تعددت سبل خدمة الإمام الحسين (عليه السلام) وكثرت بذات الوقت أعداد المحيين للشعائر الحسينية ومن ضمن ما تزايد ولقي رواجا اجتماعيا هو ازدياد عدد الهيئات الحسينية لتقديم الخدمة لزائري الإمام الحسين وأخيه العباس (عليهما السلام) خلال الأيام العشر الأولى لشهر محرم الحرام، وحيث كانت في السابق تقتصر على عدة هيئات تمثل عزاءات الأطراف السبعة القديمة لمدينة كربلاء وبعض عزاءات مواكب المهنيين أمثال موكب الصفارين والصاغة والسباكين وغيرهم.. نلحظ اليوم تزايدَ خَدمَة هذه الشعيرة الحسينية والتفافهم حول إظهارها بشكل زاهٍ وجميل من حيث المظهر الخارجي، فتجد جميع من يعمل على إشاعة هذه الشعِيرة يسارع بتقديم الأفضل فتكون لكل هيئة ما يجعلها مميزة بشيء دون سواها، وقد تزايدت أعدادها خلال السبعة أعوام المنصرمة الى(680) هيئة بين خدمية وعزائية بعد ان كانت مقتصرة على 15 هيئة خلال عام 2004 بحسب إحصائية قسم المواكب والشعائر الحسينية في العتبتين الحسينية والعباسية المقدستين..أما لماذا الهيئة؟ وما الذي تمثله بشكل عام كشعيرة حسينية؟ وما الذي تعنيه عناصرها كالمرايا والمزهريات الضوئية (الالآت) والألوان؟ ولماذا تنتشر حولها الرايات الملونة؟ ولماذا تُستبدل جميع الإنارة بالحمراء يوم عاشوراء؟ وكذلك لماذا ترفع جميع تلك الهيئات بعد العاشر من محرم الحرام؟ أسئلة كثيرة توجهت بها (أفنان) صوب الشارع الكربلائي لنجد لها الإجابة وغيرها من التساؤلات الكثيرة..هُـنيئاً وأنت تسير في المدينة المقدسة أبطئ خطاك فأنت في حضرة الإمام الحسين (عليه السلام) لتُسحِركَ الطمأنينة في أكثر الأمكنة أمنا وآمانا، وعندما تمسح جبينك بالمشهد الحسيني الشريف وتُعطر أنفاسك بطهر المكان، كحلْ عينيكَ ببهجة الهيئات الحسينية ـ(التكايا)ـ التي استلهمت أسماءها من واقعة الطف الأليمة.. والتي تَتجددُ وتتزايدُ كل عام وتتعايشُ مع مأساةِ الحسين وآل بيته الطاهرين (سلام الله عليهِم).بدايةُ الجولة كانت مع أصالةِ تسعون عاماً احد الهيئات القديمة العريقة في مدينة كربلاء، حيث يقول الشاعر الحسيني (عبد الرسول الخفاجي) أن "من أقدم الهيئات هي هيئة المنتظر التي تعود الى تسعين عاما تقريبا فضلا عن هيئات أخرى أبعد منها تأسيسا كالهيئة الحيدرية والزينبية والحر الرياحي وهيئة الترك و(تاج دار باهو) للهنود، وغيرها"، مشيرا إن "تصميم الهيئات الحسينية بهذه الشاكلة بدأ في العقد السادس من القرن المنصرم"؛ لكن متى ظهرت؟ فيؤكد الخفاجي انه "على الأكثر قد ظهرت بعد أن عجت مدينة كربلاء القديمة بالسكان وشاعت فيها الشعائر الحسينية وهي من ضمنها"..وأكد عبد الرسول إن "ما يميز أبناء كربلاء بالخدمة اليوم هو تجسيدهم للشعائر الحسينية أينما كانوا في العالم وهذا ما تتناقله وسائل الإعلام المختلفة، متمنيا ديمومة هذه الشعيرة واستمرارها وازديادها على أثر النوعية".. ويضيف (جمال الحكيم) كفيل هيئة شباب علي الأكبر طرف باب الطاق، "هيئة الفاطمية والفاضلية على مسميات الهيئات القديمة، ويقول إنه في السابق كان لا يزيد عدد الهيئات عن السبعة، فضلا عن هيئات المواكب السبعة للمدينة القديمة"، مبينا إن "العادة جرت في السابق إذا زار أحد الملوك قرية تستقبله ناسها بالترحيب والزهور وتضيء له الأنوار، ونحن في كربلاء نستقبل موكب الإمام الحسين (عليه السلام) مع بداية كل عام هجري بهذه التكايا، لأن ثورته حدثت في شهر محرم الحرام".. ويوضح الحكيم إنهم "يستبدلون إنارتهم ليلة العاشر من محرم الى الضوء الأحمر إيحاءً لطلب الثأر، أما باقي الألوان فلكل منها معنىً، فالأقمشة والرايات السوداء تشير الى استقبال المدينة الى موسم الأحزان، والخضراء هو اللون السائر لدى أهل البيت (عليهم السلام)، أما المرايا فأنها تعكس جمالية ما موجود في الهيئة"..إقامة الهيئات الحسينية شعيرة سنوية يقدسها الكربلائيونويقول السيد (حسين العرداوي) كفيل هيئة سفينة النجاة إن "أشهرَ الهيئات القديمة تأسست قبل بداية حكم النظام البائد من جيوبات مؤسسيها وهيئة سفينة النجاة من ضمنها، لكن ما يميز هيئتنا إنها مستمرة طيلة الأعوام بتقديم خدماتها على مدار أيام السنة؛ بل ولم يكن لها هيكلا إلا بعد سقوط النظام؛ وذلك لآن اهتمامنا كان منصرفا الى تقديم الخدمات وإقامة المجالس الحسينية في بيوتنا لألا تنسى وتمحى من ذاكرة الكربلائيين، فلم تنقطع حتى وقت حكم نظام البعث بالرغم من شدة مراقبته ومتابعته للمجالس الحسينية، وكان يرتقي المنبر فيها خلال شهر رمضان كلا من (سماحة السيد أحمد الصافي وسماحة الشيخ عبد المهدي الكربلائي) ثم تكون بعدها الموائد الحسينية".ويضيف العرداوي إنه "بعد سقوط نظام الحكم بدأت الهيئات تبرز كباقي الشعائر الحسينية وتؤدي دورها في الخدمة، كشعيرة أساسية لها دورا مهما في كربلاء على وجه التحديد"..ويبين (نعمة عبد الأمير الخفاجي) كفيل هيئة شباب السدرة، إن "ما يميز شعيرة إقامة الهيئات فضلا عن جماليتها ومفهومها أنها تقدم كل ما باستطاعتها من خدمات عشقا في الحسين (عليه السلام) فكل ما يقدم باسم الإمام لا يُسأل عليه الضيف الشكر أو عرفان"، مضيفا إن "الخدمة التي تؤديها الهيئات الحسينية هي مؤشرا على رفاهة اقتصاد المدينة وكرم أهاليها الذي لا يقتصر على تقديم الشاي والعصائر والحليب والأطعمة فقط؛ بل يتعدى لإشاعة روح التكافل الاجتماعي، ونقل صورة النبل والكرم ممتزجةً بعامل التطور الحضاري الذي يجسد من خلال دور الخدمة الحسينية، وما تقدمه من خدمات جلية واضحة في عاشوراء، فنرى بذل الطعام وسقاية الماء وتقديم كل ما يحتاجه الزائرون من العوامل المهمة التي تساعد في تفعيل مبدأ التكافل الاجتماعي بين المسلمين، وإرساء حالة المحبة والمواساة والتكاتف بين أبناء المجتمع الإسلامي، وهي بذات الوقت من مقومات المبادئ السامية التي أبرزت أثرها في التربية النفسية القويمة".أما عن دور الكربلائين في خدمة الزوار الوافدين فيقول الخفاجي، "يقوم الكربلائيون بخدمة زوار سيد الشهداء على مدار العام، فنراهم يدخرون الأموال ليبذلوها على زوار الإمام الحسين (عليه السلام) فيعتبرونها كزكاةٍ عليهم الالتزام بها، فيكون استعدادهم في عاشوراء أكثر استعدادا للبذل والعطاء"، لافتا إن "الإنسان الشيعي تربى على تجاوز الحاجز المادي فنرى الكثير من العوائل على الرغم من دخلهم المادي المحدود إلا إنهم يدخرون بعض الأموال لبذلها في عاشوراء بإسم الإمام الحسين (عليه السلام)"..لو تجولنا قليلا في شوارع مدينة كربلاء أبان أيام عاشوراء لشاهدنا ما أستجد على الهيئات الحسينية، وهو الهيئات الحسينية الصغيرة التي أسسها الأطفال من باب مشاركة الكبار وتقليد كل ما يوأدونه فنلاحظهم مولعين بتأدية الخدمة لزائري مدينتهم وهذا أن دل على شيء فأكيد أنهم زقوا محبة إمامهم الحسين (عليه السلام) من أبائهم وأجدادهم، وعن دورهم الذي بدأ محل اهتمام الإعلام حدثنا الطفل (ذو الفقار كريم) 11عاما، أنهم "يبدؤون باستعداداتهم لذكرى عاشوراء وإقامة هيئتهم الموسومة بأشبال المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف) قبل شهر محرم بثلاثة أيام ثم ما أن يحل الشهر يبدؤون بتقديم الشاي والعصائر وكذلك الحليب يوم تاسوعاء من الشهر الحرام بناءً على ذكرى استشهاد الطفل الرضيع"..يلخص الباحث الاجتماعي (عباس جدوع حمد) الهدف من أقامة الهيئات بأهداف يفترضها كمعطيات حضارية وغايات إنسانية أفرزتها النهضة الحسينية، بما لها من آثار إيجابية للإنسان والمجتمع فيقول إن "صياغة وعي الإنسان، كشخصية إسلامية رسالية، ونموذج أخلاقي قادر على التوفيق بين رؤيته العقائدية الإيمانية وبين ضرورات العصر الحديث، وبروز شعيرة الهيئة يعتبر مظهراً إعلامياً لتكوين رأي عام، ومظهر لحفاوة استقبال أهالي كربلاء لوفادةِ الإمام الحسين (عليه السلام)، وهو في ذات الوقت محاكاة لمشاعر المجتمع الحاضر مع وفادة الإمام (سلام الله عليه) في الماضي"، مضيفا إن "الهيئة وسيلة لممارسة حسينية تبدأ من أول شهر محرم الحرام وحتى اليوم الثالث عشر أو يتم رفعها بعد يوم عاشوراء"..ويؤكد حمد إن "الرايات الحمر تمثل طلب الثأر للحسين (عليه السلام)، والاستنصار له" متابعا أن "من ضمن الإعمال التي تؤديها الهيئات هي تقديم الخدمات المتنوعة لكل من يفد كربلاء خلال أيام عاشوراء وهذا بحد ذاته تجسيد لمفهوم الكرم والعطاء باستنفار معنوي يوماً بعد يوم".مشيرا الى ضرورة وجود الهيئات الحسينية لما تمثله من سلوك حضاري، وتعبيرا عن ازدهار الأرض التي وطئها الإمام (عليه السلام) بعد أن كانت مقفرة رمضاء لم تستقبله إلا بالهم والفجيعة فكان على أهل المدينة التي احتضنت جسده الطاهر أن يعتلي شأنها، وتكون نيرة كل ما حل بها شهر محرم الحرام إيذانا باستقبال موكب الإباء".. الذكرى والاختلاف على خصوصية الأيام العشر في كربلاء..لأن هناك من يدّعي أن إحياء أيام عاشوراء يعني إحياء فترة عنصرية لأهالي كربلاء مما يساهم في إذكاء نار التساؤل عند المسلمين، فكان لسؤالي: (هل إحياء أيام عاشوراء إحياءً للعنصرية؟) فأجابنا الشاعر الكربلائي (حسين صادق)، لقد "جرت العادة منذ القدم على إن الأيام العشر الأولى هي من حصة أبناء كربلاء على أن يفسحوا المجال لممارسة باقي الطقوس الحسينية بعد ذلك لسواهم"..بينما أضاف (علي كاظم سلطان) رئيس قسم الإعلام وكالة في العتبة الحسينية المقدسة أن "الحسين (عليه السلام) لما دخل كربلاء لم تكن المصيبة قد وقعت بعد، وقد حل ضيفا على المدينة لذا وجب على أهل المدينة استقباله؛ فنجد أبناء المدينة يوقدون له الأنوار ويزينوها بأشكال متنوعة؛ لكن بعد استشهاده (عليه السلام) تصبح المسألة عامة وللكل حق المشاركة فيها، فنشاهد ان أول شعيرة يأتي لها كل مسلم للمشاركة فيها هي ركضة طويريج"، مضيفا إنه "يفترض على باقي المسلمين أينما كانوا أن يقيموا الشعائر الحسينية في داخل العراق وخارجه لأن ذلك يعد مظهرا ايجابيا نحو اتساع رقعة الشعائر الحسينية العاشورائية".وأردف الشاعر حسين صادق أن "الهيئة الحسينية كانت في السابق مركز التقاء أبناء المحلات حيث كانت الأطراف السبعة التي تشكل مدينة كربلاء القديمة، حيث توضع هيئة في مركز كل طرف يتجمع حولها أبناء الطرف الواحد للخروج الى العزاءات يوميا، وكذلك هيئات مواكب الأصناف الخمسة"، مضيفا إن "تعدد الهيئات يدعو الى التجمع لأن أكثر خدمتها لا يسكنون مدينة كربلاء القديمة الآن؛ لكنهم يؤمونها حالما يحل شهر محرم وكذلك نشاهد هذا التعدد يتنافس على تقديم الخدمة الحسينية"..بينما يدعو رئيس قسم الإعلام في العتبة الحسينية المقدسة أن "يكون ازدياد عدد الهيئات على حساب النوع وأن تكون متوالدة غير منشطرة، لتؤدي خدماتها بشكل متكامل"، فيما يُرجِع فكرة الهيئات التي تقيمها الأطفال الى "إن كربلاء قائمة بشيوخها وشبابها ونسائها وأطفالها لخدمة زائر الإمام الحسين (عليه السلام)"، مشيرا الى "مسألة العناية بتربية الأطفال تربية حسينية صحيحة، كالوقوف للصلاة في وقتها وتبادل الاحترامات، وتوجيههم للالتزام بفكر وتعاليم الدين السمحاء".. تبقى القضية الحسينية متحركة في التعبئة الجماهيرية الواسعة بكل الوسائل التعبوية، لأن القضية الحسينية كالقضية الإسلامية، لا بد أن يتزاوج فيها العقل والعاطفة، ولا بد أن يتزاوج فيها الإيمان والحس، وكما أننا نحتاج إلى البراهين العلمية وإلى الجو العلمي والعملي من أجل تنمية الأفكار وتقديم الخدمة، نحتاج كذلك إلى الأساليب العاطفية من أجل تعميق العاطفة في إحساسنا ومشاعرنا، لذا الحسينيون أصرّوا على بقاء العاطفة في كل شعيرة حسينية لتتصل بالجانب العقائدي، لأنه لا العقل ولا الفكر وحدهما بقادرين على تخليد أي مبدأ، دونما عاطفة وانفعال.
حسين النعمة
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق