الملحمة الحسينية في الشعر الكربلائي

المائدة الثقافية في كربلاء عامرة بأنواع كثيرة من المعارف والعلوم والآداب لما تشكله هذه المدينة من إرث ديني وفلسفي وفكري كبير ناهيك عن تاريخها المشرق الذي تتوّج وتوهّج باحتضان الجسد الطاهر لسيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام) وأجساد أهل بيته الكرام وأصحابه الأبرار، ولهذا اكتسبت الحركة الثقافية في هذه المدينة المقدسة أهمية خاصة كونها تمثل الإرث التاريخي والاخلاقي لهذه المدينة.

لقد تميزت كربلاء كونها كانت مسرحاً لأروع ملحمة في التاريخ وأنصع صفحة من صفحاته عندما وقف أبو الأحرار الإمام الحسين متحدّياً الظلم والاستبداد في سبيل إحقاق الحق وإماتة الباطل، فأصبحت وقفته تلك خير درس لكل أمة تنشد الحرية والكرامة، حيث تجلت فيها أروع دروس التضحية والإباء، فبقيت حية في ضمائر الجماهير حتى في أحلك الظروف.

وقد تناول الشعراء موضوع الثورة الحسينية منذ استشهاد الإمام الحسين حتى اليوم لما تحمله هذه الملحمة الخالدة من آفاق معرفية كبيرة وأبعاد فكرية عميقة وخاضوا في تفاصيلها الإنسانية التي تنبئ بالروح الكبيرة التي يحملها الإمام الحسين (عليه السلام) وأهل بيته وأصحابه الأجلاء فنهلوا من آفاقها الرحبة، واستلهموا من عطائها الإنساني الثر وعلى مدى الأجيال المتعاقبة فبقيت هذه الملحمة كتاباً مفتوحاً مليئاً بالدروس والعبر.

وقد زخر الشعر الحسيني الكربلائي بصور الملحمة الحسينية فمثلما كانت كربلاء آهة حزينة ودمعة حَرّى فقد كانت نشيداً خالداً للشاعر الكربلائي الذي وجد في القضية الحسينية سجلاً حافلاً بالصور المجسّدة لكل ما جرى في معركة الطف، فتعدّدت المحاور والموضوعات, فإلى جانب الرثاء كانت هناك جوانب أخرى تطرق إليها الشاعر كالشجاعة والإباء والتضحية التي تجسدت في أبطال الطف كذلك التعبير عن إجلال الشعراء للإمام الحسين وبيان مكانته عند رسول الله إضافة الى الجوانب الأخرى.

كما تجلى في الشعر الكربلائي الحسيني صدق العاطفة والصور المؤثرة ففي الرثاء كان الشاعر الكربلائي يعبر عن شدة الحزن والأسى لما جرى في كربلاء فكان لهذا الشعر الرثائي صدى جماهيرياً واسعاً حينما يُلقى على المنابر لتصويره الجوانب المؤثرة فلم يشهد تاريخ الأدب العربي انسجاماً وتلاحماً بين الشاعر وجمهور المتلقين مثلما حصل في مراثي الحسين فكان ذلك مصداقاً لقول رسول الله (ص): "إن لقتل ولدي الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبداً". يقول الشاعر الشيخ محسن أبو الحب:

وكيفَ لا تحزنُ الدنيا وساكنها   ***   على مصابِ الإمامِ السيدِ البطلِ

فالركنُ يبكيه والبيتُ الحرام ومن   ***   سعى وطافَ فمن داعٍ ومبتهلِ

له الملائكُ والسبعُ الشدادُ بكتْ   ***   ومن على الأرضِ من حافٍ ومنتعلِ

هو العزيزُ الذي جبريل لازمه   ***   في مهدِهِ وكساهُ فاخرَ الحُللِ

وفطرسٌ لاذَ فيه وهو معتصمٌ   ***   بهِ فنالَ الرضى من واحدٍ أزلِ (1)

فالشاعر يشير إلى حالة الحزن التي عمّت السماء والأرض إثر مقتل الحسين وشملت الملائكة والناس والموجودات ثم يشير إلى مكانة الحسين عند الله عز وجل واحتفاء الملائكة بمولده الطاهر في إشارة إلى هول الفاجعة:

 

وهذه المكانة الكبيرة والمنزلة العظيمة للإمام الحسين عند الله كانت سبباً لذم أعدائه فقد ورد عن النبي (ص) أنه قال: (اشتد غضب الله وغضب رسوله على من أهرق دمي وآذاني في عترتي) (2)، وقد أكد الشعراء هذه الصلة لهول الجرم الذي ارتُكب بحق أبن بنت رسول الله (ص) يقول محمد حسن أبو المحاسن:

عدمناكَ من دهرٍ خؤونٍ لأهلهِ   ***   أذا ما أنقضى خطبٌ له راعنا خطبُ

على أن رزءَ الناسِ يخلقُ حقبةً   ***   ورزءُ بني طه تجدِّده الحُقبُ (3).

ويقول أحمد بن درويش على لسان السيدة الحوراء زينب مخاطبة جدّها الرسول الكريم محمد (ص):

يا جدّنا: هذا حسينكَ بالعرا   ***   فوق الصعيدِ عليه تسفي الزوبع (4)

ففي قول الشاعر (يا جدنا) و(هذا حسينك) دلالة عميقة تشير إلى فجيعة النبي (ص) بمقتل الحسين وقد جعل الشاعر من ذلك نداءً حزيناً من السيدة زينب لجدها المصطفى في إشارة الى انتهاك الأعداء لحرمات الرسول (ص).

كما حملت القصائد الحسينية أبعاداً عقائدية تتمثل في إيمان الشعراء بمنزلة الإمام الحسين وأهل بيته ووجاهتهم عند الله تعالى بوصفهم وسائل للشفاعة كما جاء في الكثير من الروايات المعتبرة يقول السيد جواد الهندي:

آبائي الأشراف هاكم قصيدة   ***   جوادية أبياتها دُرَرٌ غرُّ

وإني لأرجو أن تكونوا ذخيرتي   ***   وملجئي أن قام القيامةُ والحشرُ

عليكمْ سلامُ الله مادامت السما   ***   وما أشرقت شمسٌ وما طلعَ البدرُ (5)

وقريب من هذا المعنى قول الشاعر عباس أبي الطوس مخاطباً الإمام الحسين (ع):

فعلى قبرِك المشيدِ سلامٌ   ***   وسلامٌ عليكَ يا أبنَ الأسود (6)

ومن الصور التي كثر تجسيدها في الشعر الكربلائي حال نساء الحسين لا سيما مواقف العقيلة الحوراء وبطلة كربلاء السيدة زينب يقول الشيخ هادي الخفاجي الكربلائي:

وعليه درنَ صوارخاً ونوادباً   ***   ولنعيها قد ذاب صمُّ الجلمدِ

وأشدّها حرقاً عقيلة حيدرٍ   ***   تدعو أخاها السبط في قلبٍ صدي

مَنْ بعدَ فقدِك يا حمانا ملجأ   ***   للحائراتِ ولليتامى الفُقّدِ

من ذا ترى يحمي حماها أن غدتْ   ***   من ضربِ أعداها تدافعُ باليدِ (7)

وهناك جانب آخر في القصيدة الحسينية الكربلائية الا وهو جانب الحسرة واللوعة على ما أصاب سيد الشهداء وأهل بيته وصحبه وكأن الشاعر يريد أن يقول: (يا ليتنا كنا معكم فنفوز فوزاً عظيماً)، كما في زيارة الامام الحسين وهو يعد جانباً من جوانب الحزن العظيم على هذه الفاجعة الأليمة يقول الشيخ محمد علي كمونة:

فوا حَزَني إذْ لم أكنْ يوم كربلا   ***   قتيلاً ولم أبلغ هناك مآربي

فأن غبتُ عن يومِ الحسينِ فلم تغب   ***   بنو أسدٍ وقتَ الهياجِ أقاربي (8)

فالشاعر عندما يبدي حزنه الشديد في البيت الأول على أنه لم يكن في يوم كربلاء ولم يبلغ هناك (مآربه) في الذب عن الحسين فأنه يشعر ببعض السلو بأن أقاربه من أصحاب الحسين الأبطال كحبيب بن مظاهر ومسلم بن عوسجة وغيرهما من بني أسد الشهداء بين يدي الحسين قد حضروا يوم الحسين وبذلوا مهجهم دون أبن بنت رسول الله.

وهناك جانب آخر تناوله الشعر الكربلائي وأستمد مقوماته من النهضة الحسينية وهو مزج الماضي بالحاضر فكربلاء هي ذكرى معطرة تجول في ذاكرة التاريخ وهي عند الشعراء صارت نغماً يتردد في أشعارهم وهذا الجانب تغنى بكربلاء كونها منبع الثورات التحررية من الذل والاستعباد فهي (موطن الاحرار) و(صرخة الثوار) كما يقول الشاعر السيد سلمان هادي آل طعمة:

يا كربلاء وأنت فخر قداسةٍ   ***   يستوجبُ التعظيمَ والتبجيلا

يا موطنَ الأحرار منه تألّفت   ***   سورُ الجهادِ وفُصِّلتْ تفصيلا

وبثورةِ العشرينِ دوّت صرخةٌ   ***   قد طيّرت لُبَّ الدخيلِ ذهولا

أذ أصدرَ الليث (التقيّ ) نداءَه   ***   (فتوى) تحاكي الصارمَ المصقولا

هي صرخةُ الثوّارِ كانت رعدة   ***   تركت صروحَ الأجنبيِّ طلولا

هذي مآثر كربلاءَ وإنَّها   ***   سفرٌ يُخلد في الزمانِ طويلا

ففي هذه الأبيات إشارة واضحة من الشاعر إلى الفتوى التي أصدرها المرجع الديني الكبير الميرزا محمد تقي الشيرازي والتي قامت بمقتضاها ثورة العراق الكبرى 1920.

وتتعدد المحاور والموضوعات وتبقى القضية الحسينية المعين الذي لا ينضب بدروسها التي علمت الإنسانية الحياة الحرة الكريمة.

محمد طاهر الصفار

....................................................................

1_ ديوان أبي الحب ص 141

2_ عيون أخبار الرضا : 1/30.

3_ ديوان أبي المحاسن الكربلائي : ص 5

4_ شعراء من كربلاء ص 202

5_ ديوان السيد جواد الهندي ص 6

6_ ديوان عباس أبو الطوس 318

7_ ديوان الشيخ هادي الخفاجي الكربلائي ص 40_41

8_ ديوان أبن كمونة ص 13

تراجم الشعراء/

1_ محسن أبو الحب : ولد في كربلاء 1887م كان شاعراً خطيباً معروفاً في العراق ت 1949.

2_ محمد حسن أبو المحاسن ولد في كربلاء 1837م كان شاعراً سياسياً ت 1926.

3_ السيد جواد الهندي ولد في كربلاء من أشهر خطباء عصره ت 1914.

4_ أحمد ابن درويش ولد في كربلاء 1845م له عدة مؤلفات ت 1911.

5_ عباس أبن الطوس ولد في كربلاء 1929 ت 1958.

6_ هادي الخفاجي ولد في بغداد 1908 وعاش في كربلاء ومات فيها سنة 1992.

7_ السيد سلمان هادي آل طعمة ولد في كربلاء سنة 1935.

 

 

المرفقات