أخلاقية الثورة عند الإمام الحسين

لو تتبعنا مسيرة الإمام الحسين (عليه السلام) في نهضته العظيمة منذ خروجه من مدينه جده (صلى الله عليه وآله) إلى استشهاده في كربلاء لوجدناها تفيض عطاءً وعظمة، فإضافة إلى مشروعية الثورة التي اتخذها (عليه السلام) منطلقاً لرفع راية الرفض بوجه السلطة الأموية المستبدة، فقد مثّل في مواجهته قوى البغي والاستبداد أعظم مبادئ الإسلام في الوقوف بوجه الباطل ومجابهته مجسّداً قول النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله): (أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)، كما جسد في نهضته الروح النبوية والأخلاق المحمدية السمحاء، فكان الحسين عظيماً في كل حركاته وسكناته كما كان عظيماً في جميع أقواله وأفعاله. فهذه الروح الكبيرة التي حملها سيد الشهداء والتي تغذّت من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ونشأت في كنف أمير المؤمنين (عليه السلام) فاستقت منهما أروع المعاني الإنسانية وقف صاحبها (عليه السلام) يوم عاشوراء وقد قدّم أصحابه وأهل بيته وأولاده حتى الطفل الرضيع قرابين لله وبقي حتى آخر لحظة من حياته وهو يقول: (أمضي على دين النبي) مضحياً بنفسه في سبيل إنقاذ الشريعة المحمدية، فأي روح أعظم من هذه الروح؟ وأي نفس أروع منها ؟  لقد تجلّت جلالة المغزى وسمو الغاية في نهضته (عليه السلام) المباركة منذ إعلانه رفض البيعة للطاغية يزيد، فأعلن قولته الخالدة عندما دعاه والي المدينة الوليد بن عتبة إلى البيعة فقال (عليه السلام): (أنا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، بنا فتح الله وبنا يختم، ويزيد شارب الخمر وقاتل النفس المحرمة معلن الفسق ومثلي لا يبايع مثله).  لقد بيّن الإمام الحسين (عليه السلام) إنه الامتداد الطبيعي لمنهج الرسالة المحمدية وهو الإمام الشرعي الذي اختاره الله بعد أبيه وأخيه، فهم الثقل الأصغر وهم حماة الدين ورعاته وأهله أذن لا يمكن له بأي حال من الاحوال أن يبايع شخصاً مثل يزيد فلو أنه بايع - وحاشاه من ذلك- لما كانت هناك شريعة وما كان هناك إسلام وهذا ما تجلّى في قوله (عليه السلام): (إذا ابتلي الناس براع مثل يزيد فعلى الإسلام السلام)  أذ دأب الأمويون منذ فجر الرسالة المحمدية على محو الإسلام ومحاربته وتوارثت هذه الشجرة الملعونة هذا الحقد الأعمى على النبي (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام)، ويزيد هو سليل الشجرة الملعونة التي غرسها أبو سفيان وسقاها معاوية، فتوارث منها الغدر والمكر والكيد للإسلام.  فالحسين بنهضته المباركة قد صان بدمه الطاهر الشريعة المقدسة ووقاها بنفسه الشريفة وكان هذا إعلانه في وصيته عند خروجه من المدينة بأنه قد صمم على الموت في سبيل الله وإحياء سنة جده المصطفى (صلى الله عليه وآله)، فكان هذا جوابه لكل من حاول أن يثنيه عن قصده في الخروج من أهل المدينة فجاء في وصيته: (بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به الحسين بن علي إلى أخيه محمد بن الحنيفة: أن الحسين يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله جاء بالحق من عنده وأن الجنة حق والنار حق والساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور، وإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي (صلى الله عليه وآله) أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب (عليه السلام) فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق ومن رد علي هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم وهو خير الحاكمين).  نعم هكذا سار الحسين في ثورته المباركة مجسداً سيرة جده وأبيه بكل أبعادها الأخلاقية والتربوية فقد كان يسطر في كل خطوة من مسيره درساً يلهم الاجيال أروع المعاني السامية والأخلاق الكريمة، وكانت روحه العظيمة شعاع هدي تنبئ بالإنسانية العليا التي حملها (عليه السلام).  ففي تلك الصحراء اللاهية - في مسيره إلى العراق- كانت هذه الروح واحة نظرة لمن صحبها أو لاقاها يستشعر فيها الامل والحنان فعندما يصل الحسين إلى منطقة تدعى (شراف)، وقد أنتصف النهار يكبّر أحد اصحابه فقال له الحسين (عليه السلام): لم كبرت ؟ فقال: رأيت النخل. لكن من معه أنكر أن يكون بهذا الموضع نخل فلما تحققوا النظر تبيّن أنها أسنة الرماح وآذان الخيول!!  لقد جاء الحر بن يزيد الرياحي مع ألف فارس بأمر أبن زياد ليحبس الحسين عن الرجوع إلى المدينة أينما يجده أو يقدم به إلى الكوفة.  أن همَّ الإنسان الوحيد في تلك الصحراء القاحلة هو الماء فبه يستطيع الاستمرار في رحلته بقطع الصحراء وبدونه لن يخرج منها حياً، كان القوم في حالة يرثى لها وقد أنهكهم العطش وهم لم يأتوا مسالمين بل جاؤوا محاربين فماذا فعل الحسين (عليه السلام) ؟ هل قال لهم: أن هذا الماء لي ولأصحابي وأهل بيتي ولا نسقيكم منه، أم قال لهم: لن نعطيكم من هذا الماء فإنكم جئتم محاربين من قبل ابن زياد وهو عدونا فلن تذوقوا من الماء قطرة واحدة كما فعل أعداؤه يوم عاشوراء ؟  حاشا ابن رسول أن يقارن بهؤلاء المجرمين القتلة..  فهذه الأخلاقية الدنيئة هي أخلاقية معاوية استخدمها يوم صفين وهي أخلاقية ابنه يزيد وأتباعه أمثال ابن زياد وأبن سعد والشمر وغيرهم ممن تغذوا على اللؤم الأموي أما تلك الروح الكبيرة التي غُذيت بالفضائل النبوية والمكارم العلوية فقد كانت قمة العطاء الإنساني.  فلما رأى سيد الشهداء (عليه السلام) ما بالقوم من عطش أمر أصحابه أن يسقوهم ويرشفوا خيولهم فسقوهم وخيولهم إلى آخرهم وكانوا ألف فارس وألف فرس !!  في تلك الفيافي والرمضاء يسقيهم الحسين (عليه السلام) حتى يرتووا مع أن الركب الحسيني لا يتجاوز ربع ذلك العدد، وكان من ضمن القوم من أضرّ به العطش رجل يدعى علي أبن الطعان المحاربي فجاء آخرهم فقال له الحسين (عليه السلام): أنخ الرواية وهي الجمل بلغة الحجاز فلم يفهم مراده فقال له (عليه السلام): أنخ الجمل ولما أراد أن يشرب جعل الماء يسيل من السقاء فقال له (عليه السلام): أحنث السقاء فلم يدر ما يصنع لشد عطشه فقد بلغ به الظمأ مبلغاً شديداً فقام الإمام الحسين (عليه السلام) بنفسه وعطف السقاء حتى ارتوى.  لقد اقترنت ثورة الحسين بالعطاء فكانت عظيمة بعطاء الحسين وشموخ الحسين وأخلاق الحسين التي هي أخلاق محمد وعلي، إنها أخلاق القرآن الذي صرّح بالأخلاق العظيمة لرسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال تعالى مخاطباً نبيه الكريم: (وأنك لعلى خلق عظيم) والتي هي أيضاً أخلاق الأئمة المعصومين (عليهم السلام) فأي خلق أعظم من هذا الخلق ؟  لقد مثّل الإمام الحسين (عليه السلام) في وقفته يوم عاشوراء أروع القيم وأعظم الأخلاق، وقف في ذلك اليوم أمام الجموع ليعظهم وينبههم إلى ما هم مقدمون عليه من الأمر الشنيع غير أن النفوس التي أغرتها الدنيا ودناءتها أبت إلا طغياناً وكفراً، وبلغ من خسّة الشمر أن يتطاول على الحسين سيد شباب أهل الجنة (عليه السلام)  فأراد مسلم بن عوسجة أن يرميه بسهم فمنعه الحسين (عليه السلام) وقال: أكره أن أبدأهم بقتال.  هذه كانت أخلاق رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذي كان كلما زاد أذى قريش له كان يقول: اللهم اهد قومي فأنهم لا يعلمون، وهي أخلاق أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي لم يبدأ عدوه بالقتال في حروبه كلها بل كان يسعى إلى حقن الدماء وهداية الناس إلى جادة الحق. لقد أعاد الإمام الحسين (عليه السلام) منهج الإسلام الحقيقي بأخلاقه العظيمة بعد أن حاول الأمويون طمس هذا المنهج ومحو ذكر الإسلام بسياستهم الظالمة المستبدة (ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره المشركون)، فتم نور الله بالحسين بعد أن بزغ بدعوة الإسلام المحمدية الشريفة.  يقول أحمد أمين في كتابه (ضحى الاسلام) (ج1ص27) عن الحكم الاموي: (الحق أن الحكم الأموي لم يكن حكماً إسلامياً يسوّى فيه بين الناس ويكافأ المحسن عربياً كان أو مولى ويعاقب المجرم عربياً كان أو مولى وإنما الحكم فيه عربي والحكام خدمة للعرب وكانت تسود العرب فيه النزعة الجاهلية لا النزعة الاسلامية). في تلك الفترة التي يصفها أحمد أمين بأنها صبغت بالنزعة الجاهلية كانت السلطات الاموية تحتقر الموالي - وهم كل من هو ليس بعربي - وقد زخرت كتب التاريخ بآلاف القصص حول هذا الاحتقار والتعسف الذي يلاقيه الموالي من قبل الأمويين، فكانوا يرزحون تحت نير الاضطهاد والتنكيل والقتل والإذلال والامتهان في كل البلاد الخاضعة لحكم بني أمية في تلك الفترة. كان لسيد الشهداء (عليه السلام) منهجه الذي حارب هذه العنصرية المقيتة والطبقية البغيضة فأعاد فيه نهج الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله) الذي يقول: (الناس سواسية كأسنان المشط )، وقوله (صلى الله عليه وآله): (لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى)  كما أعاد فيه نهج أبيه أمير المؤمنين الذي يقول: (الناس صنفان أما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق)، وقد توّج سيد الشهداء (عليه السلام) ذلك النهج الخالد بمواقفه العظيمة يوم عاشوراء، ففي ذلك اليوم جسد الإمام الحسين (عليه السلام) منهج الرسول الاعظم (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين بكل أبعاده الإنسانية والأخلاقية، من هذه المواقف موقفه الخالد الذي وقف فيه إلى جانب هذه الطبقة المسحوقة - الموالي - فقد ذكر أصحاب السير والتواريخ أنه لما صُرع أحد الموالي الذين قاتلوا إلى جنبه (عليه السلام) وهو واضح التركي مولى الحرث المذحجي استغاث بالحسين.  لقد كان هذا المولى ــ العبد ــ يجد في روح الحسين الكبيرة البلسم الشافي لجراحه والمخفف عن آلامه، ولبّى الحسين نداءه، فمشى اليه ولكنه (عليه السلام) لم يقف عند رأسه ويخاطبه ببضع كلمات فيجزّيه بها خيراً ويبشّره بالجنة التي وعدها الله إياه وأصحابه من الشهداء كما فعل (عليه السلام) مع أغلب الأصحاب، بل أراد الإمام الحسين أن يعيد لهذا المولى الصالح انسانيته في الدنيا قبل أن يموت شهيداً، أراد أن يشعره بحريته بعد أن سلبها منه الأمويون، أراد ان يقول له إنه أطهر وأنقى وأسمى من هؤلاء الأجلاف الذين يتفاخرون بالأنساب وهم في الحضيض الأدنى من الخسة والوحشية.  فماذا فعل الحسين (ع) مع ذلك المولى؟ لقد أنحنى (عليه السلام) عليه واعتنقه، فهل هناك موقف أروع واعظم وأنبل من هذا الموقف ؟ لقد كان هذا الموقف درساً لكل الأنظمة العنصرية والعرقية التي تميز بين عرف و آخر، لقد وجد ذلك المولى في الحسين الأمل الذي يرفع عن الإنسان الظلم ويزيح ربقة العبودية عن كاهله، فتجده في آخر رمق من حياته تغمر قلبه الطمأنينة والحنان فتطفو على شفتيه ليخاطب نفسه:  من مثلي وأبن رسول الله (صلى الله عليه وآله) واضعٌ خده على خدي ؟ وتفيض روحه الطاهرة الى بارئها راضية مرضية مطمئنة.  ويكرر الإمام الحسين هذا الموقف العظيم مع أسلم مولاه فيعتنقه وبه رمق فيشرق وجهه وتعلو فمه ابتسامة وتفارق روحه الطاهرة الدنيا وهو يعانق الحسين، وكأنه يقول له: شكرا لك يا سيدي يا أبا عبد الله لأنك علمتنا معنى الحياة الحرة الكريمة وهي بالموت معك، شكراً لك يا سيدي لأنك نبهتنا إلى أن الحياة مع الظالمين هي الموت لقد علم الامام الحسين أصحابه معنى الحرية والكرامة والاباء.  كما ألهم الأزمان معاني الحق والعدل والخير فتجسّد الإسلام كله وبكل أبعاده في مواقف الحسين الخالدة فمنهجه (عليه السلام) هو منهج القرآن والرسول وأمير المؤمنين الذي يقول: (الموت في حياتكم مقهورين والحياة في موتكم قاهرين)، وتتوالى المواقف العظيمة للإمام الحسين في ذلك اليوم لتشمل إنسانيته وعطفه ورحمته ورفقه الكائنات الحية من غير البشر.  أن الإنسان يمكن أن يرفق بالحيوان وهو في حالة الدعة والاستطاعة من غير أن يكون هذا الرفق أيثاراً على نفسه، ولكن في يوم عاشوراء وفي ذلك الظرف العصيب كان سيد الشهداء قد أخذ منه الظمأ مأخذه وقد أحاطت به الأعداء وهم يرمونه بالسهام ليصدوه عن الماء، ويشتد القتال ويشتد به العطش فيحمل من نحو الفرات وكان في هذه الناحية عمرو بن الحجاج الزبيدي على رأس أربعة ألاف فيكشفهم (عليه السلام) عن الماء وأقحم الفرس الماء فلما ولغ الفرس ليشرب قال الحسين (عليه السلام): (أنت عطشان وأنا عطشان فلا أشرب حتى تشرب ... )!! ما أعظمك يا سيد الشهداء ؟ وما أروع مواقفك ؟ وما أجلّ ثورتك التي تعلمنا كل يوم درساً متجدداً ؟ فسلام على روحك العظيمة، وسلام على نفسك الزكية ، وسلام على دمك الطاهر، وسلام على خلقك النبوي العظيم   محمد طاهر الصفار الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة

المرفقات

: محمد طاهر الصفار