عادة ما يكتنز الخطاب الجمالي البصري بكم هائل من الرموز، لأن هذا الخطاب يقوم أصلا على منظومه سيميائية مادتها الشفرات .. ولاشك أن هذه الشفرات يمكن تأويلها بحدود طبيعية وفق توجهات النظم التي تشتغل عليها.. فهناك جمل غير قليلة من المرجعيات التاريخية والمقاربات التي بالإمكان البحث من خلالها تأويلياً ليبقى الخطاب البصري متشظياً في منظومته الرمزية والتأويلية تبعاً لتداخل تلك المرجعيات والعوامل التي تؤثر على منجز العمل الفني ومتلقيه على المستويين الذاتي والموضوعي .. التخيلي والعقلي . تقوم منظومة الخطاب على محمولات رمزية وإشارية تتخلل بتفاوت مستوياتها ثنايا النص الفني إذ نلاحظ فيه عادة نظم من الأنساق الجمالية تجعل من الأشكال الغنية لغة متطورة ، فالصياغة الشكلية جزءٌ مهم من التشكيل ولكن لا يتطابق فيها الحسي مع الشكل الجمالي أبداً .. فلو تأملنا أنساق اللوحة أعلاه لوجدنا أنها تمثل خطاباً بصرياً ذا انعكاسات نفسية عميقه كمدلول ثري للدال الذي يقترن بالأشكال البصرية بما يتعلق بالصورة الفنية الممثلة لفكرة العمل – حز الرأس الشريف - . اللوحة أعلاه من المنجزات الابداعية للفنان الإيراني حبيب الله صادقي وقد استخدم في إنجازها تقنية الزيت على قماش الكانفاس وبمسحة فنية تقترب من أسلوب تنفيذ الأعمال في فن مصغرات الرسوم الشرق أوسطي وبمزيج شكلي بين الواقع والخيال . تمثل اللوحة دراسة علاماتية دقيقة ينحو من خلالها الفنان منحى يرجع فيها إلى الأصول والتأثيرات الجانبية بدلالاتها المضامينية والشكلية والتقنية.. حيث يتجه من خلال تقنياتها إلى فحص المنظومة التركيبية لبنية الخطابات الجمالية البصرية ، فالمعنى البصري الحداثوي والما بعد الحداثوي لا يتكئ غالباً على ثوابت فنية.. فالدلالة فيه تأخذ أبعاداً إيمائية أكثر من التصنيفات الجاهزة فهي تتبع فكرة الفنان ومدى ثقافته وخبرته الفنية . يمنحنا صادقي من خلال اللون الأبيض في هذه اللوحة دلالات رمزية كثيرة منها إن مقتل الإمام الحسين كان في وضح النهار أي بمعنى إن قتل الأمة لإمامها كان جهراً فاللون الأبيض هنا يطرح الحقيقة جلياً كما لون النهار جلي إذ تنكشف الحقائق جميعاً فهو أمر لم يكن بليل . عمق اللون الأبيض من وحدة الكتلتين الطوليتين في اللوحة ( جسد الإمام الحسين على الأرض ورأسه في السماء والقاتل يقف بينهما ) حيث زاد من درجات التضاد اللونية بين الأبيض وباقي الألوان الأخرى بدرجات متفاوتة ، فاللون الأبيض لون حيادي وقد عدّه الفنان بصورة من صور الوحشية الظلامية فهو يمتاز بكثافته الظلامية المهيبة والمخيفة . تميَّز هذا العمل الرائع بكثافته اللونية وبساطة تكويناته الشكلية .. إذ تعمد الفنان المعالجات الادائية المتعارفة عند الفنان الفطري وفناني المينياتور الشرقي .. حيث يعيدنا هذا المنجز إلى فن المصغرات من الرسوم الفارسية بدقة تنفيذها وكثافة ألوانها وخطوطها المائلة ، فقد جمع بخبرته العالية بين اللونين الأبيض والأسود ودرجاتهما بغية التعمق في حدث اللوحة الجلل وتشظياته. على الرغم من أن هذه الحادثة تمثل جزءاً من ملحمة تفترض التسجيلية والواقعية إلا أن الفنان لم يقترب من الواقعية بشيء في تصويرها فقد عمد إلى مغايرة كبيرة للأشكال بأجواء ذات معالجات أكاديمية نمطية محنطة بلا حراك كأنه يغاير الأشكال كالطفل الصغير حينما يرسم ما يراه بتصوراته وانطباعاته هو تحديداً .. فقد وظف صادقي البعد السيمولوجي للخطاب البصري لدى الطفل الذي عادةً ما يكون ذو عاطفةً جياشةً ويمنح الشخصيات التي يعتقدها مهمة شكلاً أجمل وألوان مميزة .. وهكذا فعل الفنان هنا لتأخذ أشكاله بعدها الرمزي ودلالاتها الايحائية التي تؤثر بالمتلقي كما في الجسد المسجى على الأرض والراس المرفوع إلى السماء على شكل شمس تنير الآفاق . لاشك أن حبيب الله صادقي قد وُفِّق في طرح فكرة هذه اللوحة من خلال رموزها الاستدلالية التي تعيدنا بالذاكرة إلى بنائية الأشكال وتأسيساتها في مدرسة بغداد لفن التصوير الإسلامي وأسلوبها المميز في توزيع وحداتها الشكلية في المنجز الفني, فمن خلال بساطة التكوينات وسيمات التجريد والمناورة الذكية ببعض الألوان الباردة استطاع أن يجعل جمالية جسد الإمام الحسين المسجى على الأرض ورأسه المقطوع يثيران وجدان المتلقي وحزنه .. فلا ريب أن يكون الفنان قد عاش وكابد الكثير خلال تشييده مراحل بناء هذا المنجز فيبدو أنه قد عايش كل حيثيات الحادث وانغمس في فضاءاته متماهياً مع أدق تفاصيله ليجسد لحظة قطع الرأس الشريف بعمل عاشورائي مميز تلفّه ألوان السواد التي تمثل شكلاً من أشكال عاشوراء الحسين . سامر قحطان القيسي الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق