أي أمة لا تستطيع النهوض بحضارتها ولا يستطيع اي كيان اجتماعي أن يرتقي الا من خلال التحلي بالأخلاق الفاضلة
النص الكامل للخطبة الاولى
الحمد لله المتفرد بالكمال الاعلى فلا يماثله شيء ولا يضاده شيء، المستأثر بالجلال الاسمى فلا يدانيه شيء، المعبود لا لحاجة فيه الى عبادة مخلوق، المحمود لا لغاية يبلغها في حمد عبد مرزوق، اشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له واشهد ان محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله صلوات تؤدي عنا حقوقهم وتسلك بنا في جميع الامور طريقهم.
اوصيكم عباد الله تعالى وقبل ذلك اوصي نفسي بتقوى الله تعالى، واوصيكم بالخلق الرفيع واقتفاء آثار نبيكم (صلى الله عليه وآله وسلم) وسننه، واحرصوا على التخلق بأخلاقه وسجاياه واجتنبوا الخلق الدنيء الوضيع، واحذروا منه اشد الحذر وكونوا دائمي المراقبة لله عز وجل الذي يعلم السر والجهر ويعلم ما تكسبون.
ايها الاخوة والاخوات عظم الله اجورنا واجوركم بذكرى رحيل النبي الاكرم (صلى الله عليه واله) الذي يصادف في يوم الثامن والعشرين في يوم غد من شهر صفر, وبهذه المناسبة لا بأس ان نتحدث في جانب من جوانب عظمة شخصية النبي (صلى الله عليه واله) التي ورد وصفها في القرآن الكريم (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) ليس لدينا شخصية وصفت بهذا الوصف غير النبي الاكرم (صلى الله عليه واله) ما احوجنا في هذا الوقت لتجاوز الكثير من المشاهد والنزاعات والازمات وان نعيش في سلم وامان وفي اجواء تسودها المحبة والمودة والرحمة وما احوجنا للتخلّق بأخلاق النبي (صلى الله عليه وآله).
وقبل ان اذكر شيئاً من سمو شخصية النبي (صلى الله عليه واله) في سجاياه وعظمة أخلاقه، اود ان اذكر قضية معينة هي ان الاسلام من خلال نصوص القرآن الكريم والاحاديث الشريفة اهتم اهتماما بالغا بوضع نظام متكامل للأخلاق الانسانية الرفيعة، وحث على التمسك به، نجد من خلال بعض النصوص الشريفة ان الاخلاق الفاضلة جعلها الله تعالى الميزان الاثقل للمؤمن يوم القيامة، فالأمر الذي يجعل كفة ميزان المؤمن في حياته اثقل من غيرها هو التحلي بهذه الاخلاق الفاضلة، فقد ورد عن النبي (صلى الله عليه واله) (ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن)، بل ان الاخلاق الرفيعة هي مفتاح السعادة للفرد والمجتمع بل هي مفتاح الدخول الى الجنة، ففي حديث شريف عن النبي (صلى الله عليه واله) عندما سؤل عن اكثر شيء يدخل الناس الجنة، قال تقوى الله، واضاف اليه وحسن الخلق فإضافة الى التقوى التحلي بالأخلاق الحسنة، فأي امة لا تستطيع النهوض بحضارتها ولا يستطيع اي كيان اجتماعي أن يرتقي الا من خلال التحلي بالأخلاق الفاضلة، فهي الاقوى تأثيرا في فتح القلوب والدخول الى المنغلقة منها والمستعصية على الايمان.
لذلك في كثير من القصص والروايات التي تقرؤونها عن سيرة النبي (صلى الله عليه واله) والانبياء (عليهم السلام) جميعاً ان الكثير من الذين كانت قلوبهم مغلقة على الايمان بالله تعالى، فعندما يطرح الدين السماوي معارفه وافكاره ومناهجه، كان هناك نوعان من الناس، إما منفتح العقل والقلب - وبطبيعة الحال الانسان يملك عقلا وقلبا يستوعب الرسائل السماوية- فيؤمن بهذا الدين السماوي أو على العكس من ذلك، فمهما تطرح عليه من ادلة وحجج وبراهين قلبه مغلق ولا يؤمن بهذا الدين السماوي، فنجد ان النبي (صلى الله عليه واله) والانبياء الاخرين حينما يظهر منهم خلقا رفيعا يفتح -بمجرد ظهور هذا الخلق الرفيع والسامي- هذا القلب المنغلق والمستعصي فيؤمن بهذا الدين السماوي، لدرجة أن بعضهم أصبح فيما بعد نعم العون والساعد الايمن للنبي (صلى الله عليه واله) والانبياء جميعاً في نشر تعاليم الاديان السماوية، سواء كان الاسلام ام غيره.
فبواسطة الاخلاق الحميدة تحول حالة العداوة بين الاشخاص وبين كيان اجتماعي وكيان اجتماعي آخر الى حالة الصداقة الحميمة والمحبة والوئام والانسجام قال تعالى (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) كثير ما تتحول حالة العداء التي تكون بين شخص واخر الى الصداقة الحميمة من خلال التحلي بالأخلاق الفاضلة، لذلك من خلال دور الاخلاق في المجتمع يمكن ان يكون لنا الاهتمام والتوجه نحو معرفة هذه الاخلاق والتحلي بها من خلال ما نقرأه من سيرة النبي (صلى الله عليه واله) نستكشف مبادئ هذه الاخلاق والسجايا الحميدة التي يحتاج اليها الانسان كفرد ومجتمع،
من حق الانسان أن يتساءل عن معنى الآية (وأنك لعلى خلق عظيم) وعن العظمة التي تتحدث عنها ورد في بعض التفاسير ان (النبي صلى الله عليه واله) قد جمع مكارم الاخلاق وهي التي اعطته هذه الصفة، وكأنه الاخلاق في مفرداتها تختلف منزلتها في الرتبة والفضل بعضها يتقدم على البعض الاخر هذا هو الاسمى والارفع من الاخلاق، وسميت بمكارم الاخلاق، كالعفو عمن ظلمك وتصل من قطعك، وتعطي من حرمك، هناك اخلاق اخرى ولكن هذه الاخلاق الثلاثة التي وردت في هذه الاحاديث لها منزلة ورتبة وفضل على بقية الاخلاق .
ولنتعرف على بعض هذه الاخلاق خصوصا مكارم الاخلاق التي نحتاج اليها كثيرا في مجتمعنا وحقيقة الاحاديث تبين ان مفتاح الاستقرار والامن الاجتماعي والسعادة للفرد والمجتمع، فقد جمعت مكارم الاخلاق في آية قرآنية كريمة ، وهي قوله تعالى (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) هنا الإمام الصادق عليه السلام في صدد هذه الآية يقول، ان الله امر نبيه بمكارم الاخلاق وليس في القران آية اجمع لمكارم الاخلاق من هذه الآية.
في هذه الآية ثلاثة امور واساسها هو ان يتحلى الانسان بأهمها وهو الحلم والعفو عن المسيء كثير من مشاكلنا ونزاعاتنا وكثير من الاختلافات يمكن ان تحل بواسطة هذه الصفة ويعيش المجتمع في استقرار وامن وسلام اذا كان الانسان منا يتحلى بهذه الصفة، ولكن في كثير من الاحيان صعبت على بعض النفوس، لوجود دافع التشفي والانتقام عند الانسان، فالإنسان المؤمن يكظم غيضه يسيطر على انفعالاته وكثير ما يتعرض الانسان الى مواقف تؤدي الى انفعالات عصبية لديه فيرد بكلام اخر ويرد احيانا لربما بتصرفات أخرى لاسيما اذا كان هذا الانسان المعتدى عليه ممن يمتلك مقاما رفيعا ويمتلك القدرة على الانتقام من ذلك الشخص حين اذن تبرز وتنجلي هذه الصفة العظيمة، لذلك النبي (صلى الله عليه واله) عندما كان كفار قريش المشركون تمادوا في الاعتداء والايذاء بتكذيبه ورميه بمختلف الصفات والاعتداء عليه وعلى اصحابه بالتعذيب والتشريد والتجويع والطرد من مدينتهم ولم يكتفوا بذلك طوال ثلاث عشرة سنة، بل حينما انتقل الى المدينة المنورة لم يتركوه بل جمعوا وجهزوا الجيوش واخذوا يحاربونه في سبيل القضاء على دولته والمجتمع الاسلامي، ومع ذلك عندما يدخل المدينة اناس اعتدوا عليه وآذوه وفعلوا الكثير من اجل القضاء عليهم، وكانوا يتوقعون منه ان ينتقم منهم، يقول النبي صلى الله عليه واله وسلم (ماذا تظنون يا معشر قريش قالوا : خيرا ، أخ كريم ، وابن أخ كريم وقد قدرت ; قال : " وأنا أقول كما قال أخي يوسف لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو ارحم الراحمين اذهبوا فأنتم الطلقاء.
هذه الملكة عند الرسول صلى الله عليه واله وسلم والتي جعلت القرآن يصفه بالخلق العظيم البعض منا يمتلك صفة الغيض والحلم والعفو عن الاخرين والعفو عن المسيئين، فيوجد الكثير من الاشخاص المؤمنين لديهم هذه الصفة، وما الفرق؟ لماذا اعطي النبي وحده من بين كل الشخصيات العظيمة هذه الصفة؟
النبي صلى الله عليه واله وسلم يملك هذا الخلق كملكة وسجية وصفة تصدر عنه من غير تكلف ومشقة، وبكل سهولة وبكل انسيابية وفي كل الحالات التي تكون فيها اساءة، واعظم الاساءات والإيذاءات، فلا يوجد انسان في الكون -حتى الانبياء والمرسلين- أوذي مثل ما أذوي النبي صلى الله عليه واله وسلم قط، وفي كل حالات الإيذاء التي تعرض اليها من دون استثناء -غير حالات التعدي على الشريعة الاسلامية - يقابلها بالعفو والتجاوز عنها بكل سهولة ويسر لا يكلفه هذا الخلق بمشقة وعناء، هذا الفرق بيننا وبين النبي صلى الله عليه واله وسلم.
ومن الصفات الحميدة ولكي ينجح الانسان في الحياة سواء كان انسانا مؤمنا عاديا وان كان انسانا يتصدى مسؤولية او اي هدف في الحياة عليه بالصبر، وللصبر أنواع كالصبر على الطاعة والمعصية والنائبة والبلاء وتجاوز مشاكل الحياة وازماتها للوصول الى الهدف المقصود، هذه مسألة مهمة وكل انسان لديه هدف في الحياة وله امنية وكل إنسان يواجه صعوبة ومشاكل اجتماعية أو تعليمية أو اقتصادية وغير ذلك من هذا الازمات، وهذا معنى الصبر، ان منزلة الصبر من الايمان منزلة الرأس من الجسد، والجسد بلا راس لا خير فيه، كذلك الانسان المؤمن لا خير في ايمانه من دون صبر، هذه هي اهمية الصبر التي نحتاج اليها في حياتنا.
ومن الصفات المهمة التي كان يمتلكها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هي التواضع هذا الخلق الرفيع العظيم وتجسد فيه اعظم تجسيد
فحينما يكون الانسان اعظم انسان في الكون وتوجد فيه بعض الدواعي للترفع والتكبر، كان اكثر انسان في الكون تواضعاً هو النبي صلى الله عليه واله وسلم.
لذلك تجد النبي لا يخجل لا يستحي من ان يرقع ثوبه وان يخسف نعله، ويدعوه مملوك وخادم الى الطعام فيجلس معه، وهذا النبي الذي يملك مالا وجاها وسلطة ومقاما اجتماعيا عاليا، دعاه انسان بسيط يلبس ملابس رثة هيئته هيئة انسان بسيط جداً مهنته مهنة وضيعة يجلس على حصير ويأكل شيئا من الطعام البسيط، لذلك ورد في الكثير من الاحاديث الشريفة الحثُّ على هذا الخلق الذي يؤدي الى الألفة والمحبة والتعاون والتفاهم بين الجميع زيادة على رفعة الانسان مقامه ومنزلته الاجتماعية وعلى العكس من التكبر فهو الذي ينزل من قدر الانسان وكلما ازداد الانسان تواضعاً ازداد رفعة ومقاماً بين الناس، لذلك ورد في الاحاديث من تواضع لله رفعه تعالى، كذلك ورد في بعض الادعية خصوصاً دعاء الامام السجاد عليه السلام حينما يدعو في دعاء مكارم الاخلاق يطلب من الله تعالى كلما ازداد رفعة لدى الناس يزداد ذلاً وتواضعاً في ذات قلبه والحفاظ على حالة التوازن ومقام الاحترام والتقدير لدى الناس، حين اذن نعرف هذه الصفة ونتعلمها من النبي صلى الله عليه واله وهكذا بقية الصفات التي وردت عن النبي و ما احوجنا ان نتخلق بأخلاق النبي للوصول الى الاهداف التي ذكرناها، نسأل الله تعالى ان يوفقنا لنقتفي اثاره ونتبع سنته انه سمع مجيب.
بسم الله الرحمن الرحيم ( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4) ).
اترك تعليق