصَلْت الشَّيْءَ وَصْلاً وَصِلَةً، والوَصْلُ ضِدُّ الهِجْران... والتَّوَاصُل: ضِدُّ التَّصارُم. وَفِي الْحَدِيثِ: مَن أَراد أَن يَطول عُمْره فَلْيَصِلْ رَحِمَه... قَالَ ابْنُ الأَثير: وَهِيَ كِناية عَنِ الإِحسان إِلى الأَقرَبين مِنْ ذَوِي النسَب والأَصْهار والعَطف عَلَيْهِمْ والرِّفْق بِهِمْ والرِّعاية لأَحْوالهم». المصدر السابق: ج11، ص726.

[46] «الاستكبار: (استكبر) امْتنع عَن قبُول الْحق معاندة وتكبراً». مجمع اللغة العربية بالقاهرة، المعجم الوسيط: ج2، ص773.

[47] «الصَّلَفُ: مُجاوَزةُ قَدْر الظَّرْفِ والبَراعةِ والادِّعاءِ فوقَ ذلك». الفراهيدي، الخليل بن أحمد، كتاب العين: ج7، ص125.

[48] ابن فارس، أحمد، معجم مقاييس اللغة: ج3، ص305.

[49] «السِّفَه: مَعْرُوف، وَأَصله الخِفّة والنّزَق، تسفّهت الريحُ الغصونَ إِذا حرّكتها، وتسفّهتِ الرماحُ فِي الْحَرْب إِذا اضْطَرَبَتْ». ابن دريد، محمد بن الحسن، جمهرة اللغة: ج2، ص849.

 

المرفقات