من أروع القصائد التي قيلت بحق الإمام الحسين هي قصيدة الشاعر الكربلائي الكبير محسن أبو الحب, فقد اختزن الشاعر في وجدانه المؤثرات الروحية للملحمة الحسينية ووظفها في قصيدته التي أفصحت عن الشعور والتأثير الكبير الذي تشكله هذه الملحمة في ضمير الأجيال. لقد ارتبط الشاعر كونه كان خطيباً حسينياً كبيراً بهذه الملحمة ارتباطاً عميقاً لا ينفصم كما ارتبط بكربلاء مولداً وطفولة ووجداناً, وعبّر عن مدى تأثّره بها وانصهاره بتاريخها المشرق ورمزها الخالد الإمام الحسين (عليه السلام) احتل الشيخ ابو الحب مكانة عالية ومنزلة سامية في الأوساط العلمية والأدبية في كربلاء والعراق لما يتمتع به من مؤهلات النبوغ والعلم والشاعرية ولا يزال بيته الخالد تردده الأفواه ويُقرأ في المجالس الحسينية ويُكتب على اللافتات: إن كانَ دينُ محمدٍ لم يستقمْ *** إلا بقتلي يا سيوف خذيني وهذا البيت هو من قصيدته النونية الخالدة التي تبلغ (62) بيتاً وتعد لوحة شعرية متكاملة عن ملحمة الطف الخالدة وصوراً مجسّدة لما جرى في كربلاء. يفتتح ابو الحب قصيدته بالمقدمة الغزلية التي اشتهرت في ذلك الوقت فيقول: إن كنتِ مشفِقةً عليَّ دعيني *** ما زالَ لومُكِ في الهوى يُغريني لا تحسبي أنّي للومِكِ سامعٌ *** إني إذاً في الحبِّ غيرُ أمينِ بيني وبينَ الحبِّ عهدٌ كلّما *** رامَ العواذلُ نقضَه تركوني ألبستُه ثوبَ الوقارِ تجمُّلاً *** كي لا تُري بي حالةُ المجنونِ إن جُنّ خِلُّ العامريةِ يافعاً *** فلقد جننتُ ولم يحن تكويني لو أن صادحةَ الحمامِ تعقّلت *** ما بي لأبدلتِ الغنا تأبيني أو أنَّ ضالَ المنحنى مستمطراً *** دمعي لأبقاه بغيرِ غصونِ البرقُ أنفاسي إذا هي صعّدتْ *** والغيثُ دمعي والرعودُ حنيني قالوا: التجلد, قلت: ما هو مذهبي *** قالوا: التوجّد, قلت: هذا ديني لا في سعاد ولا رباب وإنّما *** هو في البقايا من بني ياسين الحبُّ هذا لا كمنْ تاهتْ به *** في الغيِّ سودُ ذوائبٍ وعيونِ قد تكون هذه الأبيات مثالاً وسطاً للنمط الصوري الشعري الذي استخدمه الشاعر أبو الحب في أسلوبه الذي حاكى به أسلوب ذلك العصر، وربما كان هذا المثال جلياً ومناسباً لإثارة ذهن القارئ في الاستجابة للتأثير المباشر في المضمون حينما يصل إلى الغاية من مقدمته بقوله: لما سمعتُ بذكرِ يومِهم الذي *** في كربلاءَ جرى ألفتُ شجوني غوثاهُ من ذكراكِ وقعةُ كربلا *** يا أمَّ كلِّ حزينةٍ وحزينِ ليسَ اللديغَ سوى لديغِكِ لا الذي *** أمسى يكابدُ نهشةَ التنّينِ وعسى اللديغُ أصابَ حيناً راقياً *** إلّا لديغكِ ما له من حينِ حتى القيامة وهي دون عذابِهِ *** بلظى همومِكِ لا لظى سجينِ لاقى الحسينُ بكَ المنونَ وإنني *** لاقيتُ فيكِ عن الحسينِ منوني يترك الشاعر أبو الحب التأثير يأخذ مسراه للتوغل في المعنى أعمق ليؤكد بشاعرية فائقة فالتناغم في الصور لا يكون بنمط سطحي وبتعابير مرادفة وجمل جاهزة، بل بشبكة إتصال أثيرية عميقة داخل أجواء القصيدة لتحقق بذلك الإنسجام التام بين الصورة والمضمون، فالحسين لاقى المنون في كربلاء أما هو فإنه لاقى المنون بذكرى واقعة كربلاء ونرى أنه على وعي تام برسم الصور والتحكم بها كما يتحكم النحّات في إزميله، فتتصاعد النبرة الداخلية: يا بيضةَ الإسلامِ أنتِ حريّةٌ *** بعدَ الحسينِ بصفقةِ المغبونِ أعطى الذي ملكتْ يداهُ إلهَه *** حتى الجنينَ فداهُ كلَّ جنينِ في يومِ ألقى للمهالكِ نفسَه *** كيما تكونَ وقايةً للدينِ وبيومِ قالَ لنفسِهِ من بعدما *** أدى بها حقَّ المعالي بِيني أعطيتُ ربّي موثقاً لا ينقضي *** إلّا بقتلي فاصعدي وذريني إن كانَ دينُ محمدٍ لمْ يستقمْ *** إلّا بقتلي يا سيوفُ خذيني هذا دمي فلتروِ صاديةُ الظبا *** منه وهذا للرماحِ وتيني نَفَذَ الذي ملكتْ يميني حسرةً *** ولأتبعته يسرتي ويميني خذها إليكَ هديةً ترضى بها *** يا ربُّ أنتَ وليُّها من دوني أنفقتُ نفسي في رضاكَ ولا أرانـي فاعلاً شيئاً وأنتَ معيني ما كانَ قربانُ الخليلِ نظيرُ ما *** قرَّبته كلا ولا ذا النونِ هذي رجالي في رضاكَ ذبائحٌ *** ما بينَ منحورٍ وبينَ طعينِ رأسي وأرؤس أسرتي مع نسوتي *** تُهدى لرجسٍ في الضلالِ مبينِ ينتقل الشاعر لمفهوم الفداء حيث فدى الحسين الدين حتى بطفله فهو يدخل عالم الطف من أهم أهدافه وهو إنقاذ الدين والتضحية في سبيله على قدر ما يشير إلى إصابة العاطفة الإنسانية في جوهرها بهذا العالم النادر الذي هو عند الشاعر يمثل خلقاً شعرياً: وإليكَ أشكو خالقي من عصبةٍ *** جهلوا مقامي بعدما عرفوني جعلوا عظامي موطئاً لخيولِهم *** يا ربُّ ما ذنبٌ به أخذوني ماءُ الفراتِ محللٌ لكلابِهم *** وأنا الذي من وردِهِ منعوني ميراثُ جدّي خالصٌ لي دونهم *** ما بالهمْ عن إرثِهِ طردوني أوصى نبيكَ قومَه في آله *** وانا ابنه حقاً وما حفظوني هذا وقد كنتُ الرقيبَ عليهم *** يؤذيكَ ما من فعلهم يؤذيني خذْ لي بثأري وانتقم ليْ منهم *** أنا عبدُكَ القنُّ الذي ظلموني لم يبقَ ليْ شيءٌ أعدُّ نفيسَه *** لرضاكَ إلّا وارثي وأميني هذا عليلي لا يطيقُ تحرُّكا *** لو يستطيع بنفسهِ يفديني أبقيته ليكونَ بعدي موضحاً *** للناسِ غامضَ سرِّكَ المكنونِ هذي أمانةُ أحمدٍ أدَّيتها *** فاشهدْ عليَّ بها وأنتَ أميني يتسع هذا العالم ليصبح نابضاً بالحياة ومتوارثاً بالإمامة، ففي غمرة الأحداث الأليمة ومقتل حجة الله في أرضه فإن هناك من يحفظ هذه الأمانة ويصون الدين من بعده بإشراقة شمس الإمامة بشعاع زين العابدين الذي يوضح غامض الأسرار ويؤدي رسالة الله في الأرض ولكن الإحساس المطمئن بهذا العالم قد تداهمه قوى خارجية تنقله إلى الصحوة، ولكن هذا ما يصب في صالح الصورة لتكون أكثر عمقاً وتشخيصاً لواقع مناقض تماماً لما في الصورة الحدسية، فيكشف بذلك عن الهوة السحيقة بين العالمين وهكذا تتصاعد النبرة لتتأرجح بين العالمين الذين يتقاسمان ليس ذهن الشاعر فقط بل يتعدى إلى الذهن الجمعي بإشراقة ظهور الإمام المنتظر وأخذ الثأر من قتلة الإمام الحسين: يا أيّها الملكُ المحجَّبُ وثبةً *** يعنو لها بالذلِّ كلُّ حرونِ أترى سواكَ اليومَ راتقُ فتقها *** هيهاتَ ليسَ سواكَ بالمأمونِ ذهبَ الحسينُ بطخيةٍ لم تنكشفْ *** إلا بضوءِ حسامِكَ المسنونِ خشعتْ له حتى السباعُ قلوبُها *** وترقرقتْ حتى العيونُ العينِ لكن الشاعر لا يتوقف عند هذين العالمين بل يسبغ عليهما عالماً ثالثاً ذا فضاء شاسع وهو المقارنة والتضمين القرآني غضبَ الإلهُ لعقرِ ناقةِ صالحٍ *** حتى أذاقهُمُ عذابَ الهونِ وابنُ النبيِّ رضيعُه في حجرِهِ *** رضعَ السهامَ بنحرِهِ المطعونِ ولقدْ خشيتُ بأن تزورَ منيّتي *** قبلَ انتصارِكُمُ بني ياسينِ لا خيرَ في عمرِ الفتى ما لمْ يكنْ *** يفنى بنصرةِ صاحبٍ وخدينِ هيَ بغيةٌ لو أنني أدركتُها *** لعلمتُ أنّي لستُ بالمغبونِ هيهاتَ ذكرُكِ يا مرابعَ كربلا *** بعد الزمانِ وقربِهِ يُنسيني ما أنتِ إلا روضةٌ ممطورةٌ *** بدمِ الأحبةِ لا السحابِ الجونِ وتتداخل هذه العوالم الثلاثة ضمن إطار رؤية الشاعرة وتنفتح على أفق أكثر اتساعاً للرؤية والتأويل: لا تنبتي إلا بدوراً وابهجي *** بهمُ ابتهاجَ الروضِ بالنسرينِ جادوا لربِهم بكلِّ نفيسةٍ *** وفدوا إمامَهم بكلِّ ثمينِ ثبتوا لمقترعِ ألألوفِ حمايةً *** عنه وما زادوا على السبعينِ لي مثل نيّتهم ولكن القضا *** والجدّ أخّرني وهمْ سبقوني يا من بحبِهم وبغضِ عدوِّهمْ *** يومَ القيامةِ في غدٍ تحصيني ويمكننا رسم مقارنة بين المفردات التي انتقاها الشاعر بعناية وبين الصور الحسية العميقة لاكتشاف البعد الثالث للنص الذي اقتحم الهوة بين العالمين ليحدث ترابطاً بينهما: أعيا الكرامَ الكاتبينَ توغُّلي *** في الموبقاتِ بكثرةِ التدوينِ ما قمتُ من ذنبٍ أحاولُ توبةً *** إلّا وقعتُ بمثلهِ من حينِ مُنُّوا بلطفِكمُ عليَّ فإنني *** عجزتْ بحملِ صغارِهنَّ مُتوني إن كنتمُ لا تشفعونَ لغيرِ ذي *** ورعٍ فمنْ للخاطئِ المسكينِ من يعتصمْ بولائكمْ لمْ يعتصمْ *** إلّا بحبلٍ للإلهِ متينِ دلل الشاعر من خلال مجسّاته الصورية على أن مشاعر الشاعر أكثر نمواً وتركيزاً وتخصُّصاً حينما جسّد مشاعر الآخر بنفس التعاطف الإنساني الشعري وبنفس ثاقب يكشف عن وجدان الآخر فاتخذ من المنطق الشعري النفسي والعاطفي منطلقاً لها رغم أنه في الوقت نفسه لا يخرج من سيطرة العقل الشعري فخلق بتناسل لغوي وشعري صوري عالماً استطاع أن يبسط سيطرته على أجوائه الداخلية والخارجية بقوة شاعر. محمد طاهر الصفار الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق