الخطبة الدينية بإمامة الشيخ عبد المهدي الكربلائي بتاريخ ( 11جمادى الآخرة 1438هـ الموافق 10/ 3/ 2017م)

اهتمّ الإسلام اهتماماً بالغاً بحقوق الجوار ومن الواجب مراعاة هذه الحقوق

المتّقي يعترف بالذنب أو الخطأ أو التقصير الذي صدر منه وإن كان في هذا الاعتراف ضررٌ عليه

النص الكامل للخطبة الاولى

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان اللعين الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي يُجيبُ المضطرّ إذا دعاه، ويكشف السّوء عمّن ضرع اليه فناداه، ويحقّق الأمل لمن انقطع اليه فرجاه، راحم العبرة، ومقيل العثرة، له العزّة والقدرة، وأشهد أن لا إله إلا الله عالم الغيب والشهادة، هو الرحمن الرحيم، وأشهد أنّ محمداً(صلّى الله عليه وآله) عبده ورسوله الذي أوجب له الطاعة، وحباه بالكرامة، واختصّه بالكتاب، صلّى الله عليه وعلى آله ساداتِ المتّقين، الذين اصطفاهم على علمٍ على العالمين.. أوصيكم عباد الله تعالى وقبل ذلك أوصي نفسي بتقوى الله تعالى والتدبّر في آياته والتمسّك بحبله المتين، والاستماع لمواعظه التي أوضحت الطريق لكلّ ذي بصر، وأنارت السبيل لمن يبتغي الهدى وأقامت الحجّة الواضحة، فطوبى لمن أصغى اليها بسمعه وعقلها بلبّه ثمّ اتّخذها منهاجاً لعمله، يسير على رشدها ويهتدي بضوئها أولئك الذين استحقّوا البشرى من الله سبحانه وتعالى حيث يقول: (فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ) فطوبى لمن حضر فاستمع وعقل فانتفع واعتبر فاتّبع..

أيّها الإخوة والأخوات سلامٌ عليكم جميعاً من ربٍّ رحيمٍ غفور ورحمةٌ منه وبركات، ما زلنا في بيان أوصاف المتّقين وخطبة أمير المؤمنين(عليه السلام) في بيان صفاتهم، فمن جملة صفات المتّقي ما ذكره أميرُ المؤمنين(عليه السلام) بقوله: (يَعْتَرِفُ بِالْحَقِّ قَبْلَ أَنْ يُشْهَدَ عَلَيْهِ، لاَ يُضَيِّعُ مَا اسْتُحْفِظَ، وَلاَ يَنْسَى مَا ذُكِّرَ، وَلاَ يُنَابِزُ بِالألْقَابِ، وَلاَ يُضَارُّ بالْجارِ، وَلاَ يَشْمَتُ بالْمَصَائِبِ، وَلاَ يَدْخُلُ فِي الْبَاطِلِ، ولاَ يَخْرُجُ مِنَ الْحَقِّ. إِنْ صَمَتَ لَمْ يَغُمَّهُ صَمْتُهُ، وَإِنْ ضَحِكَ لَمْ يَعْلُ صَوْتُهُ، وَإِنْ بُغِيَ عَلَيْهِ صَبَرَ حَتّى يَكُونَ اللهُ هُوَ الَّذِي يَنْتَقِمُ لَهُ...) الى آخر الصّفات، ونذكر في هذه الخطبة شرحاً لبعض هذه الصفات.

(يعترف بالحقّ قبل أن يُشهَدَ عليه) يعني أنّ الإنسان المتّقي إذا كان هناك حقّ لأشخاصٍ آخرين، حقّ ماليّ أو معنويّ فإنّه يشهد بهذا الحقّ ويعترف بهذا الحقّ ولو كان هذا الاعتراف يسبّب ضرراً ماليّاً أو معنويّاً له، وقبل أن يُشهَدَ عليه وقبل أن يحتاج صاحبُ الحقّ الى أن يذهب الى المحكمة والى القاضي ويشتكي أو يذهب الى شخصٍ ذي وجاهة أو رئيس عشيرة أو أشخاصٍ آخرين ويأتي بالشهود لكي يثبت حقّه وينتزع حقّه، المتّقي هو الذي يعترف بهذا الحقّ ويؤدّي الحقّ الى صاحبه قبل أن يضطرّ صاحبُ الحقّ الى أن يلجأ الى هذه الوسائل، لذلك أيّها الإخوة والأخوات إذا أردتم أن تصبحوا من أهل التقوى فاتّصفوا بهذه الصفة.

والآن لننظر ما هي موارد الحقّ التي يعترف المتّقي بها قبل أن يُشهَدَ عليه، من جملة ذلك -بعضها خافٍ علينا- مسألة الاعتراف بالتقصير والخطأ والذنب، أحياناً إنسان يحصل منه تقصير، يحصل منه ذنب، يحصل منه تجاوز، يحصل منه خطأ لا يعترف به أمام الآخرين، وقد يتّهم شخصاً آخر بهذا الخطأ والتقصير ويترتّب ضررٌ عليه، وهذا الشخص الذي ارتكب الخطأ أو التقصير لا يعترف لأنّه قد يترتّب الضرر عليه فلا يعترف به، أمّا المتّقي يعترف بهذا الذنب أو الخطأ أو التقصير الذي صدر منه وإن كان في هذا الاعتراف ضررٌ عليه، ولا يحتاج الآخرون الى أن يأتوا بالشهود لكي يشهدوا على هذا الإنسان بأنّه قد ارتكب هذا التقصير أو هذا الخطأ، أو أنّه كان هناك حقٌّ ماليّ لشخص آخر فهذا الإنسان المتّقي يأتي ويعترف بهذا الحقّ قبل أن يحتاج صاحب الحقّ -كما ذكرنا- يذهب الى المحكمة ويكلّف محامين ويبذل أموالاً والنزاع يستغرق سنين وربّما تحصل منه مشاكل ونزاعات وأحقاد، هذا الإنسان يأتي ويعترف بالحقّ وإن كان هذا الاعتراف بالحقّ يسبّب ضرراً له.

وأحياناً هناك اختلافات في الرأي والفكر هذا الإنسان يأتي ويعترف يقول: أنا أخطأت في هذا الرأي أخطأت بهذه الفكرة وإن كان ذلك يترتّب عليه ضررٌ معنويّ من جهة تقليل وجاهته ومكانته إلّا أنّه يأتي ويعترف بذلك قبل أن يُشهد عليه بأنّه قد أخطأ، بل أيّها الإخوة والأخوات إذا أردتم أن تكونوا من أهل التقوى والإيمان فالمتّقي هو يبادر، قد يكون هناك شخصٌ له حقّ وهو خافٍ عليه لا يدري به ولا يعرف أنّ هذا الحقّ له، الإنسان المتّقي هو يبادر ويأتي الى صاحب الحقّ ويقول له أنت لك حقّ عليّ ويُعطيه هذا الحقّ، قبل أن يمضي الزمن ثمّ ينكشف الحقّ ويحتاج هذا الإنسان -صاحب الحقّ- الى أن يشهد عليه ويثبت بالشهود، يأتي هذا الإنسان المتّقي يبادر ويُسارع الى صاحب الحقّ ويقول لك حقّ عليّ وأنا أُعطيك هذا الحقّ، قبل أن يضطرّ صاحبُ الحقّ الى أن يتكلّف ويبذل مالاً من أجل أن يثبت هذا الحقّ له، لذلك يقول الإمام(عليه السلام) في بيان صفة المتّقي من بعض صفاته (يعترف بالحقّ قبل أن يُشهَدَ عليه).

ثمّ قال: (لا يُضيّع ما استحفظ) أيّها الإخوة والأخوات هذه العبارة القصيرة فيها الكثير من المعاني والصفات التي ينبغي الالتفات اليها، الآن أوّلاً لنعرف معنى العبارة، أنّ الإنسان المتّقي لا يُضيّع ما أمر اللهُ تعالى به المؤمنَ أن يحفظه، ما هي الأمور التي أمرنا الله تعالى بحفظها؟! الآن نفصّل حتى نعرف كيفيّة الحفاظ على هذه الحقوق، أوّلاً مسألة الصّلاة والطاعات التي أمرنا الله تعالى بحفظها، لاحظوا الآية الكريمة (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَىٰ) وكذلك باقي الطاعات مثل الصيام والحجّ وغيرها، والآن لنعرف ما معنى الحفاظ على الصلاة؟ الحفاظ على الصلاة تعني الحفاظ على أدائها في أوّل وقتها والحفاظ على مقدّماتها والحفاظ على شرائطها والحفاظ على حدودها والحفاظ على آدابها، أن نأتي بالصّلاة من خلال مقدّماتها المشرّعة ومن خلال أركانها، والحفاظ على الإخلاص فيها، في قبال ذلك تضييع الصّلاة التي هي صفة ربّما عند الكثير وهو غير ملتفت اليها، عند البعض أنّ مسألة ترك الصلاة فيه مشكلة كبيرة ولكن بالنسبة لنا تضييع الصلاة فيه مشكلة كبيرة (فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ) الذين يضيعون الصلاة الذين لا يُحافظون على أدائها في أوّل أوقاتها ولا يحافظون على حدودها، هو يصلّي ولكن لا يُبالي ولا يكترث حتّى إذا جاء بها متأخّرة، أو هو جاء بها في أوّل وقتها لكن لم يراعِ حدودها وشرائطها كما ينبغي، هذا من المضيّع للصّلاة.

لاحظوا أيّها الإخوة والأخوات إن حافظتم على الصلاة بالمعنى الذي ذكرناه ولم يحصل التضييع لها، ما هي البشارة لكم؟ لاحظوا في هذه الآيات (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ) ما هي بشارتهم؟ (أُولَٰئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ) ماذا يرثون؟ (الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ..) أي جنّة الفردوس، هل يحبّ الواحد منكم أن يكون في الآخرة من أصحاب جنّة الفردوس؟! حافظوا على الصلاة بالمعنى الذي ذكرناه (أُولَٰئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)، أمّا جزاء من يضيّع الصّلاة (فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ) هذا في قبال الحفاظ، أيضاً الحفاظ على الصّوم بأحكامه والحفاظ على الحجّ وبقيّة العبادات.

الأمر الآخر من الأمور التي وردت في هذه الصفة هو عدم تضييع أو حفظ الأمانات الماليّة والأعراض، أموال الناس التي هي أمانات عندنا والأمور التي نستعيرها من الآخرين هذه ممّا يجب الحفاظ عليه وعدم تضييعه، أعراض الناس -إخواني- هذا الجار عِرضُه يجب عليّ أن أحافظ عليه، إذا غاب عنّي فعِرضُه أمانةٌ في عنقي، هذا صديقي هذا أخي إذا غاب عن عائلته عِرضه أمانةٌ في عنقي، أحياناً نسمع أنّ هذه الأمانة لا يُحافَظ عليها، هذا الإنسان جار أو أخ مؤمن أو صديق أو إنسان ليس بصديق ولا أخ بل إنسان من عامّة الناس غاب عن أهله وغاب عن عياله، هذا الإنسان لا يُحافظ على هذه الأمانة التي هي عِرض هذا الإنسان فيعتدي عليه، هذه من الأمور التي يجب الحفاظ عليها.

الأمر الآخر وهو مهمّ -التفتوا اليه أيّها الإخوة والأخوات- ممّا ينبغي الحفاظ عليه وهي مسألة الأسرار، والأسرار فيها وجوه متعدّدة، منها: الأسرار العسكريّة الأسرار الأمنيّة فعلى الإنسان أن يُحافظ عليها ولا يضيّعها ويفرّط بها، أو الأسرار الوظيفيّة إذا كان إنسانٌ موظّفٌ في دائرة ما وهناك أسرار في هذه الدائرة عليه أن لا يبوح بهذه الأسرار وعليه أن يحافظ عليها، ربّما في يومٍ من الأيّام باح بهذه الأسرار ووصلت هذه الأسرار الى شخصٍ كان صديقاً له ثمّ أصبح عدوّاً له بعد أن اختلف معه، سيكشف هذه الأسرار ويضرّه ضرراً كبيراً، كذلك الأسرار العائليّة -إخواني- هذه علينا أن نراعي حفظها، أيّها الأب أيّها الزوج لا تبُحْ بأسرار عائلتك، أيّتها المرأة أيّتها الزوجة لا تبوحي بأسرار زوجك وعائلتك وما يجري في داخل العائلة، ربّما في يومٍ من الأيّام -أيّها الرجل- فلان الذي بُحْتَ له بأسرار عائلتك والزوجة التي باحت بأسرار عائلتها الى المرأة الفلانيّة ربّما حصل خلاف ونزاع فيما بينهم وأصبحت هناك عداوة فكُشِفت وأُظهرت هذه الأسرار الى الآخرين وفيما بعد أضرّ به كثيراً، أيّها الشاب أيّها المراهق أيّتها البنت في العائلة هناك أسرار عائليّة لا تبوحي بهذه الأسرار، أيّها الشاب لا تبُحْ بأسرار عائلتك الى أصدقائك فربّما في يومٍ من الأيّام ستُكشف هذه الأسرار ويلحق بك الضرر.

والآن أيّها الإخوة والأخوات نلتفت الى هذه القضيّة أصبح كشف الأسرار من خلال الحديث بها في وسائل التواصل الاجتماعي من أشدّ الأخطار، قبل وجود هذه الوسائل الإنسان كان يتحدّث عن أسرار عائلته أمام الآخرين أمام شخصٍ أو شخصين الآن حينما يتحدّث عنها أمام صديقٍ ائتمنه أو تحدّثت البنت مع صديقة ائتمنتها أو تحدّثت الزوجة مع صديقةٍ ائتمنتها وانتشرت ضمن ما يُسمّى بالكروب أو ضمن الجماعة الذين بينهم تواصل في هذه الصفحات، فيما بعد كشفت هذه الأسرار للآخرين، هذه الأسرار العائليّة ينبغي أن تُحفظ، أيضاً من جملة الأسرار -هذا أمر آخر- أسرار المجالس والأحاديث، ما المقصود بذلك؟ هذا أيضاً ممّا ينبغي أن نحفظه، الواحد منّا يجلس وسط مجموعةٍ من أصدقائه فيتحدّث ببعض الأسرار الخاصّة به وهو لا يلتفت أنّ واحداً من هؤلاء ربّما أفشى هذه الأسرار الى شخصٍ آخر وهو قد ائتمن مَنْ كان جالساً معه في هذا المجلس فتُكشف هذه الأسرار، وينقل هذا الكلام أحدُ الأشخاص في المجلس الى شخصٍ آخر فيوقع الفتنة والعداوة ويسبّب ضرراً للذي تحدّث بها، لذلك على الإنسان حينما يجلس في بعض المجالس أن ينتبه ويلتفت من هم الجالسون حوله، هل هو يثق بهم؟ هل أنّه في يومٍ من الأيّام إذا عادى أحدهم سيُحافظ ويكتم أسراره أم يبوح بها ويسبّب له ضرراً؟!! لذلك أيّها الإخوة والأخوات هذه مجموعة من الأمور التي استُحفِظْنا عليها وأمرنا الله تعالى بأن نحفظها ولا نقصّر في حفظها، وهي أماناتٌ عندنا علينا أن نحافظ عليها، لذلك يقول(عليه السلام) من جملة صفات المتقين (ولا يُضيّع ما استُحفظ).

ثمّ قال: (ولا يَنسى ما ذُكّر) من الأمور التي ينبغي للإنسان المؤمن هو ما يذكّره الله تعالى لعباده في الآيات القرآنيّة، من قصص الأمم الماضية من الحكم من الأمثال من العبر، الإنسان المؤمن لا يمرّ عليها مرور الكرام بل يتوقّف عندها ويحفظها في ذاكرته، ودائماً يضعها في هذه الذاكرة ويستذكرها دائماً حينما يحتاج اليها، أو أنّ أستاذه أو رجل الدّين يذكّره ببعض الأمور أو يُذكّره صديقُه أو أخوه ببعض الأمور الإنسان المتّقي يحفظ هذه الأمور دائماً في خزانة ذاكرته حتى إذا احتاج اليها عمل بها، فيقول(عليه السلام): (ولا ينسى ما ذُكّر).

ثمّ قال: (ولا يُنابِزُ بالألقاب) المنابزة بالألقاب هو التعيير ببعض الصفات والأسماء القبيحة بقصد الانتقاص والحطّ من قدر المقابل، وأوضّح هذه القضيّة أيّها الإخوة والأخوات، الإنسان غير معصوم قد يخطأ ويرتكب ذنوباً ومعاصي ثمّ يتوب الى الله تعالى توبةً نصوحاً، فآتي أنا أعيّره بصفةٍ كان قد ارتكبها سابقاً، أو امرأة ارتكبت معصيةً وذنباً ثمّ تابت فتأتي امرأة أخرى تعيّرها بتلك الصفة القبيحة، هذه ليست من الصفات الإيمانيّة، لذلك ورد أيضاً مثل هذا النهي في الآية القرآنية (وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ)، لذلك -إخواني- علينا أن ننتبه هذا الأخ المؤمن هذا الصديق ليس من الصحيح أن نعيّره بلقبٍ أو صفةٍ، أو ربّما هذا الإنسان ابتُلِي بفضيحةٍ في نفسه أو في أحد أولاده أو في إحدى بناته أو في زوجته ليس من الصحيح أن نعيّره بهذه الصفة التي صدرت من أحد أولاده أو بناته أو زوجته أو أحد أرحامه، مثل هذه الأمور تجرح كرامة هذا الإنسان وتؤذيه وتحطّم شخصيّته أمام المجتمع وتولّد الكثير من العداوات والفتن، لذلك ينبغي علينا أن ننتبه خصوصاً الآن في الوقت الحاضر -كما ذكرنا- وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية، حينما يصف إنسانٌ إنساناً آخر بصفة "يا فاسق" "يا فاجر" "يا فاسد" أو ببقيّة الصفات القبيحة قد يردّ الطرف الآخر عليه ويحصل تلاسن وتراشق بهذه الصفات بين بعض الإخوة والبعض الآخر، وهذا ليس من الصحيح، لذلك من صفات الإنسان المتّقي (ولا يُنابِزُ بالألقاب).

ثمّ قال(عليه السلام): (ولا يُضارّ بالجار) من صفات المتّقين المهمّة هي مراعاة حقوق الجوار، -إخواني- تعلمون أنّ الجار هو الذي يسكن بجنب الإنسان وفي بعض الروايات الجار الى أربعين داراً، وكثيراً ما أكّدت الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة على لزوم مراعاة حقّ الجار، حتّى أنّه في بعض الروايات عن أمير المؤمنين(عليه السلام) من شدّة وصية رسول الله(صلّى الله عليه وآله) بحقوق الجار يقول: (..حتّى ظننّا أنّه سيورّثه) أي يجعله مثل الأخ مثل الأب مثل الأم مثل الأرحام فيكون له إرثٌ مع الجار، ثمّ يبيّن النبيّ(صلّى الله عليه وآله) بعض من هذه الحقوق التي نحن غافلون عنها ولا نلتزم بها، لاحظوا هذا الحديث الذي ورد عن النبيّ(صلّى الله عليه وآله) يسأل أصحابه: (هل تدرون ما حقُّ الجار؟!) ونحن الآن نسألكم نسأل كلّ واحدٍ: هل يدري ما حقُّ الجار؟!! ربّما الكثير يقول: أعرف. نحن نقول: لا.. الكثير لا يعرف حقَّ الجار!! لماذا؟ لاحظوا النبيّ(صلّى الله عليه وآله) يقول لأصحابه الذين في ذلك الوقت كانوا مع رسول الله(صلّى الله عليه وآله) يسألهم أوّلاً (هل تدرون ما حقّ الجار؟!) ثمّ يقول لهم: (ما تدرون من حقّ الجار إلّا قليلاً) إذا كان هذا الأمر عدم المعرفة بحقوق الجوار إلّا القليل منها في زمن رسول الله ومع أصحاب رسول الله فكيف هو حالنا الآن؟!! نحن أيضاً لا نعرف من حقوق الجار إلّا القليل من هذه الحقوق، ولاحظوا الآن هذه بعض من هذه الحقوق وكيف اهتمّ الإسلام اهتماماً شديداً بالغاً بحقوق الجوار، فيُبيّن النبيّ(صلّى الله عليه وآله): (ألا لا يؤمن بالله واليوم الآخر من لا يأمن جارُهُ بوائقَهُ) يعني حينما يكون جاري لا يأمن بوائق الظلم والغشّ والإيذاء والتعدّي، الإنسان يصلّي ويصوم ولكن جاره لا يأمن لسانه ولا يأمن التعدّي عليه باللّسان وغير ذلك من أنحاء الإيذاء، يقول هذا الإنسان أصلاً لا يؤمن بالله ولا يؤمن باليوم الآخر.

ثمّ يبيّن الحقوق بعد كلامٍ طويل: (...وإذا استقرضه أن يقرضه، وإذا أصابه خيرٌ هنّأه وإذا أصابه شرٌّ عزّاه..) يشاركه في مناسبات الأفراح والأحزان، ثمّ يقول: (..ولا يستطيل عليه في البناء يحجب عنه الريح إلّا بإذنه..) ثمّ نلتفت الى هذه العبارة لبيان شدّة الاعتناء بحقوق الجار (...وإذا اشتهى فاكهةً فلْيُهْدِ له، فإنْ لم يُهدِ له فليدخلها سرّاً ولا يعطِ صبيانه منها شيئاً يُغيضون صبيانه..) يعني إذا أنت اشتهيت فاكهةً واشتهيت طعاماً فإمّا أن تُهدي لجارك منها أو إذا كنت لا تريد أن تُهدي له ائتِ بها الى بيتك وأدخلها سرّاً!! لماذا؟! يقول: ربّما هذا الجار فقير أو هذا الجار له أطفال ينظرون الى هذا الطعام وهذه الفاكهة التي تأتي بها الى أهلك وأطفالك فيشتهون هذه الفاكهة ولا يستطيعون أن ينالوا منها شيئاً، فينال الأذى أطفال هذا الجار، وصل الحدّ الى هذا الحال. بل أحياناً في بعض الروايات إذا طبخت طعاماً وكانت له رائحة فلا تؤذِ جارك برائحة طعامك!! إمّا أن تعطيه شيئاً من هذا الطعام أو أنّه لا تؤذِه بشيء من رائحة الطعام، هكذا وصل الاعتناء بالجار ورعاية الحقوق، وفي كلامٍ لأمير المؤمنين(عليه السلام): (الله.. الله في جيرانكم فإنّهم وصيّةُ نبيّكم، ما زال يوصيني بهم حتّى ظنّنّا أنّه سيورّثهم) الى هذا الحدّ.

ثمّ يقول(عليه السلام): (ولا يشمتُ بالمصائب) ما معنى لا يشمت بالمصائب؟ أحياناً هناك إنسان مؤمن أو أخٌ أو صديق تناله مصيبة، تارةً المصيبة بفقد عزيز أو حبيب عليه وتارة المصيبة أن يبتلى هذا الإنسان إذا أخطأ وأذنب وارتكب فاحشة فابتُلي بمصيبةٍ وفضيحة في نفسه أو في زوجته أو في واحدٍ من أولاده، أنا لا أشمت به ولا أشمت بهذه المصيبة، الله تعالى قد يُعافي هذا الإنسان ويرحمه وأنت تُبتلى بنفس المصيبة، فهل ترضى أن يعيّرك هذا الصديق أو هذا الأخ؟!! لاحظوا هذا الحديث عن الإمام الصادق(عليه السلام): (لا تُبدِ الشماتة لأخيك فيرحمه الله ويصيّرها بك) الله تعالى بعد فترة قد يرحمه ويُعافى من هذه المصيبة وأنت تُبتلى بها، وفي حديث آخر (من شَمَتَ بمصيبةٍ نزلت بأخيه لم يخرجْ من الدنيا حتّى يُفتَتَن) وأيضاً هناك نحوٌ من الشماتة نحن لا نلتفت اليه وهو يحصل عندنا كثيراً، كيف؟ ربّما هذه العائلة الفلانيّة ابتُلي الرجل بزوجةٍ حصل منها شيء وكان في ذلك بلاء، ماذا يقول الإنسان؟ يقول: الحمد الله الذي ما ابتلاني بزوجةٍ مثل هذه الزوجة! هذه شماتة بمصيبة!! أو ابتلي ببنتٍ خرجت عن الطريق، يقول: الحمد لله أنا ما ابتُليت ببنتٍ مثل هذه البنت! أو ابتُلي بابنٍ خرج عن الطريق، يقول: الحمد لله الذي ما ابتلاني بابنٍ مثل هذا الابن الذي انحرف وفسد وخرج عن الطريق، الحديث يقول: انتبهْ ربّما في يوم من الأيّام هذا يُعافيه الله تعالى وأنت تُبتلى، وربّما هذا الإنسان المتأذّي هو إنسان مؤمن قُدّر له أن يُبتلى ببنتٍ أو ابن خرج عن الطريق فأنت لا تقل هذا أمامه أو أمام الآخرين ولا تظهره فهذا يحزن قلبه ويجرح مشاعره، لذلك ورد في الحديث (إذا رأيتم أهل البلاء فاحمدوا الله ولا تُسمعوهم فإنّ ذلك يُحزنهم) يعني إذا رأيت صديقك أخاك عائلة تعرفها ابتُليت بنوعٍ من أنواع البلاء فقل: (الحمد لله) ولكن دون أن تُسمع هذه العائلة وهذا الرجل لأنّ هذا يُحزن، ربّما هذا أخٌ لك أو صديق لك وليس من الصحيح أن تُحزن أخاك بهذه الكلمات، لذلك ورد في صفات المتّقين (ولا يشمتُ بالمصائب).

ثمّ قال: (ولا يدخل في الباطل ولا يخرج من الحقّ) الإنسان أحياناً يتعرّض الى ضغوطٍ اجتماعيّة أو ضغوطٍ سياسيّة أو ضغوطٍ من حاكم أو ضغوطٍ من مجتمع، مهما كانت هذه الضغوط والإغراءات التي تُتاح أمامه فهي لا تُدخله في الباطل وفي نفس الوقت لا تُخرجه من الحقّ، مهما كلّفه البقاء على الحقّ من ضرائب ومن خسارة، الإنسان المؤمن والمتّقي دائماً في كلّ الظروف وفي كلّ الأحوال لا يدخل في الباطل ولا يخرج من الحقّ.

ثمّ قال(عليه السلام): (إنْ صمت لم يغمَّه صمتُه وإنْ ضحك لم يعلُ صوتُه) هذه أيضاً من الصفات المهمّة للإنسان المؤمن المتّقي إذا أراد أن يتكلّم يقف قليلاً ليتأمّل ويتدبّر هل كلامُه وفق الموازين الشرعيّة أم لا، ربّما كلامه فيه غيبة فيه نميمة فيه كذب فيه باطل فيه افتراء فيه فحش فيه سبّ فيه حدوث فتنة وربّما يتأذّى الآخرون منه حينئذٍ يصمت ويسكت، وربّما أحياناً يستدعي المقام أن يتكلّم لأنّ في كلامه فائدة وأحياناً المقام والحال يقتضي أن يصمت ويسكت لأنّ الكلام فيه مضارّ وفيه الكثير من الآفات الدنيويّة والأخرويّة فمن الحكمة والعقل أن يصمت ويسكت لأنّ فيه المصلحة فيه الحكمة.

من هنا أيّها الإخوة والأخوات البعض -وهذه مشكلة لدينا- يطلب من المرجع أن يتكلّم دائماً ويطلب من المؤمن أن يتكلّم دائماً ويطلب من رجل الدين أن يتكلّم دائماً، ربّما الموقف والحكمة عدم الإيقاع في الفتنة وعدم الوقوع في الكثير من الآفات والمخاطر يقتضي أن يصمت، وفي الصمت الحكمة ومقتضى الموازين الشرعيّة والعقليّة وفيه السلامة من الأضرار والآفات الدنيويّة والأخرويّة أن يصمت، هذا هو ما تقتضيه الموازين الشرعية وما تقتضيه الحكمة، ليس دائماً الكلام فيه مصلحة أحياناً الصمت فيه مصلحة وفيه حفظ للأمّة وفيه حفظ للآخرين من الوقوع في الفتن والمشاكل والآفات، وحتّى على المستوى الاجتماعي على مستوى العلاقات فيما بيننا الإنسان المؤمن عليه أن يتفكّر قليلاً حينما يريد أن يتكلّم يتأمّل ويتدبّر في كلامه، إذا كان كلامه في مقتضى الموازين الشرعيّة يتكلّم وإن كان في كلامه شيء من الضرر وفيه شيء من الآفات فيه شيء من المخاطر الدنيويّة والأخرويّة يصمت ويسكت، لذلك ورد أيّها الإخوة والأخوات مدحٌ كثيرٌ لمسألة الصمت كما في هذا الحديث (إنّ الصمت بابٌ من أبواب الحكمة ويُكسب المحبّة وهو دليلٌ على كلّ خير) لذلك ليس دائماً الكلام فيه مصلحة بل بالعكس أحياناً مقتضى الحال ومقتضى المقام أن يكون هناك صمتٌ، خصوصاً إذا كان هذا الكلام فيه كثيرٌ من الضرر ليس على مستوى الفرد بل على مستوى المجتمع، لذلك ورد في هذا الحديث أيضاً (رحم الله عبداً قال خيراً فغَنِم، أو سَكَت عن سوءٍ فسَلِم) قد يكون الكلام فيه الكثير من المخاطر والصمت أو السكوت فيه سلامة من الآفات والأضرار، لذلك الإمام(عليه السلام) يقول: الإنسانُ المتّقي حينما يصمت يُسَرّ لهذا الصمت هو ومجتمعُه لأنّ الكلام فيه الكثير من الأضرار، ولا يغتمّ ولا يتأثّر ولا يحزن لأنّه صمت ولم يتكلّم، لذلك يقول(عليه السلام) في بيان إحدى صفات المتّقين (إنْ صمت لم يغمّه صمتُه وإنْ ضحك لم يعلُ صوتُه)..

إن شاء الله تعالى نُكمل في الخطب القادمة.. وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمد وآله الطيّبين الطاهرين

المرفقات