علينا أن نتّخذ من الأحوال الماضية في الدنيا مرآةً نستطيع من خلالها أن نتلمّس طريقنا للحاضر والمستقبل
يلزمنا حتّى نعتصم بالقرآن الكريم أن نتعلّم منهج القرآن الكريم ونفهمه وندرس معانيه
النص الكامل للخطبة الاولى
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان اللعين الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي ألهم الخلق أن تعبده، ووجّه الفطرة أن تثبته وتوحّده، فاستوجب الحمد بإلهامه، وضاعف به ضروب إنعامه، وأشهد أن لا إله إلّا الله أوحّده عمّن سواه، وأنزّهه عمّا لا يرضاه، وأشهد أنّ محمداً(صلّى الله عليه وآله) عبده ورسوله اختصّه بالمقام الأسمى وانتجبه للرسالة العظمى، صلّى الله عليه وآله سادة المتّقين، وأدلّة الصدق.. أوصيكم عباد الله تعالى وقبل ذلك أوصي نفسي بتقوى الله، وجاهدوا أنفسكم وأدّبوها بأدب الله وقوّموها بمواعظه وزواجره، ليغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنّاتٍ تجري من تحتها الأنهار، واعتصموا بحبل الله وتمسّكوا به مهما طرأت الطوارئ وتصرّفت الدهور وتقلّبت الأحوال، واعتبروا بالموت واستعدّوا له استعداد من أوشك على الرحيل.. أيّها الإخوة والأخوات سلامٌ عليكم جميعاً من ربّ غفورٍ رحيم ورحمةٌ منه وبركات.
في كتابٍ لأمير المؤمنين(عليه السلام) بعثه الى أحد خواصّ أصحابه وهو الحارث الهمدانيّ، يتضمّن هذا الكتاب ثلاثاً وثلاثين توصيةً دينيّة وأخلاقيّة بعباراتٍ موجزة وبليغة، وها نحن ذا نتعرّض الى فصول هذا الكتاب فصلاً فصلاً من خلال الخطبة الأولى، فيقول(عليه السلام) في وصيّته للحارث ووصيّته لنا، فهذه المجموعة من الوصايا تبيّن لنا جميعاً طريق الرشاد وكيفيّة التمسّك بحبل الله تعالى والاستعداد للموت وكيفيّة إقامة الروابط الاجتماعيّة الصحيحة، فيقول(عليه السلام): (..وتمسّك بحبل القرآن واستنصحه، وأحلّ حلاله وحرّم حرامه، وصدّق بما سلف من الحقّ، واعتبرْ بما مضى من الدنيا لما بقي منها، فإنّ بعضها يشبه بعضاً، وآخرها لاحق بأوّلها وكلّها حائل مفارق، وعظّم اسم الله أن تذكره إلّا على حقّ، وأكثرْ ذكر الموت وما بعد الموت، ولا تتمنّ الموت إلّا بشرطٍ وثيق..).
في هذا الفصل الأوّل يُبيّن الإمام(عليه السلام) في وصيّته لزوم التمسّك بحبل القرآن أي بحبل الله تعالى، في هذه العبارة أيّها الإخوة والأخوات يرشدنا الإمام(عليه السلام) الى كيفيّة التعامل مع القرآن الكريم، هل نتعامل معه على أنّه كتابٌ سماويّ نتبرّك بقراءة آياته من أجل أن ننال الثواب من الله تعالى جزاء على قراءته؟ أم نتعامل معه على أنّه كتاب هداية أنزله الله تعالى ليُبيّن لنا الطريق الأقوم والأصلح لجميع مناهج الحياة؟ الإمام(سلام الله عليه) يرشدنا الى التعامل الصحيح مع القرآن الكريم، فيقول: (تمسّك بحبل القرآن) أي اعتصمْ بحبل القرآن، والآن لنأتِ، كيف نتمسّك بحبل القرآن؟! نحتاج الى شيء من التأمّل والتدبّر في الآيات القرآنيّة التي أوضحت لنا هذا السبيل، وبيّنت أنّ هذا الكتاب السماويّ يلزمنا في التعامل الصحيح معه ثلاثة أشياء:
الأوّل: تعلّم ودراسة القرآن الكريم والتدبّر فيه.
ثانياً: تعليم الناس بمنهج القرآن.
ثالثاً: العمل به. تعلمون أنّ القرآن الكريم هو منهج هداية في جميع مجالات الحياة، ليس هناك مجالٌ من مجالات الحياة لم يُذكر في القرآن الكريم، فيلزمنا على ضوء ذلك أن لا نكتفي بقراءة القرآن الكريم بل نحتاج الى فهمه ودراسته وتعلّمه، هذا الذي نفهمه من خلال الأحاديث الشريفة، لذلك أيّها الإخوة والأخوات مع توفّر الفرصة في الوقت الحاضر لهذه الأمور الثلاثة، ما علينا إلّا أن نستثمر هذه الفرصة قبل أن نرحل عن هذه الحياة الدنيا سواء كان للكبار أو الصغار، إخواني وأخواتي لا يستحي الواحد منكم أنّه بلغ الستّين من العمر أن يتعلّم القرآن، وربّما نفسه وتسويلات نفسه تقول له: كيف تجلس مع صبيّ صغير ومع شابّ صغير في الخامسة عشرة من عمره أو في العشرين من عمره وتتعلّم القرآن؟!! هذه إحدى وسائل الشيطان لصرف الإنسان عن تعلّم الأحكام الفقهيّة والقرآن الكريم، لا ضير في ذلك إنّما العيب أن الإنسان لا يتعلّم، لا ضير أن تجلس أيّها الرجل الكبير في العمر وأيّتها المرأة الكبيرة مع صبيّ صغير أو مع شابّ صغير وتتلقّى علوم القرآن من الأستاذ والمعلّم، أو أن تسأل وتستفسر ثمّ تعمل بهذا المنهج.
لاحظوا أيّها الإخوة والأخوات أكثر الأحاديث التي وردت في بيان كيفيّة التعامل مع القرآن الكريم تؤكّد على فهم القرآن ودراسة القرآن، في بعضها قليلاً ورد لفظ "اقرأ القرآن" وفي الكثير منها وردت عبارة أخرى لابُدّ من التأمّل فيها كما في هذا الحديث الذي يجمع لنا مقوّمات الحياة السعيدة، لاحظوا إخواني (إن أردتم عيش السعداء..) أي حياة سعيدة (..وموت الشهداء..) أي الخاتمة السعيدة (..والنجاة يوم الحسرة والظلّ يوم الحرور والهدى يوم الضلالة، فادرسوا القرآن..) لم يقلْ اقرأوا فقط ادرسوا القرآن، والدراسة لا تتمّ إلّا من خلال التعلّم الذي يصاحبه الفهم والتدبّر (..فإنّه كلام الرحمن وحرزٌ من الشيطان ورجحانٌ في الميزان)، ثمّ في حديثٍ آخر (أشراف أمّتي حَمَلةُ القرآن وأصحاب الليل) حملة القرآن الذين قرأوا ودرسوا وفهموا، ثمّ في حديثٍ آخر كيف يسوقنا القرآن الى الجنّة أو كيف نجعل القرآن يأخذ بأيدينا الى الجنّة؟! وبواسطة النبيّ(صلّى الله عليه وآله) ثلاثة أشياء (ألا من تعلّم القرآن وعلّمه وعَمِل به فأنا له سائقٌ الى الجنّة ودليلٌ الى الجنّة) هذا حديثٌ عن النبيّ(صلّى الله عليه وآله) يتضمّن ثلاثة أشياء، لذلك إخواني أخواتي هذه الأحاديث والوصيّة من أمير المؤمنين(عليه السلام) يلزمنا حتّى نعتصم بالقرآن الكريم أن نتعلّم منهج القرآن الكريم ونفهمه وندرس معانيه، من خلال القناة والطريق الصحيح الذي يوصلنا الى فهم القرآن الكريم كما أراده الله تعالى، وذلك من خلال حديث الثقلين: (إنّي مخلّفٌ فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً، كتاب الله وعترتي أهل بيتي...) لذلك يقول أمير المؤمنين(عليه السلام): (وتمسّك بحبل القرآن) وإنّما يكون ذلك من خلال هذه الأمور، لذلك إخواني الفرصة الآن مواتية أن نتمسّك بحبل القرآن بقراءته القراءة الصحيحة وفهمه والتدبّر فيه وتعليمه للآخرين والعمل به.
ثمّ يقول أمير المؤمنين(عليه السلام): (واستنصحه..) أي اطلب النصيحة من القرآن، اطلب الموعظة والاعتبار من خلال الآيات القرآنيّة، وردت في الكثير من الآيات القرآنيّة النصائح والمواعظ للإنسان التي يستفيد منها في حياته الدنيويّة والأخرويّة، وطلب النصح وطلب النصيحة الصادقة لا يتمّ إلّا بالعمل، كما لو أنّك تستنصح رجلاً من أهل العقل والعلم والحكمة فإن لم تعمل بنصيحته فلا قيمة لطلب النصيحة، لذلك عبارة (استنصحه) اطلب النصيحة من القرآن واعمل بهذه النصيحة حينئذٍ تكون صادقاً في ذلك.
ثمّ قال: (وأحلّ حلاله وحرّم حرامه..) ورد في الحديث: (حلال محمد حلالٌ الى يوم القيامة وحرامه حرامٌ الى يوم القيامة)، (..وصدّق بما سلف من الحقّ) في هذه العبارة تفسيران: الأوّل أنّه صدّق التصديق العلميّ والعمليّ بما ورد في الآيات القرآنيّة من حكاية الأمم والأقوام الماضية، حيث أنّه حكى لنا القرآن الكريم الكثير من أحوال الأمم الماضية والأفراد أيضاً، كيف أنّ البعض منهم انتهت به الحياة الى الشقاوة والتعاسة، وكيف حلّت العقوبة الإلهيّة بالأمم والأقوام الذين عصوا الله تعالى وعصوا النبيّ وارتكبوا الكثير من المعاصي، لا يقول القائل نحن مصدّقون بالنبيّ(صلّى الله عليه وآله) والأئمّة الأطهار، ربّما الإنسان يصدّق ولكن يرتكب بعض المعاصي التي ورد ذكرها في القرآن الكريم، يرتكب الظلم والاعتداء والتجاوز على الآخرين، هذه نحن علينا أيضاً أن نتّعظ ونعتبر بها، ونصدّق بها وبنتائجها وعواقبها، وحينئذٍ هذا التصديق يتطلّب منّا أن ننتهي عن الظلم وعن التجاوز وعن الاعتداء على الآخرين وعن ارتكاب المعاصي، فإنّه سيحلّ بالفرد والمجتمع ما حلّ بالأمم السابقة من نزول العقوبات الإلهيّة، إذا قرأت في آيةٍ من الآيات القرآنيّة أنّ قوماً من الأقوام الماضية ارتكبوا المعصية الفلانيّة وحلّ بهم العذاب والعقاب الإلهيّ الفلانيّ أنت أيضاً التفت ربّما تكون واقعاً في نفس المعصية، ترقّب أن تنزل عليك العقوبة الإلهيّة، لذلك يقول أمير المؤمنين(عليه السلام): (صدّق بما سلف من الحقّ) أي الحقائق التي يسردها القرآن الكريم ويبيّنها نحتاج فيها الى الاتّعاظ والاعتبار بها حتى لا نقع في نفس ما وقعت به الأمم الماضية، كما ورد أنّ الحقائق التي كانت للأمم السابقة تجري على الأمم الحاليّة، وبالتالي نحوّل هذه القصص الى عبرة كما ورد في بعض الآيات القرآنيّة (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ) هذه القصص القرآنيّة ليست هي لمجرّد السرد التاريخي (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ) هذه عبرةٌ وعظة ودرس نتعلّم منه لحاضرنا ومستقبلنا لأجل أن لا نقع في المعاصي التي وقعت فيها الأمم السابقة، حتّى لا يحلّ بنا ما حلّ بهم من العقوبات الإلهيّة.
ثمّ يقول(عليه السلام): (واعتبر بما مضى من الدنيا لما بقي منها فإنّ بعضها يشبه بعضاً) يعني أنّ الدنيا التي مضت وأيّامنا وسنيننا لابُدّ أن نأخذها درساً وعبرةً، ما كان من القواعد الحاكمة على مسيرة الدنيا والتاريخ في السابق يجري في الحاضر والمستقبل، ونذكر هذا من باب الأمثلة أنّه حينما يكون هناك إنسان ظالم أو حاكمٌ ظالم كيف أنّه بعد سنين -وإن طالت- عاقبه الله تعالى، كذلك جميعاً حاكمٌ أو شخصٌ إذا صدر منه ظلمٌ للآخرين كيف أنّه بعد سنين حلّت به العقوبة الإلهيّة، وكيف أنّ المؤمن المُبتلى بعد فترة سينتهي بلاؤه، وتنتهي أيّامٌ من الرخاء والتسلّط للحاكم الظالم تنتهي في مقابلها أيّام للمؤمن المُبتلى ثمّ يفرّج الله تعالى عنه، كيف أنّ هذه الدنيا تغيّرت وغدرت بأصحابها والذين ركنوا اليها، ينبغي للإنسان أن لا يغترّ بالدنيا وما لديه من سلطة من قوّة من مال من جاه وهذه الأمور الأخرى لا يغترّ بها، فإنّ هذه الدنيا سريعة التقلّب والتبدّل والتغيّر، فلابُدّ أن يعتبر بها الإنسان، وكيف أنّ الإنسان حينما واجه المشاكل والصعوبات البعض استطاع أن يتغلّب عليها وينجح والبعض فشل، نتعلّم من هذه الدروس التي مرّ بها الآخرون وأنا أيضاً مررت بها، وكلّ واحدٍ منكم إخواني مرّ بتجارب في حياته السابقة في الدنيا عليه أن يتعلّم منها لحاضره ومستقبله ويستطيع خلال هذه التجربة أن يتغلّب على المصاعب ويحقّق النجاح له، فيقول(عليه السلام): (واعتبر بما مضى من الدنيا لما بقي منها) كما يقولون: التاريخ يعيد نفسه، القواعد التي تحكم مسيرة التاريخ في السابق تحكم حاضرنا وتحكم مستقبلنا، وعلينا أن نتّخذ من الأحوال الماضية في الدنيا مرآةً نستطيع من خلالها أن نتلمّس طريقنا للحاضر والمستقبل، لذلك الإمام(عليه السلام) يقول: انظر فيما مضى من الدنيا واعتبرْ به لما بقي من حياتك، حتى تستطيع أن تنجح في هذه الحياة وتتجاوز ما حصل من فشلٍ فيما مضى من حياتك (واعتبرْ بما مضى من الدنيا لما بقي منها، فإنّ بعضها يُشبه بعضاً، وآخرها لاحقٌ بأوّلها وكلّها حائلٌ مفارق) أي زائل، أحوال الدنيا سواءً كانت ممّا هو في مصلحة الإنسان أو ليس في مصلحته، ممّا هو ملائم له أو ليس بملائم، كلّها ستزول وتنتهي.
ومن جملة التوصيات لأمير المؤمنين(عليه السلام): (وعظّم اسم الله أن تذكره إلّا على حقّ) المراد من تعظيم اسم الله هو الاحتراز عن القسم بالله تعالى في غير موارد الضرورة وفي غير موارد الحقّ، التفتوا إخواني لو أنّ كلّ واحدٍ منّا يُراجع نفسه سيُلاحظ أنّه كثير القَسَم والحلف بالله تعالى، سواءً كان في موارد الضرورة أو موارد الحقّ أو في غير موارد الضرورة من الأمور الجزئيّة في الحياة والأمور البسيطة والتافهة، وأحياناً يُقسم بالله تعالى كذباً وهذا حرام، وأحياناً يقسم بالله تعالى من أجل حطام الدنيا ومن أجل بضعة دنانير، هذا نلاحظه عند البعض من الكسبة من التجّار يُقسم بالله تعالى، تارةً لا حاجة للقسم وتارةً يقسم كذباً من أجل أن يربح شيئاً من حطام الدنيا، الله تعالى الخالق العظيم بصفاته العظيمة نزّهْه عظّمْه من أن تجعله على طرف لسانك، كما يُقال عند البعض أنّه جعل الله تعالى على طرف لسانه، يتكلّم خمس دقائق فنُحصي له عشر مرّات أو عشرين مرّة -من باب المثال- يُقسم بالله تعالى، يقول: لا.. أنت مؤمنٌ فأعطِ لله تعالى عظمته وجلاله وكبرياءه، (وعظّم اسم الله أن تذكره إلّا على حقّ، وأكثرْ ذكر الموت وما بعد الموت، ولا تتمنّ الموت إلّا بشرطٍ وثيق) الإمام(سلام الله عليه) هنا يحثّ على الإكثار من ذكر الموت، كيف؟ إخواني وما هي المعطيات للإكثار من ذكر الموت؟:
أوّلاً: يجعل الإنسان يزهد في الدنيا ولا يتعلّق بالدنيا التي هي أساس المصائب والمشاكل والمعاصي (حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة)، ذكر الموت يجعل الإنسان يزهد في الدنيا ولا يرغب فيها بل يرغب في الآخرة ويستعدّ لها ويتجنّب المعاصي والذنوب والآثام ويتجنّب الظلم والتجاوز على الآخرين، لأنّه يتذكّر أنّه بعد لحظات ربّما يرحل عن هذه الحياة الدنيا فيتجنّب بعض العادات السيّئة من الحرص والبخل والشحّ وغير ذلك من هذه الأمور، ذكر الموت فيه فوائد كثيرة والإكثار منه فيه فوائد عظيمة، ما هي الطرق إخواني للإكثار من ذكر الموت؟ كلّنا إخواني في الشهر مرّات متعدّدة نمشي خلف جنازة، لا ينشغلْ أحدكم حينما يمشي خلف جنازة بأمور الدنيا والحديث بأمور الدنيا، أنت الآن حينما تمشي خلف جنازة تذكّر أنّه ربّما الله تعالى قدّر لك -أطال الله في أعماركم جميعاً- قدّر لك أنّه بعد ساعة بعد يوم تُحمل على نفس الجنازة هذا ليس ببعيد، حينما تدخل مجلس فاتحة لا تنشغلْ بالحديث في أمور الدنيا تذكّر أنّه ربّما بعد يوم يُقام لك مجلس فاتحة وهذا ليس ببعيد -أطال الله في أعمار الجميع- لأنّ هذا الإنسان مثلنا ونحن نتعرّض للموت أيضاً لا أحد يمكنه أن يهرب من الموت، تذكّر حينما تقرأ الآيات القرآنيّة التي تتعرّض للموت أنّك بعد قليل ستموت، كلّ إنسان لا يعلم متى يحين أجله، ربّما -كما بيّنت لكم- الآن الإنسان بيننا ولكن بعد ساعات وبعد يوم يُحمل على الجنازة ويُقام له مجلس الفاتحة، يُتَرحّم عليه ويُذكر على أنّ هذا الإنسان ميّت، يتذكّر تذكّراً عمليّاً يؤدّي به الى أن لا يتجاوز على الآخرين، ليس فقط التذكّر في الذهن والقلب، لابُدّ أن يتجاوز الى مجال العمل إذا كانت هناك حقوق لله تعالى عليه يؤدّيها، إذا كانت لديه ذنوب يسارع الى التوبة، إذا كانت هناك حقوق للناس يسارع الى أدائها للناس، إذا كان يرتكب معصية يُقلع عن هذه المعصية، إذا كان لديه ظلم يتجنّب هذا الظلم ويحاول أن يتحلّل من الذين ظلمهم، وهكذا هذه الأمور المطلوبة من ذكر الموت والإكثار من ذكر الموت والاستعداد لما بعد الموت.
لذلك يوصينا أميرُ المؤمنين(عليه السلام)، إخواني ليس من الصحيح هذه مجالس الفاتحة إنّما يُراد منها قراءة القرآن وإهداء ثواب هذا القرآن الى الميّت، يُراد منها نفعُ الميت يُراد منها الاتّعاظُ والاعتبار أنّه ربّما أنت سيحلّ بك مثلما حلّ بهذا الإنسان الذي كان قبل يوم أو ساعات بيننا، نعتبر من هذه الحالات فلابُدّ إخواني أن ننبّه الى هذه الحالة، يتحوّل مجلس الفاتحة الى قراءة القرآن الكريم بدلاً من الحديث في أمور الدنيا، وربّما أحياناً في مجلس الفاتحة البعض يغتاب إخوةً له أو تحصل نميمة أو يحصل طعن أو افتراء، بدلاً من أن يكون هذا مجلس الفاتحة مجلس يُهدى فيه الثواب للمتوفّى ويحصل من يحضر الفاتحة على الثواب لقراءته الآيات القرآنيّة يتحوّل ربّما الى مجلس فيه معصية وليس فيه اعتبار بالموت.
لذلك لدينا حالات كثيرة وينبّه الإمام(سلام الله عليه) من خلال مصاديق كثيرة منها قراءة الآيات القرآنيّة والاعتبار بمن مضى من الناس (وأكثرْ ذكر الموت وما بعد الموت ولا تتمنّ الموت إلّا بشرطٍ وثيق) يعني الإنسان لا يتمنّى الموت وهو ليس له الاستعداد بالأعمال الصالحة والعبادة التي تحقّق له الذخيرة الى ما بعد الموت والى الآخرة، من دون أن يكون هذا الاستعداد لا تتمنّ الموت بل استعدّ له، ثمّ قال(عليه السلام): (واحذرْ كلّ عملٍ يرضاه صاحبُه لنفسه ويُكره لعامّة المسلمين) إخواني ثلاث قواعد هنا يذكرها الإمام(عليه السلام) في كيفيّة التعامل مع الآخرين، أوّلها أنّه أحياناً الإنسان يعمل أعمالاً يرتضيها لنفسه ولكن لا تُقبل ولا ترتُضى لعامّة الناس وعامّة المسلمين، إخواني لاحظوا هذه القضيّة كيف يرتضيها لنفسه، أحياناً هذا العمل فيه منفعةٌ شخصيّة ومصلحة شخصيّة فيعملها هذا الإنسان جلباً للمصلحة والمنفعة الشخصيّة، ولكن فيها ضررٌ وإيذاءٌ لبقيّة المسلمين وبقيّة الناس، الإمام يحذّرنا يقول: انتبهْ احذرْ من هذا العمل الذي ترضاه لنفسك لأنّه يجلب منفعة ومصلحة شخصيّة لك ولكن فيه ضررٌ وإيذاء للآخرين فيكون مكروهاً من قبل الآخرين، -نسأل هذا السؤال- إذا كان هذا العمل يقوم به الغير هل أنت ترضاه منه؟! إذا كنت لا ترضاه منه، فكيف ترضاه لنفسك؟!! ونشاهد لهذا مصاديق كثيرة فالبعض –مثلاً- يتجاوز في البناء لنفسه على حقوق الآخرين على الرصيف أو على الشارع، والبعض يؤذي الآخرين ويؤذي العامّة برمي الأوساخ وغير ذلك من الأمور في الطرق العامّة، والبعض يتجاوز على الآخرين بالكلام البذيء والكلام الذي فيه جرحٌ للمشاعر، الإمام(عليه السلام) يقول: اجعل نفسك بينك وبين الناس ميزاناً، كيف أنّك لا ترضى هذا العمل للآخرين وهو يُكره من الآخرين أنت أيضاً اكرهْه لنفسك، لذلك إخواني كيفيّة هذه العلاقة والارتباط والتعامل مع الأعمال والأشياء والأفعال التي تصدر منّا، الإمام(عليه السلام) يقول: احذرْ كلّ عملٍ ترضاه لنفسك ويُكره لعامّة المسلمين، ترضاه لأنّه يجلب منفعةً ومصلحةً شخصيّة، والمؤمن الحقيقيّ الصادق يؤثر مصالح الآخرين على مصلحة نفسه، نعم.. لو تطابقت وتواءمت مصلحته مع مصالح الآخرين لا مشكلة في ذلك، إنّما المشكلة في ما فيه مصلحةٌ لنفسه ويتعارض ويتنافى مع مصالح الآخرين، لذلك انتبهوا وهذه قاعدة عامّة إخواني فالأمثلة كثيرة إنّما ذكرت بعض الأمثلة، كلّ عملٍ تقوم به انظرْ اليه هل هو مقبولٌ من الآخرين أم لا؟ وفق الموازين الصحيحة، إن لم يكن مقبولاً انتبهْ واحذرْ منه، وإنْ كانت فيه حاجةٌ لك لأنّه يجلب مصلحة ومنفعة شخصيّة لك، طالما يضرّ بمصالح الآخرين ويؤذيهم ويضرّهم، فإذا كنت موالياً حقّاً لأمير المؤمنين(عليه السلام) عليك أن تعمل بنصائحه ومواعظه وتتجنّب كلّ عملٍ وإن كانت فيه مصلحةٌ شخصيّة أو منفعة شخصيّة لك، ولكنّه يضرّ مصالح الآخرين ومكروه منهم فاجتنبْ واحذرْ هذا العمل، حينئذٍ تكون من الموالين حقّاً لأمير المؤمنين(عليه السلام).
نسأل الله تعالى أن يوفّقنا للعمل بهذه النصائح والمواعظ إنّه سميعٌ مجيب، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمد وآله الطيّبين الطاهرين.
اترك تعليق