الخطبة الدينية للسيد أحمد الصافي من الصحن الحسيني الشريف بتاريخ 22 محرم 1439 هـ الموافق 13 /10 /2017 م

الإمام السجاد (عليه السلام) ركناً ركيناً من المنظومة العاشورائية

النص الكامل للخطبة الاولى

إن للإمام السجاد (عليه السلام) دور كبير في النهضة الحسينية وما بعدها، فقد مر عليه ما مر على العائلة، عائلة سيد الشهداء من حالة السبي والانتقال من مكان الى مكان، ومارس دوره (عليه السلام) في كربلاء عندما أمر العائلة الكريمة بعد ان استشهد ابوه (عليه السلام) بأن تفر بالبيداء حفاظا عليها؛ لأنها اصبحت بلا اي مأوى، وايضا ذهب الى الكوفة اسيرا بمقتضى الوضع الخارجي، وايضا تكلم محاولا ان يبين احقية سيد الشهداء واهل البيت عموما في هذا الامر، وان الذي جرى هو مظلمة قادها الخليفة في ذلك الوقت اضافة الى ولاته وحدث ما حدث، ثم ايضا بقي بهذا الإصرار الى ان ذهب الى الشام، و أمام مجلس طاغية الوقت بيَّن بشكل صريح وفصيح من هو ومن هو ابوه ومن هو جده وطبيعة الانتماء الى النبي وآل بيته، وهذه الخطبة تعتبر من المواقع المهمة في اكمال قضية عاشوراء والامام (عليه السلام)، بعد هذه الجلبة إلى أن رجع الى المدينة لخّص المطلب حينما سأله البعض عندما رأوه قد جاء وحيدا وقد فقد أباه، وفقد عمه وفقد اخوته، وهذا السؤال هو عن الانتصار ومن هو الذي يعتبر المنتصر، فأجاب الإمام (عليه السلام) بجواب مختصر وبليغ واستشرق المستقبل بقوله: اذا سمعت المؤذن ستعرف من المنتصر.

وهذه نكتة في غاية الاهمية وغاية الوجازة هي ان هذا الأذان ما زال موجوداً وهو الذي من اجله نقاتل، فالطرف المقابل لم يكن مهتماً بالأذان، وانما كان ينازع من أجل دنيا زائلة، انما نحن لا نرتبط بهذا العالم، نتعامل مع هذا العالم بما هو تأسيس ما جئنا من اجله عنوان وهو عنوان (اشهد ان لا اله الا الله واشهد ان محمدا رسول الله) هذا الظرف الخاص الذي مر به سيد الشهداء (عليه السلام) واقعا تعامل الامام السجاد (عليه السلام) مع هذا الموقف العاشورائي -كما قلنا في الجمعة ما قبل الماضية- وأسس أساساً للتعامل مع المشهد الكربلائي العاشورائي وبادر الامام السجاد إلى إحياء ما يتعلق بابيه سواء كان اذا تجدد العاشر من محرم في السنة القابلة ام ضمن الممارسات اليومية مذكرا ومنبهاً على أهمية ما جرى، هذا من جانب، فعندما نتعامل مع الامام السجاد نتعامل معه كشاهد وكعنصر مقوُّم لواقعة الطف فلم يكن شاهداً في معزل عن الواقعة، وانما كان عنصرا مهما، وابتدأ دوره الشريف بمجرد استشهاد الامام الحسين (عليه السلام) ومارس دوره سواء كان مع العائلة أي في كربلاء بعد الشهادة، أو في الكوفة او في الشام او بعد رجوعه الى المدينة، هنا بدأت الحالة الثانية في حياته (عليه السلام) قلنا وهي حالة الاشباع الفكري والاخلاقي والمعرفي من خلال اتصاله بالآخرين عن طريق هذه الممارسات الخاصة، وهي مسألة الدعاء، فإننا في كل مقدمة نتطرق الى دعاء من أدعيته للتنبيه على عظم الصحيفة السجادية هذا التراث العظيم المخزون عندنا، ونحن مسؤولون لا عن حفاظه من جهة طبعه فقط، وانما نحن مسؤولون من جهة التعامل مع ما جاء في هذه الصحيفة بشكل واقعي وبشكل عملي، ولا بد ان تكون هناك بصمة واضحة لكل من يرتبط بسيد الشهداء ان يرتبط بالإمام زين العابدين؛ اعتبار أن هذا المشهدَ مشهدٌ واحدٌ ومكمّلاته بعد مجيء الإمام زين العابدين إلى كربلاء قد أفرزت هذه الحالة، حالة الصحيفة السجادية.

التفتوا الى ما اريد ان أبيِّنه، ان الصحيفة السجادية احد نتائج كربلاء باعتبار ما بعد واقعة كربلاء كان القوم في عقيدتهم هذا الشعار الذي رفع بعد ان قتلوا سيد الشهداء هو (احرقوا بيوت الظالمين) هذا الشعار الذي رفع، وقد رفع من قبل قادة الجيش لا من قبل جنود عاديين، واستمر هذا الشعار حتى عندما وقف الامام (عليه السلام) امام بعضهم عندما سأله عن اسمه قال: عليّ، قال له: أليس قد قتل الله علياً؟!

لاحظوا التنظير الخاطئ في تعمية الامر على بعض كسور الرجال الذين كانوا يحيطون بالخليفة وقتها او الوالي، فهذا التساؤل (اليس قد قتل الله علياً؟!) لم يجرِ على لسانه اعتباطا اراد ان يبيِّن ان الله هو الذي سلطنا عليكم، فعملنا مرتبط بالله، فالتفت الامام الى هذه النكتة، فقال: كان لي أخ يدعى علياً قتله الناس ولم يقتله الله، وفي محاورات أخرى اجمعوا على قتل الامام زين العابدين، حيث إن النص الذي وصلنا من خليفة وقتهِ هو (أبك جرأة على ردِّ كلامي.. اضربوا عنقه)، فالمسألة مبنية على نسف أفراد هذا البيت العلوي وقتلهم وابادتهم.

والسيدة زينب (عليها السلام) مارستْ دوراً عظيماً عندما تعلّقت بالإمام السجاد وقالت (إن كنتُ تقتله فاقتلني معه) فالمشهد العاشورائي بحسابات القوم ان الامام زين العابدين يكون من ضمن القتلى، فلا مبرر لتركه، لكن الله سبحانه وتعالى اراد لهذا البيت ان يحفظ واراد للإمام زين العابدين (عليه السلام) ان يكون شاهد حق، ومكملاً لما يحدث بعد عاشوراء.

ومن جملة ما قام به الامام زين العابدين هو هذا التراث الضخم (الصحيفة السجادية) فهي عبارة عن ناتج كربلائي بعد واقعة الطف، باعتبار أن الإمام كانت جميع حركاتِه وسكناته مراقبة وملاحظة، وإلا فهو محكوم بالإعدام في يوم عاشوراء.

لاحظوا اخواني لم يكن هناك رأفة فترك الامام لمرضه، فلا رأفة عند القوم، كان لديهم فكرة أن هذا البيت من بيوت الظالمين، ولا بد لبيوت الظالمين ان تحرق، فقد صوروا أهل هذا البيت للناس -كما في الشام- بأنهم من الخوارج -وحاشاهم-خرجوا على خليفة الوقت، ومن المعلوم أن عامة الناس قد لا تتوفّق أن تكون بمستوى فهم الحدث، أي أن الناس في الشام وبعد واقعة الطف كانت تحتفل ليس من باب هو عيد وطني وانما كانت تحتفل لقضية دينية باعتبار ان هناك مجموعة حاولت ان تعبث بوضع الامة الاسلامية، والله تعالى نصر الامير على هؤلاء الثلة من الخوارج، فالمنظور للاحتفال هو منظور ديني، وليس منظوراً وطنياً، فعامة الناس عندما لا تتوفق الى فهم الاحداث بشكل دقيق، ستكون من العوامل المشجعة على تمادي هؤلاء في ظلمهم، باعتبار اذا كانت المقاييس الصلاة فهؤلاء ايضا يصلون، واذا كانت المقاييس الحج فهؤلاء ايضا يحجون واذا كانت المقاييس الصوم فهؤلاء ايضا يصومون، لكن طبعا شتان ما بين الفهم لمجريات الاحداث، ولذلك اخواني حري بنا عندما نتعامل مع سيد الشهداء ان نفهم طبيعة الارض التي كانت يتحرك بها (عليه السلام) اليوم في هذا القرن الواحد والعشرين الذين مع سيد الشهداء سواء في احياء مناسباته او الحضور الى المرقد المبارك او التعامل مع قضيته، فهما وتعاملا مبدئيا، هذا الحضور أضعاف مضاعفة ما شاء الله تعالى أن يكتب بالقياس مع الذين عايشوا سيد الشهداء (عليه السلام) فالنخبة التي جاءت مع سيد الشهداء نحن نعظّمها ولكن تبقى علامة استفهام كبيرة.. أين البقية الباقية من الأمة، ولماذا تخاذلوا عنه ؟!

تارة الانسان لا يسمع لا يعلم قد يكون معذورا، لكنهم كانوا على علم، وكان بعضهم يبدي نصيحة بزعمه للإمام الحسين (عليه السلام) وهو في مكة، والامام كان يبين قائلا: لئن اقتل بشبر خارج الحرم احب الي من ان اقتل داخل الحرم، لان هؤلاء ارسلوا من يحاول ان يقتل الامام سيد الشهداء (عليه السلام) والامام ارسل الكتب واستنصر البعض، فاين كان هؤلاء اذن؟

إن الامة عندما لا تتوفق إلى فهم مجريات الحدث بما هو وكيف تتعامل معه سيكون وبالاً عليها، ويجعلهم من انصار الظالم على المظلوم، وهذه النقطة حتى مع الانبياء، ان هؤلاء الانصار كانوا يحيطون النبي (صلى الله عليه وآله) وهؤلاء بالقياس الى الامم يكونون قلة، بل في بعض الحالات يتهمون كما في زمن نوح إذ قالوا ان هم أراذلنا وكانوا يعنون أتباع النبي عليه السلام، بالنتيجة هناك حرب مورست، حرب نفسية وحرب اقتصادية  ضد اتباع الانبياء كما مورست الحرب ضد النبي الاكرم وحرب عسكرية مورست مع سيد الشهداء لأننا عندما ندقق في التاريخ نرى ان الامة قد تقع في فخ الدعاية والاعلام المضلل وترك الامام (عليه السلام) او من يمثله مكشوف الظهر، ولا عذر لنا في عدم فهم وقائع الاحداث، فالامام السجاد كان ضمن هذه المنظومة العاشورائية وكان ركناً ركيناً منها فعندما كان يأتي الى الكوفة ويتحدث معهم او زينب او فاطمة الصغرى (عليهم السلام) وعندما كان في دمشق يتحدث في مجلس يضم الوجوه السياسية الوجوه الاجتماعية يتحدث بهذا الحديث الضخم؛ لان هناك تضليل يريد ان يرفعه، وكما هو معروف عندما طلب الامام السجاد ان يخطب وقال: آذن لي ان اصعد الى هذه الاعواد، اتكلم في كلام لله فيه رضا ولهؤلاء الجالسين فيه مثوبة وصلاح، قال بعضهم متسائلا: وما قدر ان يحسن هذا؟ لكن الحاكم يزيد ملتفت وهو اكثر شخص يعرف الحسين ويعرف ان الامام الحسين يجب ان يقتل ومن قبله ابوه ومن قبله جده، فهو من عائلة تعرف من يكون الحسين ومن يكون امير المؤمنين ومن يكون النبي فلم يرض ان يصعد الامام الى المنبر فانه إذا صعد لا ينزل الا بفضيحته وفضيحة آل ابي سفيان، هؤلاء الذين بجانبه لا يعرفونه فقد ضلل عليهم ولم يعطوا للعقل فرصة ان يسألوا عنه، فالإمام عندما علم انه لا يوجد احد ينتصر له تصدى (عليه السلام) هو وبيَّن حقيقة الامر حتى حصلت هناك ضجة، لكونهم لم يسمعوا بكلامه من قبل.

بدأ الامام السجاد (عليه السلام) بقلب مفاهيم هؤلاء الناس المخدرين المغلوب على امرهم الذين لا يفكرون اصلا، لا يهمهم دينهم، وانما هذه الديانة الظاهرية المدجلة الشكلية الفارغة من المحتوى لا يعرفون عنها شيئاً، فبدأ (عليه السلام) من ادعية التوحيد فهو يشكل عندهم مشكلة لا يعرفونه حق المعرفة، ثم بدأ بأدعية لها علاقة بالنبي وكيف يصلي الامام على النبي واله ويبين شخصية النبي(صلى الله عليه واله وسلم) ثم بدأت هذه المفاهيم تتغير شيئا فشيئا من عقائد واخلاق وافكار هؤلاء.

فهذا نتاج فكري عظيم افرزته احداث كربلاء للظرف الخاص الذي هيمن على الامام السجاد (عليه السلام) وانما هو القائل (سلام الله عليه) بعد واقعة الطف: لم يكن في المدينة ومكة عشرون رجلا يحبونا، فهذه الفترة في سنة 61 للهجرة ليست فترة بعيدة من السنة الأولى للهجرة.

فهكذا عبر عليه السلام، وهذه قسوة احداث تحمَّل وزرها الناس، وقلنا -سابقا- الإمام في كربلاء في هذا المكان الطاهر المقدس كان يخطب ولم يتصدى لقتال هؤلاء فليس له وظيفة القتل فهذا في مدرسة اهل البيت غير موجود، وانما بدأ يعضهم، لعل فيهم من يمكن ان يرجع بذاكرته ويسأل نفسه أو اباه ان كان موجودا، ولذلك كان الامام حريصا على ان يبلغ و يخطب، فتارة يلبس عمامة رسول الله مذكرا اياهم وعلى فرس رسول الله، سائلا اياهم من أكون؟ وما مبرر قتالكم إياي؟ أتطلبوني بقتيل لكم قتلته ام سنة غيرتها؟

فلا جواب لهم لأنهم خذلوا انفسهم بخذلانهم سيد الشهداء، فبالتالي فقدت هويتها وإرادتها، وسيد الشهداء له فضل علينا ما حيينا، فقد ايقظ فينا كل ارادة من اجل رفض الظلامة وانا دائما اقارن مقارنة واقعية ما بين ما حدث وما بين ما يحدث الان، فهؤلاء الابطال الذين وقفوا الآن بعزة وشرف واقعا هم تربوا عند سيد الشهداء، فالذي عمره ستة عشر عاما بأي عقلية فكر فيها ومدركاته العقلية وفلسفته، فلا يوجد عنده شيء معقد فعمره غير مؤهل لكن بهذا العمر احب الحسين (عليه السلام) واصبح عنده من الامر الطبيعي ان يقف امام هؤلاء ويتحمل ما تحمله القاسم مثلا ما تحمله اصحاب الحسين، فالوضع طبيعي عنده، لا يشعر بخذلان ولا بجبن ولا بأي اهتزاز فمن اين جاء هذا؟ عندما يتطرق الامام زين العابدين كثيرا على ان يبقى هذا النفس الحسيني عند هؤلاء، فقد ساهم الأئمة كلهم في ذلك ولم يقتصر الدور على الإمام السجاد فحسب، فهؤلاء الشباب الذين وطنوا انفسهم وطلّقوا الدنيا وما فيها وانتم تعرفون أن اغلبهم أناس فقراء لا يملكون قوت يوم لدرجة أن بعضهم في الاجازة لا يذهب الى عائلته معللا ذلك بقوله: اهلي فقراء ويتوقعون ان اعود اليهم بمرتب او بشيء، فانا لا أريد الذهاب، أريد أن ابقى هنا وادافع، كما يوجد بينهم من فَقَدَ أعضاء له من أيادٍ وأعين، وتراهم يقولون: لتذهب فداءً للحسين، فهم جعلوا الامام العباس عليه السلام مثالا لهم، وكذلك أمهاتهم عندما يستشهد أبناؤها تقول: فداء للزهراء، فقد طبقوا هذه المفاهيم ونحن الآن في أيام محرم الحرام، فأي مشهد هذا الناتج عندما نربط الاحداث مع سيد الشهداء لا يكون ربطا عفويا، مشتبه كل الاشتباه من يرى ان هذا الربط ربط عفوي، هذا كهل قد بلغ من العمر ثمانين عاما يقول انا اشبه نفسي بحبيب بن مظاهر الاسدي الذي رفع حاجبيه بعصابة؛ لا يظهر امام الحسين انه رجل كبير حتى يقول للحسين: انا معك انا شاب ائذن لي حتى اقاتل دونك، فهذه المسألة ليست عادية، لا يجرؤ عليها اي احد، وهؤلاء عندما يُطلَبون الان بعضهم كبير السن، يحاول ان يقول اني لم آتي بالجنسية او يحاول ان لا يذكر تاريخ ميلاده صحيحا خوفا من ان يرجعوه ولا يقاتل، وهناك العشرات من هذه الحالات، إن هذه المقاربات اضطرتنا أن نبين أن الامام زين العابدين قد أسس لها وجعلها ناتجا عاشورائيا.

هذا المشهد كان اعادة صياغة لكل مبانينا الفكرية لنعيد الثقة لأبناء الأمة كيف نبين لهم حقيقة الامر وكيف نعطيهم وجهاً غير الوجه الذي تعلموه، فالجميع ينادي يا حسين ستأتينا زيارة الاربعين ولاحظوا الاعداد الهائلة والرغبات المشوقة والنفوس التي لا تتوفق للزيارة تشعر كأنها في حسرة عظيمة لا تعوض من اين جاء هذا الشعور؟

نسأل الله التوفيق لما يحب ويرضى وان يجعل لنا ذخرا في دنيانا واخرتنا الا وهو هذه المحبة لسيد الشهداء ولأخيه ولأبيه ولجده وللتسعة من بينه، نسأله سبحانه وتعالى ان يرضى عنا وعنكم جميعا واخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.

بسم الله الرحمن الرحيم: "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)".

   

المرفقات