عُمق النهضة الحسينيّة وملامحها في عصر ما قبل النهضة (ج2)

تقدم الكلام في الجزء الأول عن دور الإمام الحسين عليه السلام في مواجهة خطر المخطط الأموي الساعي إلى بناء التحالفات بشتَّى الاتِّجاهات لمحق الإسلام، وكيف واجه الإمام تلك المخططات البغيضة، وبقي الكلام في عرض باقي المخططات ودور الامام في مواجهتها.

 

الغارات الإرهابيَّة الأُمويَّة على المدنيين الآمنين

لقد اقترف الأُمويون أبشع الجرائم ضد الإنسانية، وكان منها الترويع الجماعي لعشرات الآلاف من المسلمين، وقتلهم بأبشع طرق القتل.. حتَّى أن أحد القادة الأُمويين أغار من الشام على البلدات والقرى الإسلامية إلى أن وصل إلى اليمن وعاد راجعاً إلى الشام، وقد قتل في ذهابه وإيابه ثلاثين ألف مسلم! غالبيتهم من الأطفال والنساء والشيوخ! وغير بعيدة عن ذاكرة المسلمين الدامية صورة الذبح المرعب لطفلين بريئين هما ولدا عبيد الله بن العباس، وعبيد الله هذا هو ابن عمّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم .

إنّ هذه الغارات كانت إعلاناً للحرب على المسلمين جميعاً، كما كانت كاشفة عن الحقد والإرهاب الأُمويَين، بما لا يدع مجالاً للشك في أنّ هذا الحزب الأُموي لا يريد للإسلام أي خير! بل يعيث به كل شر!! والغريب المريب أنّنا وإلى يوم الناس هذا لا نسمع تبرُّؤاً من معاوية وحزبه وأفعاله في خُطَب الجُمَع والأعياد والأحاديث الدينية لمن يدّعون أنهم من أتباع السنّة والجماعة!!! والسنّة النبوية والجماعة المسلمة بَراء من القتَلة والمجرمين والإرهابيين الذين جنّدهم أبو سفيان وابنه معاوية وحزبهما الباغي الطاغي.

ولقد كان الإمام الحسين عليه السلام  في طليعة المنددين بهذه الغارات الإجرامية الإرهابية، ومن ثمَّ كان هو وأخوه الإمام الحسن المجتبى عليهما السلام  في مقدمة صفوف المجاهدين لمقاتلة أُولئك الإرهابيين فيما بعد، حتَّى صاح الإمام علي عليه السلام  بأصحابه: «اِمْلِكُوا عَنِّي هَذَا اَلْغُلاَمَ لاَ يَهُدَّنِي، فَإِنَّنِي أَنْفَسُ بِهَذَيْنِ [يَعْنِي اَلْحَسَنَ واَلْحُسَيْنَ] عَلَى اَلْمـَوْتِ، لِئَلاَّ يَنْقَطِعَ بِهِمَا نَسْلُ رَسُولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم »[18].

تطويق الفتنة الأُمويَّة النفاقيَّة في مأساة حرب الجمل

اقتضت العدالة الإسلامية التي كان يجسّدها خير تجسيد الإمام علي عليه السلام  أن لا يكون عقاب قبل الجريمة، ومع علم الإمام علي عليه السلام  بأن طلحة والزبير يريدان الغدرة ولا يريدان العمرة كما أكد ذلك لهما هو بنفسه عليه السلام [19]، إلّا أنه لم يفرض عليهما إقامة جبرية، ولا ضيّق عليهما، فضلاً عن أنه لم يقتلهما، واكتفى منهما بأن يجددا البيعة له فقط، إتماماً للحجة، وإشهاداً للتاريخ.

لكنهما وللأسف الشديد التحقا بتلك المرأة التي كانت تحرّض على الإمام علي عليه السلام ، وكان مروان بن الحكم يؤزّها أزّاً لإذكاء نار تلك الفتنة، ولم تثنها حتَّى (كلاب الحوأب) عن مسيرها المرفوض من قِبَل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  والقرآن الحكيم[20]، بل راح الأُمويون يجمعون شهود الزور ليشهدوا أن هذه الأرض التي نبحتها كلابها هي ليست أرض الحوأب، بعد أن تحققت مقولة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم  حين قال: «أيّتـكن تنبح عليها كلاب الحوأب»[21].

 لقد قام الأُمويون بدور قذر في إشعال نار الفتنة ليضربوا المسلمين بعضهم ببعض في حرب الجمل الطاحنة الضروس، وكان الإرهابي مروان بن الحكم في ساحة الحرب يطلق السهام مرة على جيش الإمام علي عليه السلام  ومرة على جيش عائشة، وحين سُئل عن ذلك أجاب بأنه عدو لكلا الفريقين، فأينما أصابت سهامه فإنه يصيب عدواً من أعدائه!! حتَّى وصل به الأمر إلى أن رمى هو بنفسه طلحة بسهم فأودى بحياته! وهذا ما تؤكده كتب التاريخ[22].

 كل هذا والإمام عليّ عليه السلام  يدعوهم بالحكمة والموعظة الحسنة لحقن دماء المسلمين، والتراجع عن إشعال نيران الحرب التي ستحرق اليابس والأخضر... ولقد كان أرسل إليهم كتاب الله (القرآن الكريم) منشوراً يحمله من جيشه بملابس السلام البيضاء رجلٌ مسلم واسمه (مسلم)، فكان اسماً على مسمّى، يدعوهم إلى الاحتكام إليه، لكنهم أبوا ورفضوا، وردّوا عليه بأن قطعوا يده اليمنى، ثمَّ اليسرى، ثمَّ قتلوه وهو صابر محتسب أعزل! ليس عنده سوى القرآن يضمّه إلى صدره ودماؤه تسيل عليه!! ويحدّثنا التاريخ عن أبيات من الرجز الشجيّ قالتها أُمّ ذريح العبدية راثيةً هذا الشهيد المظلوم:[23]

 

يا ربّ إنّ مسلماً أتاهمُ                      بمصحفٍ أرسلَهُ مولاهُمُ

للعدلِ والإيمانِ قد دعاهمُ                   يتلو كتابَ اللهِ لا يخشاهمُ

فخَضَّبوا مِن دمِهِ ظُباهُمُ                    وأُمـُّهُــمْ واقـفـــةٌ تَــراهُـمُ

تأمُرُهُمْ بالغَيِ لا تَنهاهُمُ (1).

 

 

 حملات الموت الأُمويَّة تطال المسلمات وغيرهن

ويحدِّثنا التاريخ أيضاً بكلِّ مأساوية عن حملات موت أُموية إرهابية كانت قبل صفين، انطلق فيها القادة الإرهابيون الأُمويون ليروّعوا الآمنيين في بلاد المسلمين من المدنيين العُزّل، وكانوا لا يتورعون حتَّى عن ظلم المرأة المسلمة، والمرأة المعاهدة (المسيحية أو التي على دين غير دين الإسلام) على حدّ سواء! فكانوا يسلبونهن ويعتدون عليهن!! مما حدا بالإمام علي عليه السلام  أن يخطب خطاباً مدويّاً حاكياً عن ألمه الشديد، وأسفه العميق، وعزيمته على قتال هؤلاء المجرمين، وتنديده بالمتقاعسين عن جهادهم: «هَذَا أَخُو غَامِدٍ قَدْ وَرَدَتْ خَيْلُهُ اَلْأَنبَارَ، وقَدْ قَتَلَ حَسَّانَ بْنَ حَسَّانَ اَلْبَكْرِيَّ، وأَزَالَ خَيْلَكُمْ عَنْ مَسَالِحِهَا، ولَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ اَلرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى اَلْـمَرْأَةِ اَلْمسْلِمَةِ واَلْأُخْرَى اَلْـمُعَاهِدَةِ، فَيَنْتَزِعُ حِجْلَهَا وقُلُبَهَا وقَلاَئِدَهَا ورُعُثَهَا، مَا تَمْتَنِعُ مِنْهُ إِلّا بِالاِسْتِرْجَاعِ واَلاِسْتِرْحَامِ، ثمَّ اِنْصَرَفُوا وَافِرِينَ مَا نَالَ رَجُلاً مِنْهُمْ كَلْمٌ ولاَ أُرِيقَ لَهـُمْ دَمٌ، فَلَوْ أَنَّ اِمْرَأً مُسْلِماً مَاتَ مِنْ بَعْدِ هَذَا أَسَفاً مَا كَانَ بِهِ مَلُوماً، بَلْ كَانَ بِهِ عِنْدِي جَدِيراً، فَيَا عَجَباً عَجَباً! واللهِ، يُمِيتُ اَلْقَلْبَ ويَجْلِبُ اَلْهـَمَّ مِنَ اِجْتِمَاعِ هَؤُلاَءِ اَلْقَوْمِ عَلَى بَاطِلِهِمْ وتَفَرُّقِكُمْ عَنْ حَقِّكُمْ، فَقُبْحاً لَكُمْ وتَرَحاً حِينَ صِرْتُمْ غَرَضاً يُرْمَى يُغَارُ عَلَيْكُمْ ولا تُغِيرُونَ، وتُغْزَوْنَ ولاَ تَغْزُونَ، ويُعْصَى الله وتَرْضَوْن»[24].

إنَّ هذه الحملات هي امتداد لما قام به الأُمويون سابقاً، وتبعها فيما بعد كما يحدِّثنا التاريخ مسلسل من تلك الحملات المسعورة المرعبة التي أراد بها الأُمويون إرعاب المسلمين وإرهابهم وايذاءهم من أجل تركيعهم للإرادة الأُموية، حتَّى يتسلطوا عليهم، وينهبوا خيراتهم.

بناء جيش الولاء

الإمام الحسين عليه السلام  كان يتحسّس كل ذلك، ويعمل جاهداً على أكثر من مجال، لإحقاق الحق، ودحر الباطل، هذا الباطل الذي بدأ يتعملق وقد اصطف لمؤازرته كل ذوي الشر والضلال. ومن أهم تلك المجالات؛ الدفاع عن الأبرياء في حدود دولة الإسلام من مسلمين وغيرهِم، وذلك بالوقوف مع الخط المحمدي بكل صلابة ورسوخ، ومنع هذا الإرهاب السرطاني الأُموي البغيظ من الانتشار، بفضح أهدافه الجاهلية الإجرامية، وتبصير الناس مقدار خطره الذي يهدد الوجود الإنساني إذا ما أُتيح للأُمويين الانتصار في هذه الحرب الإرهابية الظالمة.. هذا أوّلاً، والمجال الثاني هو التحشيد الدقيق لصد أُولئك القتلة المجرمين الإرهابين، وتجييش جيش يتحمل مسؤوليته الجهادية في مقاتلة الأُمويين وأتباعهم وحلفائهم الذين يمدونهم بالمال والسلاح والخبرات، ومنهم الروم الذين بأيديهم كثير من المقدرات بما في ذلك ضرب العملة النقدية من الدنانير والدراهم!!

إنّ بناء جيش كهذا من قبائل عربية مسلمة ترى الإمام علياً عليه السلام  خليفة شأنه شأن غيره من الخلفاء الذين سبقوه وليس إماماً معصوماً مُفترَض الطاعة يُعدّ أمراً في غاية الصعوبة، خاصة وإن محورية إمامة الإمام تقوم على العصمة المتمثلة بكل تعاليم القرآن والمنهج المحمدي النبوي.. فإذا لم تُطِع الأُمّة إمامَها على هذا المنوال من الطاعة، وليس على منوال خوف السيف والعقوبة، فإنّ الأُمور سوف تَفْلت من أزمّتها، خاصة وأنّ أمير المؤمنين لا يقسم الأموال إلّا بالسوية، ولا يُعاقب إلّا بعد الجريمة، ولا يتحرّك أيّ تحرك إلّا بالحق.. عندئذٍ ستصبح المعادلة مغلوطةً لدى الرعية؛ لأنهم يأخذون من الإمام علي عليه السلام  كل عدل وإنصاف وخير، ويقابلونه بالتقصير والتمرّد والتخاذل!

لقد عمل الإمام الحسين عليه السلام  بكل ما وسعه من وسائل متاحة في ذلك الظرف العسير للمساهمة في بناء جيش قوي يأتمر بأمر الإمام علي عليه السلام ، لا لخشية من انتقامه، بل اقتناعاً بوجوب نصرته، وأحقية منهجه.. جيش مُحصَّن عقيدياً، ومدرّب ميدانياً، يجمع كل المسلمين وليس مقتصراً على الموالين المشايعين الذين يعرفون للإمام حق ولايته الدينية والدنيوية، ويعتقدون بعصمته ووجوب طاعته؛ لأن أعداد الشيعة كانت قليلة جداً في ذلك الوقت، وجيل شباب المسلمين لم يعايش عصمة القائد، بل عايش سطوته وغلاظته منذ وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم  أوائل سنة 11هجرية، وإلى مقتل عثمان عام 35 للهجرة.. فنشأ جيل، بل أكثر من جيل، على تربية الحاكم الذي يضرب المسيء والبريء، ويرمي كل مَن لا يطبّق أوامره بالخروج عن الإسلام؛ لأنّه نبذ الطاعة، وشق عصا الجماعة، فيُحكَم عليه بالموت لأنه ارتكب جريمة (الحرابة)!!!

لقد عمل الأئمة الثلاثة والموالون لهم من الصحابة والمقربين على نشر ثقافة الولاء في أوساط الأُمّة المنبهرة بكمالات الإمام علي عليه السلام  وكراماته، لكنها تطبّعت سنين كثيرة على ثقافة الخلافة البشرية التي تُخطئ وتُصيب، وليس على ثقافة الإمامة المعصومة التي تصيب دائماً ولا تُخطئ أبداً.. وكان من الصعب على جموع الأُمة أن تتشرّب حقيقة أفضلية الإمام علي على أبي بكر وعمر مثلاً، فضلاً عن وجوب الاعتقاد بالإمامة باعتبارها الامتداد المعصوم لخط النبوّة!! وفي المعترك الاعتقادي لا فائدة من الانتصار العسكري على الأُمويين ما لم يكن موازياً له فَهْم حقيقة الحكم الإسلامي الصحيح؛ القائم على عصمة القائد الأعلى وإمامته، الإمامة التي هي منصب من الله الحَكَم العَدْل، يعطيه لوليّه بالحق، وأمينه في الأرض، وحجّته على العباد.

إن التثقيف على ذلك يحتاج دقة وحنكة وسعة صدر وطول علاج... وهذا كله قاده الإمام الحسين مع أبيه وأخيه في أحلك ظروف الفتن والحروب التي أجّجها الأُمويون البغاة العتاة الطغاة.

ولقد كان شر الأُمويين وإرهابهم ينصبّ على المسلمين عامة وأغلبهم الغالب لم يكن من الشيعة، فكان الإمام الحسين عليه السلام  يحشّد ويعبّئ مساهماً مع أبيه أمير المؤمنين وأخيه الإمام الحسن عليهما السلام  ومع الثلة الطيبة من صحابة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم  وتابعيهم وأبناء الصحابة وأبناء المسلمين جميعاً، ليشكِّلوا جبهة عريضة هي جبهة جيش أُمّة الإسلام بكلّه، لمناهضة ذلك الإرهاب الأُموي بقضّه وقضيضه!!

إننا إذا تأملنا في التاريخ نجد المؤرخين مشغولين بالحديث عن بعض تلك الجرائم الشنيعة المروّعة بلسان يتسامح كثيراً مع الأُمويين! بل ويمالئُهم!! بل ويترضّى عليهم!!! وما كان هواة كتابة التاريخ هؤلاء يلتفتون إلى المهام الكبرى التي قام بها الإمامان الحسنان عليهما السلام  بمؤازرة ثلة المؤمنين والمسلمين من صحابة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم  الذين نجحوا في تجييش ذلك الجيش، وكذلك استطاعوا أن يثبتوا أركان دولة الإسلام بقيادة الإمام علي عليه السلام ، وهم يقفون صفّاً واحداً جنوداً مخلصين تحت إمرته العادلة المعصومة من كل ذنب، والعاصمة من كل خطأ.

ترويع الآمنين من المسلمين وغيرهم في الأنبار

إنّ الحملات الأُموية الإرهابية ما هي إلّا جرائم موت جماعي، وإبادة عرقية بأقسى بشاعة وفظاعة، وهي صمة عار في جبين التاريخ، وشاهد على إرهاب بني أُمية ودناءتهم وهم يريدون الفتك بالمسلمين جميعاً والمسالمين، ويشيعون الدمار ببلاد المسلمين والمعاهدين، من أجل أن يتحكم آل أبي معيط وأتباعهم بمقدرات الأُمّة المسلمة، ويسرقوا أموال أبنائها ويعيشوا على جراحاتهم!

إنه الإرهاب الجاهلي الشركي يعود من جديد، يقوده رؤوس الشرك والجاهلية السابقون، وأبناؤهم المتسترون بالإسلام؛ ليحققوا غاياتهم الإجرامية، ومن غاياتهم الثأر من المسلمين وقيادتهم الدينية المتمثلة بالإمامة المعصومة..

لقد كشفت هذه الحملات عن الوجه البشع للشجرة الملعونة في القرآن، والتي أكثر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  من التنديد بها، والتحذير منها، وفضحها في مواطن عديدة، ومنها ما ينقله بعض مدوّني الحديث النبوي الشريف والمفسِّرين والمؤرِّخين، ومن تلك الأحاديث المعروفة ما جاء في كتاب (الدر المنثور): «أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل وابن عساكر، عن سعيد بن المسيَّب رضي الله عنه، قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني أُمية  على المنابر فساءه ذلك، فأوحى الله إليه: إنَّما هي دنيا أعطوها، فقرَّت عينه وهي قوله: (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِّلنَّاسِ)يعني بلاءً للناس.

وأخرج ابن مردويه، عن عائشة رضي الله عنها أنَّها قالت لمروان بن الحكم : سمعت رسول الله ـ  صلى الله عليه وسلّم ـ يقول : لأبيك وجدك: إنَّكم الشجرة الملعونة في القرآن»[25].

ويصرّح ابن حيَّان في تفسيره (البحر المحيط) أنَّ التلازم حاصل بين (بني أُمية) و(الشجرة الملعونة في القرآن)، قائلاً: «حتَّى إنَّ من المفسِّرين مَن لا يعبِّر عنهم إلَّا بالشجرة الملعونة؛ لما صدر منهم من استباحة الدماء المعصومة، وأخذ الأموال من غير حلها، وتغيير قواعد الدين وتبديل الأحكام، ولعنها في القرآن: (أَلَا لَعْنَةُ اللَّـهِ عَلَى الظَّالِمِينَ )، (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّـهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا)»[26].

وكما أسلفنا فإن تلك الحملات الوحشية المسعورة كانت لا تفرّق بين أتباع الإمام علي عليه السلام  أو أتباع أبي بكر وعمر، كما لا تفرّق بين المسلمين وغيرهم من الذين كانوا في بلاد الإسلام، وخاصَّةً في الأنبار التي كانت نقطة احتكاك مستمرة بين الأُمويين المتمترسين في الشام وبأهل الشام وبالروم وإمبراطورية القيصر، وبين المسلمين الذين ينضوون تحت راية دولة الإسلام بقيادة الإمام علي عليه السلام .

إن قراءة منصفة لما قام به الأُمويون تشير بما لا يقبل الشك إلى أنّ الأُمويين كانوا يحققون غايات الروم واليهود الذين يريدون الشرّ بالإسلام كله وبالمسلمين جميعاً، بل وصل الحد بأبي سفيان وأتباعه إلى أنهم في معركة اليرموك كانوا على تلٍّ معتزلين المعركة! بل كانوا يشجّعون الروم على المسلمين! ويتمنون النصر للروم! ويهتفون لهم وهم يكنونهم (بني الأصفر)!! وهذا ما يؤكّده عدد من المؤرِّخين والرواة، ومنهم ابن الأثير في كتابه الكامل في التاريخ: «قال عبد الله بن الزبير: كنت مع أبي باليرموك وأنا صبي لا أُقاتل، فلمَّا اقتتل الناس نظرت إلى ناسٍ على تلٍّ لا يقاتلون، فركبت وذهبت إليهم وإذا أبو سفيان بن حرب ومشيخة من قريش من مهاجرة الفتح، فرأوني حدثاً فلم يتقوني. قال: فجعلوا والله، إذا مال المسلمون وركبتهم الروم يقولون: إيه بني الأصفر! فإذا مالت الروم وركبهم المسلمون: قال: ويح بني الأصفر! فلمَّا هزم الله الروم أخبرت أبي فضحك فقال: قاتلهم الله! أبوا إلَّا ضغناً، لنحن خير لهم من الروم! وفي اليرموك أُصيبت عين أبي سفيان بن حرب»[27].

لقد بان لكلِّ متتبِّعٍ منصفٍ أنَّ بني أُمية لا يتبعون أحداً من قيادات الإسلام، ولا أحداً من خلفاء المسلمين السابقين، بل كانوا يريدون السيطرة على كلِّ الحياة الإسلامية، ومقدّرات المسلمين! ولذلك تحالفوا مع اليهود والروم!! ولم يرعوا للمسلمين إلَّاً ولا ذمَّةً!!!

 جهاد الإمامة لصدِّ الإرهاب الأُمويِّ في صفِّين

لقد جاهد الأئمة الثلاثة علي وولداه عليهم السلام  بكلِّ عزمٍ ويقينٍ أعداءَ الله والدين الأُمويين الباغين، كما جاهدهم أغلبُ صحابة النبي محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم  وحتَّى الذين كانوا من الصحابة ولم يكونوا تحت إمرة الإمام علي عليه السلام  وفي جيشه، فإنهم اعتزلوا الحرب، ولم يدخلوا فيها مع معاوية الأُموي وجيشه المضلَّل.. وقد حاول معاوية بملايين الدنانير الذهبية والدراهم الفضية استمالة ضعاف الصحابة وأبناء المدينة المنورة لكي يُخادع بهم أهل الشام، مُدّعياً أن هؤلاء هم صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، لعله يحصل على ما يوهمهم بمشروعية حربه الباغية، فيجيّش بأهل الشامات وأطرافها جيشاً مدعوماً من إمبراطورية الروم ضدّ الإسلام وضد خليفة المسلمين وإمامهم بالحق أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام .

إنّ الخداع الأُموي لأهل الشام يُعدّ بحد ذاته جريمة نكراء؛ لأنه ضلّلَ شعباً كاملاً، وكان يضرب بهم الإسلام وأهله، وهم لا يدرون مَن يقاتلون! أليس هذا إرهاباً جديداً من معاوية وحزبه الأُموي بحق أبناء الشام المغدورين؟!

وكان لهذا التضليل الأُموي تأثير كبير في تشويش الذهنية الإسلامية لدى أتباع أهل السُنَّة والجماعة، وكذلك في جعل المسلمين في الشام حيارى لا رأي لهم في هذه الفتنة العمياء، حتَّى يكونوا منقادين في نهاية الأمر للإرادة الأُموية الباغية الطاغية، التي أرادت وتريد سحق الإسلام واقتلاعه من جذوره، ولكي تتحكّم هذه الأُسرة المجرمة برقاب المسلمين، وتنتقم من هذا الدين الذي قُتل في محاربته رؤوس الشرك والجاهلية من الأُمويين وحلفائهم.

إنّ الأئمة في صفين جاهدوا ذلك الجهاد العظيم، لصدّ تلك الهجمة الإرهابية الأُموية العاتية، ورأينا كيف أن هذا الجهاد قد كلّف الإمام علياً عليه السلام  حياته، وكذلك فيما بعد عشر سنوات قد كلّف الإمام الحسن عليه السلام  حياته أيضاً، ثمَّ بعد عشر سنوات أُخرى قد كلّف الإمام الحسين عليه السلام  حياته، فذهبوا شهداء مرضيين، ومع هؤلاء الأئمة الطاهرين ذهب عدد غفير من الصحابة والتابعين ومن أبناء المسلمين شهداءَ في نصرة الحق المحمّدي المتمثل بخط الإمامة المباركة. أليس في قتل هذه الأعداد الكبيرة الكثيرة الغفيرة من الصحابة والتابعين ما يدعو إلى التنديد العلني بما فعله هذا الحزب الأُموي البغيض؟! أين إذن تنديدات خطباء منابر الجُمَع والأعياد، وإدانات المؤرّخين والكُتاب، وفتاوى فقهاء الأُمّة تحريماً وتجريماً؟!

ومن شرّ البلية الذي يُضحك ويُبكي أنّ معاوية يفرح لقتل المعروفين بالصلاح والدين من كلا معسكرَي الحرب في صِفّين، حقداً على كل ذي دين وصلاح، وحتَّى يخلو الجوّ له فلا يبقى أحد يقول: أنا صحابي صحبتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فيكون مؤهلاً لأخذ الخلافة!

 كان معاوية والأُمويون يريدون محو الإسلام، وقتل رجالات الإسلام، وكان بودّهم أن لا يبقى أحد من أُولئك الصحابة، أو من أعيان المسلمين الكبار الذين يُشار إليهم بالبنان! والدليل على ذلك أن معاوية كان قد فرح فرحاً عظيماً عندما قُتِلَ ذو الكلاع[28]، الذي كان عابداً ومعروفاً بالصلاح عند أهل الشام، ولقد ضلّله معاوية حتَّى جعله في جيشه، ثمَّ بعد ذلك عندما اقتنع ذو الكلاع أو كاد يقتنع بأن معاوية على ضلال، قُتل فابتهج هو وعمرو بن العاص بمقتله أيما ابتهاج!! ولا يظننّ أحد أننا ندّعي ذلك ادّعاءً، فهذا ما يؤكّده جمع من المؤرخين ومنهم ابن الأثير في (كامله) إذ يقول ما نصّه: «وقد كان ذو الكلاع سمع عمرو بن العاص يقول: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لعمَّار بن ياسر: تقتلك الفئة الباغية، وآخر شربة تشربها ضياح من لبن، فكان ذو الكلاع يقول لعمرو: ما هذا؟! ويحك يا عمرو. فيقول عمرو: إنه سيرجع إلينا، فقُتل ذو الكلاع قبل عمَّار مع معاوية، وأُصيب عمَّار بعده مع عليٍّ، فقال عمرو لمعاوية: ما أدري بقتل أيهما أنا أشد فرحاً، بقتل عمَّار أو بقتل ذي الكلاع، والله، لو بقي ذو الكلاع بعد قتل عمَّار لمال بعامَّة أهل الشام إلى عليٍّ»[29].

إنّ ذا الكلاع وأمثاله كانوا يعيشون الحيرة والتضليل، وربما كان مقتلهم اغتيالاً على أيدي الأُمويين حتَّى يستفيدوا من قتلهم عدة استفادات، ومنها أن قتل رجل معروف بالصلاح يكون باعثاً آخر للمتدينين الشكليين الذين كانوا في الجيش الأُموي، حتَّى يديم معاوية بهم المعركة، ويستمر في إضرائها، ومن جانب آخر فإن الجوّ سوف يصفو لأبي يزيد ولأُولئك الذين هم من الطلقاء وأبناء الطلقاء، أو من غير الطلقاء الذين يكيدون للإسلام ويحاربون الرسول صلى الله عليه وآله وسلم  ومنهجه في سالف الأيام ولاحقها.

 ضبط النفس في جريمة اغتيال الإمام عليٍّ عليه السلام

كان الإمام علي عليه السلام  يشخّص خطر الأُمويين الإرهابين على صعيد التعبئة الحربية، أو التعبئة الإعلامية، أو التعبئة في الحرب النفسية، وكان يعلم أن الدسائس الأُموية ستؤدي إلى إحداث شرخ في جيشه الذي لم يكن جيش الولاء له، بل كان جيش عامة المسلمين المنضوين تحت راية خليفة المسلمين.. ومع أن المسلمين في جيش الإمام علي عليه السلام  ما رأوا منه إلّا الصواب والحكمة، بل والعصمة في كل أقواله وأفعاله ومواقفه، إلّا أنهم لم يستطيعوا فهمَ كل ما يكتنف مصطلح (الإمامة) من معانٍ عقيدية؛ ولذلك نجد آلافاً من جيش الإمام علي عليه السلام  قد خرجوا عليه وأصبحوا يُعرَفون باسم (الخوارج)! وهؤلاء كانوا رأس حربةٍ أُموية تطعن في خاصرة الإسلام!! وخنجر غدر يتغلغل في ظهر دولة الإمام! سواء كانوا يشعرون أو لا يشعرون، يخطّطون أو لا يخططون؛ ولذلك وضع عمرو بن العاص مؤامرته المجرمة لاغتيال الإمام علي عليه السلام ، وكذلك استطاعت الأصابع الأُموية الخفية وطابورهم الخامس أن يجنّدوا مَن يقترف جريمة اغتيال الإمام من الخوارج.. وصوّر لهم عمرو بن العاص بطريقة غير مباشرة وبأيدي خفية وبمنتهى السرّية أنّ العملية هي عملية تخلّص من هؤلاء الثلاثة الذين سبّبوا الحرب بين المسلمين وهم (علي ومعاوية وعمرو بن العاص).. لكن في الواقع لم يُقتَل في تلك المؤامرة إلَّا الإمام علي عليه السلام .

 وأمَّا معاوية، فقد ادُّعي أنه أُصيب في (إليته) أسفل ظهره، وبقي يعالج ذلك الجرح حتَّى برئ، وأمَّا عمرو بن العاص فقد استطاع التخلص من تلك المؤامرة التي وضعها فلم يخرج إلى الصلاة في تلك الليلة (ليلة التاسع عشر من شهر رمضان سنة 40 للهجرة)، فجعل مكانه خادمه أو مساعده ليؤمّ الناس في الصلاة نيابةً عنه، فقُتل هذا الخادم المسمّى (خارجة) بدلاً من ابن العاص!! حتَّى قال شاعر حصيف:[30]

يا ليتَها إذ فَدَتْ عَمْراً بخارجةٍ             فدَتْ علياً بمن شاءتْ من البشَرِ(1).

 

 

وبعد اغتيال الإمام علي عليه السلام  كان التخطيط المعادي أن يموجَ المسلمون ويصبحوا في هرج ومرج بعد أن يُقتَلَ إمامهم وخليفتهم الشرعي.. لكن خط الإمام المعصوم كان حريصاً على ضبط النفس وقد أوصى الإمام علي عليه السلام  أبناءه وأبناء عمومته وباقي المسلمين بأن يضبطوا أنفسهم في تلك الفتنة الدهماء والمحنة السوداء، حتَّى قال: «يَا بَنِي عَبْدِ اَلْمـُطَّلِبِ، لاَ أُلْفِيَنَّكُمْ تَخُوضُونَ دِمَاءَ اَلْمـُسْلِمِينَ خَوْضاً تَقُولُونَ قُتِلَ أَمِيرُ اَلْـمُؤْمِنِينَ... أَلاَ لاَ تَقْتُلُنَّ بِي إِلَّا قَاتِلِي»[31].

بضبط النفس ِهذا استطاع الأئمة الكرام عليهم السلام  المحافظة على بيضة الإسلام وعلى الوجود المسلم، دون أن ينهار كل البناء بتداعيات تلك المؤامرة الخبيثة المدوّية التي كانت لها الثقل الكبير جدّاً على المسلمين جميعاً.

استُشهد الإمام، وقُتل أعلم الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ففقدت الإنسانية قائدها المعصوم ورائدها العلمي علي بن أبي طالب عليه السلام ، وكان ضحية من ضحايا ذلك الإرهاب الأُموي والتخطيط الإجرامي المتآزر مع الأُمويين... لقد ذهب الإمام علي عليه السلام  شهيداً لكنّ الوجود الإسلامي حُفظ بخط الإمامة من بعده.

وهكذا انتقلت الإمامة والخلافة إلى الإمام الحسن عليه السلام ، فبايعه المسلمون خليفةً عليهم، ولذلك فإنَّ بعض المؤرِّخين من غير الشيعة كانوا يلقِّبون الإمام الحسن عليه السلام  بـ (الخليفة الراشدي الخامس).

 التحرُّك لجهاد الإرهاب الأُمويِّ مجدَّداً

قام الإمام الحسن عليه السلام  بعد تولّيه الإمامة والخلافة بمواصلة التحرُّك الجهادي لصدِّ الإرهاب الأُموي مجدّداً، وكان جيش معاوية الأُموي يتقدم باتجاه بلدات دولة الإسلام المستظلة بظل قيادة الخلافة الشرعية، وهُدّدت بلدات عديدة على نهر الفرات، خاصَّةً في وسط العراق وشماله الغربي؛ إذ كان الأُمويون يريدون مواصلة تلك الهجمات الإرهابية والتحركات الإجرامية التي تروّع المدنيين الآمنين، فحشّد الإمام الحسن عليه السلام  جيشه، وقد سيّر أمامه مجموعة من قطعات الجيش حتَّى يمنعوا ويصدّوا ذلك الإرهاب الشرير.. وكان الإمام يقود بنفسه بقية الجيش، دفاعاً عن أُمّة الإسلام، لكنّه كان في الواقع يواجه المؤامرة الأُموية الأخبث، والتي انطلت للأسف الشديد على كثير من أفراد جيش الإمام، الذي لم يكن في أغلبه شيعياً موالياً، بل كان من عامة المسلمين غير المكترثين بمن يتولّى الخلافة! وفيهم أعدادٌ كثيرة ٌمن الخوارج، وهؤلاء نفّذوا الإرادةَ الأُموية بعلمهم أو بغبائهم، حتَّى وصلت الحال إلى أنّ الإمام الحسن عليه السلام  عُرّضَ لمؤامرة اغتيال انتهت بجرحه في رجله، فيما كان يتسرّب ويتهرّب كثير من أفراد جيشه الذين لم يكونوا يؤمنون بالإمامة والولاء العقيدي للإمام المعصوم، هربوا باتجاه معاوية الذي أغراهم بالأموال والمناصب!

وهنا ينكسر التاريخ انكسارة مخجلة جداً، وهو يرى قائد الحق كيف يُخذَل، وقادة الشرّ كيف يُصفّق لهم بحرارة، لكنها حرارة لهيب النفاق والمصالح الشخصية غير المشروعة.

 ترك الأُمَّة وخيارها ولو بالتنحِّي

 لم يجد الإمام الحسن عليه السلام  بُدّاً من العمل على حقن دماء المسلمين ليرفعَ سيوف القتل الأُموية، ويمنع خناجر الغدر المعيطية عن أبناء الأُمة الإسلامية، من خلال معاهدة كان الغرض الأساس منها، والهدف المنشود فيها، هو إبعاد الإرهاب الأُموي عن أُمة الإسلام ولو بالتنحي عن الحكم! فلذلك ترك الإمام الحسن عليه السلام  الأُمة المتقاعسة واختيارها!!

لقد جعل الأُمّة التي تخاذلت عن نصرته وتركت منهجه، جعلها أمام اختيارها وقرارها، لكنه مع ذلك أخذ العهود المؤكّدة والمواثيق المغلّظة على معاوية، حتَّى لا يروّع أبناء الأُمة الإسلامية بإرهابه البغيض!

أجل، ترك الإمام الحسن عليه السلام  الحكم، لكنه لم يترك الإمامة، ولم يترك السلطة المشروعة نهائياً؛ بل جعل شرطاً في المعاهدة على معاوية بأنّ الخلافة والسلطة من بعد موت معاوية سوف ترجعان إلى الإمام الحسن عليه السلام ، فإذا حدث بالحسن حدَث (أي: إذا استُشهِد أو مات) فإن الخلافة والسلطة ستأول بعد معاوية إلى الإمام الحسين عليه السلام .. وبذلك جعل مشروعية أُخرى لخلافة الإمام بالحق. كما قطع الطريق أمام الأُمويين، فأفقدهم أيّ غطاء قانوني أو شرعي يدعم تنصيب أحد من بني أُمية حاكماً أو خليفة بعد هلاك طاغيتهم معاوية.. وبذا استطاع الإمام الحسن سلام الله عليه أن يسحب البساط من تحت أقدام ابن أبي سفيان وحزبه، وهم يحاولون شرعنة شرّهم الذي جرّعوا الأُمّة الإسلامية زعافه القاتل، حتَّى يصفو لهم الملك.

إلى هنا تنتهي مرحلة لها أهميتها الكبرى في قيادة أُمّة الإسلام قيادةً معصومة تسلك بها مسار الهدى وسط بحر متلاطم بالفتن والحروب والانقلاب على الأعقاب.. وتبدأ مرحلة في غاية الأهمية؛ إذ يتسلّط الأُمويون على الأُمة كلّها، فيصبح إرهابهم إرهابَ دولةٍ بعد أن كان إرهاب فئة باغية في إقليم متمرّد، وإرهاب عصابات إجرامية تعتمد أُسلوب الغارات وإشعال الحروب والمكر والخداع.. إنه الملك الأُموي العضوض، بكل أدواته الإرهابية الإجرامية يضرب بجرانه على كل أصقاع البلاد الإسلامية، بعد أن تقاعست الأُمّة عن صدّه وردّه، فذاقت وبال أمرها، وتبدّى جلياً قول السيّدة فاطمة الزهراء عليهما السلام  عندما حذّرت المسلمين من استسهالهم مهادنة أوائل مغتصبي الخلافة قائلةً: «وسيعرف التالون غبَّ ما أسَّس الأوَّلون»[32].

أما الإمامة المعصومة، فكان لها في هذه المرحلة ترتيب جديد في قيادة الأُمة المسلمة، وقد اضطلع الإمام الحسين عليه السلام  بأُسلوبين من العمل استمرّ كل واحد منهما ما يقرب من عشر سنوات:

الأوّل: بمعية أخيه الإمام الحسن عليه السلام  وتحت إمامته وقيادته.

الثاني: بعد شهادة الإمام الحسن المجتبى عليه السلام ، لتكون الإمامة والقيادة بيد الإمام الحسين عليه وعلى جده المصطفى وآله أفضل الصلاة والسلام. وعن تلك المرحلة وعن هذين الأُسلوبين نأمل أن نتعرّض بحديث مفصّل في بحوث قادمة إن شاء الله.

 

 

 الكاتب: د. عبد المجيد فرج الله

مجلة الإصلاح الحسيني - العدد الحادي عشر

مؤسسة وارث الأنبياء للدراسات التخصصية في النهضة الحسينية

________________________________________

[18] نهج البلاغة: الخطبة 207.

[19] جاء في كتاب السيرة لابن حبان: ج1، ص521 ما نصّه: «... قال لهما : ارتحلا فقد بلغتكما حاجتكما فاجتمعوا مع عائشة بمكة وبها جماعة من بني أُمية...».

[20] جاء في سورة الأحزاب في الآيتين الثانية والثلاثين والثالثة والثلاثين أمر إلهي يأمر نساء النبي بأن يقرَن في بيوتهن، وأن يحذرن الذين في قلوبهم مرض، وأن يطعن أوامر الله ورسوله، ولو تمّ امتثالهن لما حدثت فتنة حرب الجمل، يقول الله عز من قائل في محكم كتابه المجيد: ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَه﴾.

[21] ابن حنبل، أحمد، مسند أحمد: ج6، ص97.

[22] جاء في كتاب تاريخ الإسلام للذهبي: ج1، ص455: «روى قتادة، عن الجارود بن أبي سبرة الهذلي قال: نظر مروان بن الحكم إلى طلحة يوم الجمل، فقال: لا أطلب ثأري بعد اليوم، فرمى طلحة بسهم فقتله...». وقد شاع هذا في مئات من كتب الحديث والسير والتاريخ، فليراجعها من أراد المزيد من التوثيق.

[23] ابن أبي الحديد، عبد الحميد، شرح نهج البلاغة: ج9، ص112.

[24] الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج5، ص5.

[25] السيوطي، عبد الرحمن، الدر المنثور في التأويل بالمأثور: ج6، ص295.

[26] ابن حيّان، محمد بن يوسف، تفسير البحر المحيط: ج7، ص369.

[27] ابن الأثير، علي بن أبي الكرم، الكامل في التاريخ: ج1، ص389.

[28] المصدر السابق: ج2، ص71.

[29] المصدر السابق: ج3، ص310.

[30] ابن خلكان، شمس الدين، وفيات الأعيان: ج7، ص217- 218.

[31] نهج البلاغة: رسالة 47.

[32] الصدوق، محمد بن علي، معاني الأخبار: ص160.

 

المرفقات