جواهر من الكلم الطيب

نال الخط العربي عناية كبيرة من لدن الخطاطين .. وتميّز من خلال تعدّد أنواعهِ و أشكالهِ ومُسمياتهِ  .. كلٌ حسب قاعدته التي تشير إلى مدى التطور والرقي الذي بلغتهُ عبقرية الفنان المسلم الذي ابتكر بدوره أنواعاً راقية من الخطوط منها الكوفي والثلث والنسخ والإجازة والديواني والجلي ديواني فضلاً عن خطي الرقعة والفارسي .. ولا اختلاف على أن خط الثلث له مكانة خاصة عند الخطاطين إجمالاً.. فهو يعد من أجمل الخطوط وأكثرها ليونة وأصعبها تنفيذاً, ومن خلاله تقاس الإمكانية الفنية والمهارية للخطاط المبدع بقياس قدرته على استخدامه في الكتابات لآيات الذكر الحكيم .. فهو يمثل العنصر الجمالي والدلالي لدى المسلمين في تزيين وتجميل العمائر الإسلامية كالجوامع والمشاهد المقدسة فضلاً عن عناوين الكتب والمؤلفات المهمة . لذلك أخذ خط الثلث يتطوّر عبر الحقب الزمنية والعصور المختلفة ومنه تحققت الجودة والتحسين والتجميل لحروفه .. وقد تميز خطاط الثلث بمراعاته المسافات البينية بين الكلمات ووزنها، فضلاً عن الاهتمام المفرط بترتيب الأسطر حيث أصبحت جميع أسطر الكتابة منتظمة وذلك للحفاظ على استقامة السطر وعدم التفاوت فيما بين الحروف مما يكسبها جمالية استثنائية من خلال الإيقاع والتناسب والتأثير الروحي المباشر على المتلقي . الرقعة الخطية أعلاه من منجزات الخطاط العراقي حيـدر ربيـع  نفذت بخطي الثلث والنسخ بمداد أسود وألوان أخرى .. قوامها  البسملة وآية من سورة التوبة .. ولد حيدر في النجف الأشرف عام 1962 ودرس فن الخط والزخرفة في معهد الفنون الجميلة ليكمل دراسته الأكاديمية في كلية الفنون الجميلة في اختصاص التصميم الطباعي . أعدت هذه المخطوطة الرائعة كإجازة خطية حصل عليها الخطاط من أساتذته، واعتمد فيها الأستاذ حيدر أسلوب بناء الإجازة في ضوء سياق كتابة الرقع الخطية من جهة اعتماد خطي الثلث والنسخ معاً. للمخطوطة أبعـاد جمـالية مميزة من خلال صياغة الفنان الدقيقة لحروفها والمكملات الجمالية من حولها .. حيث يميز المتأمل للرقعة أعلاه تحقيق الخطاط للوضع الاتجاهي لخط النسخ فيها، من خلال اعتماده الاتجاه المستوي لمسارات خط النسخ فيها بغية تحقيق المقروئية ، فضلاً عن تحقيق الانسجام الاتجاهي بين مساري خطي الثلث والنسخ مما أضفى على الرقعة تناغماً جمالياً واضحاً للعيان .. ويعد هذا التوجه واحداً من الخيارات الفنية في كتابة خط النسخ في الرقع الخطية .   أما التناسب في مساحات النصوص فيظهر جلياً بين الكلمات والحروف المُصاغة فقد عُني الفنان به عناية خاصة من خلال التنظيم المتناغم للحروف.. إذ خُصصت المساحات الأكثر استطالة لخط الثلث لكبر حروفه، فيما وظف المساحات الأكبر ارتفاعاً لخط النسخ لاستيعاب النص وقد أسهم هذا التناسب بإضفاء سمة جمالية للرقعة . ولا يُخفى ما حققه ربيع من تناسب بين قياس قلمي النسخ والثلث من خلال اعتماده النسبة المفضلة فجعل قياس قلم النسخ يساوي ثلث قلم الثلث وتعد هذه النسبة تطبيق لما درج عليه الخطاطون عند كتابتهم خطي النسخ والثلث معاً . عكست هذه الرقعة المهارة التي يمتلكها الخطاط حيدر ربيع, وذلك من خلال رسمه للحروف وضبطها , زيادة على تنظيم الحروف والكلمات على السطر ولكلا الخطين, كذلك إظهار المحافظة على أصول وضوابط المدرسة البغدادية مما أهّـل هذه الرقعة للحصول على الإجازة . وُصفت هذه الرقعة الخطية بأنها متوازنة فحروفها وكلماتها تمتلك التنظيم المتكافئ للمساحات الخطية والزخرفية دون أدنى شك ، من خلال تطابق قياسات الحروف والكلمات لكلا الخطين كل حسب نوعه، إضافة الى اتسام الزخارف الجانبية المحيطة بها بخاصية التناظر والتماثل التي عززت بدورها التوازن للرقعة . ولا يمكن للناظر أن يتجاهل الألوان المستخدمة في التكوين أعلاه ..  اعتمد الخطاط المداد الأسود لكتابة النص ولكلا الخطين وذلك لسمة الوضوح التي يتسم بها لون المداد الأسود ، فضلا عن استخدام الألوان المتوافقة لرسم الزخارف والأطر والفواصل مع اعتماد الصبغة الذهبية لرسم الزخارف المحيطة بالرقعة حيث عكست هذه المعالجات اللونية الصفة الجمالية المميزة لهذا المنجز الفني . اقتضى تصميم هذه المخطوطة ضرورة وجود مساحتين زخرفيتين جانبيتين مما أتاح للفنان إشغالهما بزخارف نباتية قوامها الأغصان والأوراق والأوراد، فضلاً عن اعتماد المزخرف مبدأ التماثل ولكلا المساحتين..  كذلك لضرورة الفصل بين المساحات الخطية والزخرفية بعضها عن البعض الآخر إضافة إلى استخدام الخطوط المستقيمة للفصل بينها .. مما أعطى الرقعة انتظاما هندسيا يتوافق مع الإطار المظفور بلونه الأزرق المحيط بتلك المساحات والذي أسهم في تكامل الرقعة الشكلي ووحدة المعنى واكتسابها صفة الجمال . ومن الجدير بالذكر إن هذه الرقعة قد عكست المهارة والاحترافية التي يمتلكهما الخطاط الرائع حيدر ربيع من خلال رسمه للحروف وضبطها إضافة إلى تنظيمه الأستثنائي للحروف والكلمات على السطر ولكلا الخطين .. وهذا ما حقق المبتغى من الفنان في المحافظة على أصول وضوابط المدرسة البغدادية  المتأثر بها .. ويبدو أن هذا ما أهّـل هذه الرقعة للظهور بهذا الشكل المميز الجميل . سامر قحطان القيسي الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة

 

المرفقات