رحلة ديولافوا إلى كربلاء

(إن كربلاء كانت عبارة عن جامعة دينية كبيرة يقصدها طلبة العلم من كل حدب وصوب في أنحاء العالم الإسلامي فيقظون معظم سني حياتهم فيها), هذا الوصف الذي أطلقته مدام ديولافوا (1) على كربلاء حينما زارتها قبل حوالي (140) سنة يعطي صورة واضحة عن المكانة العلمية التي تبوأتها هذه المدينة في مراحل التاريخ ويدعو المتتبع والباحث إلى سبر أغوار هذا التاريخ المشرق وتسليط الضوء على النهضة العلمية والفكرية التي شهدتها هذه المدينة التي حملت صولجان العلم والفكر والأدب في كثير من العهود وحمل علماؤها وأدباؤها مشاعل تنير طريق الأجيال.

إن هذه المدينة التي تعرضت لشتى أنواع التعسف والظلم والاضطهاد من قبل السياسات الدكتاتورية المتعاقبة ما زالت تنتظر من يكتب المزيد عن تاريخها المجيد وإنجازاتها وما تركته من ثروة علمية وأدبية، ويبرز دورها في التاريخ العلمي والأدبي والسياسي ومؤثراتها على المراحل اللاحقة والتي لا تزال بعضها إلى الآن حية وستبقى ؟

زارت الرحالة والأديبة الفرنسية مدام (جان مگر ديولافوا) كربلاء عام (1299هـ/1881م) مع زوجها المهندس المعماري وعالم الآثار الفرنسي (مارسيل ديولافوا) وذلك في ولاية تقي الدين باشا المدرس (1230-1310هـ) بعد أن زارا إيران وتوجها إلى العراق فزارا الكاظمية والحلة فاطلعا على آثار بابل وكتبا مشاهداتهما عنها ثم توجها إلى كربلاء عن طريق الحلة وقد اهتم المسيو ديولافوا اهتماما بالغا بإيران وكتب عدة كتب عنها أما السيدة ديولافوا فقد اعتنت بالعراق وصورت العادات والتقاليد عند العراقيين وأوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية (2)

وصلت ديولافوا مع قافلتها مشارف كربلاء ليلا وكان المطر يتساقط فاضطرت للمبيت في قرية صغيرة تبعد عن الأهوار المحيطة بالطريق حوالي (2) كيلو متر ولاحظت ديولافوا وجود بعض الدكاكين حول الخان الذي نزلت به والذي تنيره الفوانيس النفطية (3), وفي صباح اليوم الثاني وصلت كربلاء بعد أن مرت في طريق (زاهر تحفه البساتين والحدائق وتكتظ في جانبيه أشجار النخيل والليمون وكانت حركة المرور نشطة في هذا الطريق كما كان كثيرون من المارة نسوة يمتطين الدواب أو يقطعن الطريق سيرا على الأقدام).

عندما وصلت القافلة إلى باب المدينة شاهدت ديولافوا عددا كبيرا من الحجّارين وهم يعملون في صقل الأحجار والكتابة عليها لبيعها على أصحاب الجنائز ويتضح من وصفها عن كثرتهم على أن الجنائز التي كانت تصل إلى المدينة من خارجها كانت كثيرة فكان هؤلاء الحجارون يعرضون على أصحاب الجنائز وذوي الميت أحجارهم وعندما يتم الاتفاق على المبلغ يشرعون بكتابة اسم الميت على الحجر.

وتصف ديولافوا بأن هذا الطريق كان مزدحما بالزوار كذلك المدينة مما يشير إلى أنها ربما صادف زيارتها إلى كربلاء بعض الزيارات المخصوصة لأنها تقول إن هناك مخيمات كانت مملوءة بالزوار الفقراء الذين لم يكونوا يستطيعون دفع الأجور اللازمة إلى أصحاب المنازل والخانات التي كانت أيضا ممتلئة وقد اضطرت هي إلى النزول في منزل ذي حجرة ضيقة (لأن البلدة كانت تزدحم بالزوار).

ما إن استقر بها المقام في هذا المنزل حتى صعدت إلى سطحه لتشاهد القبة الذهبية للإمام الحسين والقبة المكسوة بالقاشاني الأزرق لأبي الفضل العباس (عليهما السلام) وقد عزت فترة بنائهما إلى العهد الصفوي, وفي اليوم الثاني زارت ديولافوا مع زوجها الذي كان يحمل توصيات إلى المسؤولين الحكوميين في كربلاء لتسهيل مهمته القنصل الإيراني في محل عمله وقد وعدهم بتقديم كل التسهيلات في تحقيق مطالبهم.

ثم خرجت ديولافوا لمشاهدة البلدة فمروا بمقابر متسعة كانت تظللها الأشجار الكثيرة, وهناك مقابر للكبراء والتجار والأغنياء كانت مظللة بالأشجار وقريبة من الصحن الشريف, أما قبور الفقراء فقد كانت خارج البلدة, ثم تصف ما تحتويه الحضرة المطهرة من سجاد ثمين وأوان نفيسة وهي مما يقدم من هدايا إلى الحضرة المطهرة

وتصف ديولافوا كربلاء بأنها تعد من مراكز الشيعة المهمة. وإن فيها عددا من المدارس الدينية الكبيرة التي يقضي فيها طلبة العلم عشرين سنة أو أكثر في بعض الأحيان وكانت تشاهد الطلاب من أصحاب العمائم من مختلف الأعمار أينما اتجهت من البلدة.

محمد طاهر الصفار

..................................................................................

1ــ جان مگر ديولافوا رحالة وأديبة فرنسية ولدت عام 1851 وتوفيت عام 1916       

2ــ Paris 1887 ــ La Perse, la chaldee et la susiane: Relation de voyage           

دونت ديولافوا رحلتها بالفرنسية في كتاب ضخم اسمه: (رحلة إلى إيران وكلدة والسويس) وقد تُرجمت هذه الرحلة إلى الفارسية ثم ترجم منها الأستاذ علي البصري ما يخص العراق إلى العربية وراجعها الأستاذ الدكتور مصطفى جواد وطبعت في بغداد عام (1958)

3ــ يقول الأستاذ جعفر الخليلي في موسوعة العتبات المقدسة ج 8 ص 302: (أغلب الظن إن موقع هذا الخان كان بين طويريج (الهندية) وكربلاء, فقد كان يمتد إلى جوار هذا الطريق (هور) أقام عليه سليمان باشا سدا وسمي هذا الهور بالسليمانية, ويقوي هذا الظن الطريق الذي وصفته المدام (ديولافوا) وهي مقبلة على المدينة بكونه طريقا زاهرا تحفه البساتين والحدائق, وتكتظ في جانبيه أشجار النخيل والليمون وهو وصف ينطبق على هذا الجانب الممتد من (الرجيبة) إلى كربلاء وليس بين أحد الخانات القائمة في طريق النجف وكربلاء ما ينطبق عليه هذا الوصف)  

المرفقات

: محمد طاهر الصفار