عبد الله بن يقطر وقيس بن مُسهَّر - صمود وشهادة -ج2-

 

رسالة الإمام الحسين علیه السلام  وتداخل مهمة الشهيدين

كان الخلاف بين المؤرخين والباحثين هو العلامة الفارقة في تشخيص هوية الرسول الذي أناط به الإمام علیه السلام  مهمة حمل كتابه إلى مسلم بن عقيل وأهل الكوفة، ودار الأمر بين الشهيد قيس بن مُسهَّر والشهيد عبد الله بن يقطر، وتنقسم أقوال المؤرخين والعلماء والباحثين على ثلاثة أصناف: صنف جزم بأنه قيس بن مُسهّر، وصنف رأى أنه عبد الله بن يقطر، والصنف الثالث إما تردد ولم يرجح أيَّاً منهما، أو ذكر أحد الأمرين على نحو القيل أو الاحتمال، وسنذكر نماذج لكل صنف ولا نبغي الاستقصاء، فممن ذهب إلى أن رسول الإمام الحسين علیه السلام  كان  قيس بن مُسهَّر هو: الدينوري في الأخبار الطوال[48]، وابن سعد في ترجمة الإمام الحسين من طبقاته[49]، والبلاذري في الأنساب[50]، والطبري في تاريخه[51]، وابن مسكويه في تجارب الأُمم[52]، وابن شهرآشوب في المناقب[53]، وابن نما الحلي في مثير الأحزان[54]، وابن الأثير في تاريخه[55].

بينما ذكر بعض أن الرسول هو عبد الله بن يقطر، ومنهم البلاذري في الأنساب[56]، ويظهر ذلك أيضاً مما رواه الطبري عن أبي مخنف؛ إذ قال: «كان الحسين لا يمر بأهل ماء إلّا اتبعوه، حتى انتهى إلى زبالة سقط إليه مقتل أخيه من الرضاعة مقتل عبد الله بن بقطر، وكان سرّحه إلى مسلم بن عقيل من الطريق، وهو لا يدرى أنه قد أُصيب، فتلقاه خيل الحصين بن نمير بالقادسية، فسرّح به إلى عبيد الله بن زياد، فقال: اصعد فوق القصر...»[57]، وسرد قصة شبيهةً بقصة استشهاد قيس، وهو مذهب ابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة[58].

وذكرت كتب الرجال أن عبد الله بن يقطر هو رسول الإمام الحسين علیه السلام ، وأنه رمي به من فوق القصر، فتكسر، فقام إليه عمرو الأزدي فذبحه، ويقال: بل فعل ذلك عبد الملك بن عمير اللخمي[59]. وما يُعزز هذا الرأي أن عدداً من المؤرخين ذكروا أنه قد وصل خبر مقتل عبد الله بن يقطر وهانئ ومسلم وهو في زبالة؛ مما يعني أنه كان قد أرسله بتلك المهمة فقُبض عليه ونال الشهادة[60].

ونظراً لهذا الاختلاف نجد الصنف الثالث من العلماء إما يتردد، أو يذكر كلا الأمرين، ومن بين هؤلاء: المفيد في الإرشاد[61]، والفتال النيسابوري في روضة الواعظين[62]، والطبرسي في إعلام الورى[63].

وبعد هذا العرض السريع لآراء المؤرخين والعلماء يجد الباحث نفسه أمام مسألة شائكة ومتداخلة، يصعب معها الخروج بنتيجة واضحة، ومما يزيد الأمر إرباكاً وغموضاً أيضاً هو تصريح بعض المؤرخين وأصحاب السير: بأنّ عبد الله بن يقطر كان من شهداء الطف في يوم عاشوراء! ومن الذين ذكروا ذلك الطبري في تاريخه[64]، وابن حبان في الثقات[65]، وابن الجوزي في المنتظم[66]، وابن كثير في البداية والنهاية[67]، وغيرهم.  

وكذلك ورد اسمه في عداد شهداء عاشوراء في الزيارة الرجبية المختصة بشهداء كربلاء[68].

وعلى كل حال؛ ينبغي الركون إلى رؤية معينة تكون أقرب إلى الواقع؛ اعتماداً على بعض الشواهد والمستندات.

 

السيناريو المتصور في مهمّتي الشهيدين

إن هذا الخلاف العريض في المصادر التاريخية وغيرها يُعطي هامشاً كبيراً في تكثّر الآراء والأقوال في هذه المسألة؛ ولكي لا نثقل على القارئ بكثرة الاحتمالات، ولا نُبرمه بتعدد الفرضيات نذكر له كيفية واحدة ـ حسب تصورنا ـ لمهمة كل من الشهيد قيس والشهيد عبد الله بن يقطر، والتي تشمل كل ما قاما به من شرف السفارة للإمام الحسين علیه السلام .

لا ينكر أحد أن كلاً من الشهيدين كان على درجة عالية من الإيمان والإخلاص، والتقوى والشجاعة أهّلتهما أن يكونا من حواريي الإمام علیه السلام  وخُلّص أصحابه وموضع سرّه ومحلّ ثقته؛ فجعل هذه المهمة إلى أحدهما أو تلك إلى الآخر لا يعني بأي حال الحط من قيمة أحدهما ـ والعياذ بالله ـ بل إن ما نقوم به تُمليه علينا سياقات البحث العلمي وأساليبه، فحينئذ نقول:

إن الشهيد قيس بن مُسهَّر الصيداوي كان من الأوائل الذين حمّله بعض وجهاء الكوفة وأشرافها الرسائل والكتب التي يدعون فيها الإمام إلى القدوم إليهم، ثم توالت بعده الرُّسل، حتى اجتمع منها عند الإمام عدد كبير، فبادر الإمام إلى بعث ابن عمه مسلم بن عقيل إلى الكوفة، وسيّر معه قيس بن مُسهَّر في مهمته الأُولى من قبَل الإمام علیه السلام ، وفي الطريق يعود حاملاً كتاب مسلم إلى الإمام علیه السلام  يخبره بما حلّ بهم في الطريق على تفصيل مرّ ذكره.

وحينما يُجيب الإمام على رسالة مسلم يظهر بعض الغموض حول من تولَّى إيصالها إلى مسلم، فلو كان شخصاً غير قيس؛ فهذا يعنى أن قيساً لم يرافق مسلم بن عقيل إلى الكوفة، بل بقي مصاحباً الإمام في مكة، وإذا قبلنا أن قيساً هو صاحب الرسالة الثانية بترتيبنا؛ فهذا بطبيعة الحال يقضي بأنه صاحب مسلم بن عقيل وهو في طريقه إلى الكوفة، ولكنا مع هذا الفرض نعتقد أنّ قيساً عاد إلى مكة؛ إما برفقة عابس بن أبي شبيب الشاكري، حين بعثهما مسلم بالرسالة الثالثة التي يخبر فيها الإمام الحسين علیه السلام  بمبايعة أهل الكوفة له، كما ينقل ذلك الطبري كما تقدم، وإما أنه قد جاء بمفرده بالكتاب.

وعلى تقدير أنه لم يذهب مع مسلم ـ أو أنه ذهب ولكنه عاد ـ فيكون قيس بن مُسهَّر قد صحب الإمام علیه السلام  في مسيره من مكة إلى الكوفة، وهذا هو مختارنا في هذا المقطع من المهمة.

وأما في الجانب الثاني من المشهد ـ أعني قصة عبد الله بن يقطر ـ فهو بحكم أن عبد الله قد تربى مع الإمام في المدينة ومن المقربين لديه؛ فسيكون في ركب الإمام القادم من المدينة إلى مكة، ومن ثم إلى العراق.

وحين يصل الإمام علیه السلام  إلى الحاجز من بطن الرمة، ويعزم على أن يجيب عن رسالة مسلم بن عقيل، فيكتب رسالة يخبر مسلم ومَن معه من أهل الكوفة: بأنه قد شخص إليهم من مكة في اليوم الثامن من ذي الحجة، ويوصيهم بحُسن التدبير ريثما يصلهم.

وهنا تبرز المعضلة في تعيين حامل هذه الرسالة الرابعة حسب ترتيبنا؛  لكثرة ما رأيناه من الاضطراب والاختلاف في الأقوال، بيد أننا نظن أن مبعوث الإمام في هذه المهمة هو عبد الله بن يقطر، وليس قيس بن مُسهَّر الصيداوي؛ لقرينتين اثنين، مضافاً إلى عدم رجحان كفة الأقوال التي في صالح قيس:

القرينة الأُولى: إن بعض المصادر التي تذكر قصة إلقاء القبض على قيس بن مُسهَّر من قبل الحصين بن نمير في منطقة القادسية، تشير إلى أنه كان يحمل كتاباً فيه أسماء أشخاص بعينهم من أهل الكوفة، ويحرص قيس على عدم البوح بها، وإن كلفه ذلك حياته، ففي مثير الأحزان: أن قيس بن مُسهَّر الصيداوي أقبل بكتاب الإمام علیه السلام  حتى انتهى إلى القادسية، فأخذه الحصين بن نمير وبعث به إلى عبيد الله بن زياد، فأخرج الكتاب ومزقه، فلمّا حضر بين يدي عبيد الله، قال: مَن أنت؟ قال: رجل من شيعة أمير المؤمنين علیه السلام . قال: فلماذا مزقت الكتاب؟ قال: لئلا تعلم ما فيه. قال: ممن الكتاب؟ وإلى مَن؟ قال: من الحسين علیه السلام  إلى قوم من أهل الكوفة لا أعرف أسماءهم. فغضب ابن زياد...[69]، في حين أنه لا توجد أسماء في الكتاب، وإنما فيه «من الحسين بن علي إلى إخوانه من المؤمنين والمسلمين، سلام عليكم...» وقد تقدم نص الكتاب.

في حين أننا لا نشاهد هذا التفصيل في قصة اعتقال عبد الله بن يقطر على يد الحصين. وهذا نتيجة الخلط بين مهمة عبد الله بن يقطر في حمله هذا الكتاب ووظيفة قيس بن مُسهَّر في إيصال الرسالة السادسة المشار إليها سابقاً، والتي سنتحدث عنها في القرينة الثانية.

القرينة الثانية: وهي من أهم الأدلة التي اعتمدنا عليها في مختارنا، وبها ينحل التداخل والخلط بين القصتين، فقد روى ابن أعثم في الفتوح، والخوارزمي في مقتل الحسين علیه السلام ، والسيد ابن طاووس: أن الحسين علیه السلام  بعد أن التقى به الحر بن يزيد الرياحي وسايره حتى انتهى بهم المقام في أرض كربلاء، كتب علیه السلام  كتاباً إلى أشخاص من أهل الكوفة، وذكرهم بأسمائهم، وبعثها مع الشهيد قيس بن مسهر، وهي الرسالة السادسة التي نقلناها؛ مما يدلّ على أن قيساً قد بقي مع الإمام كل هذه المدة حتى وصل إلى كربلاء، وأن الذي بُعث من الحاجز من بطن الرمة هو الشهيد عبد الله بن يقطر.

ثم يتابع ابن أعثم في روايته، فيذكر: أنه بعد وصول قيس إلى مشارف الكوفة ـ وكان عبيد الله بن زياد قد وضع المراصد على الطرق ـ لقيه الحصين بن نمير السكوني، فما لبث قيس أن  أخرج الكتاب سريعاً فمزقه عن آخره، فقبضوا عليه، وأخذوا الكتاب ممزقاً، حتى أتوا به إلى عبيد الله بن زياد، فقال له عبيد الله بن زياد: مَن أنت؟ قال: أنا رجل من شيعة أمير المؤمنين الحسين بن علي، قال: فلم خرّقت الكتاب الذي كان معك؟ قال: حتى لا تعلم ما فيه! قال: وممن كان هذا الكتاب؟ وإلى مَن كان؟ فقال: كان من الحسين إلى جماعة من أهل الكوفة لا أعرف أسماءهم.

فغضب ابن زياد غضباً عظيماً. ثم قال: والله، لا تفارقني أبداً أو تدلني على هؤلاء القوم الذي كُتب إليهم هذا الكتاب، أو تصعد المنبر فتسب الحسين وأباه وأخاه، فتنجو من يدي أو لأُقطعنك.

 فقال قيس: أما هؤلاء القوم فلا أعرفهم، وأما لعنة الحسين وأبيه وأخيه فإني أفعل ـ وفي رواية ابن طاووس: فقال قيس: أما القوم، فلا أُخبرك بأسمائهم، وأما لعن الحسين علیه السلام  وأبيه وأخيه فأفعل[70] ـ فأمر به، فأُدخل المسجد الأعظم، ثم صعد المنبر، وجمع له الناس؛ ليجتمعوا ويسمعوا اللعنة، فلما علم قيس أن الناس قد اجتمعوا وثب قائماً، فحمد الله وأثنى عليه، ثم صلى على محمد وآله، وأكثر الترحم على عليّ ووُلده، ثم لعن عبيد الله بن زياد ولعن أباه، ولعن عتاة بني أُمية عن آخرهم، ثم دعا الناس إلى نصرة الحسين بن علي. فأخبروا بذلك عبيد الله بن زياد؛ فأُصعد على أعلى القصر، ثم رُمي به على رأسه؛ فمات رحمة الله عليه[71].

وفي ضوء هذه الرواية يتضح المبرر الذي دفع قيس بن مُسهَّر أن يمزق الكتاب ويتلفه؛ لئلا يطلع الأعداء عليه، بينما لا يتضح السبب في تمزيق الرسالة الرابعة التي لا يوجد فيها أسماء معينة.

ولعل الخلط بين القصتين جاءت من عدة جهات، منها: أن كلا الشهيدين هما من سفراء الإمام الحسين علیه السلام  وحملة رسائله. ومنها: أن الحصين بن نمير أو أحد من أعوانه وشرطته هو مَن تولى اعتقالهما. ومنها: أن كلا الشهيدين استُشهد بإلقائه من أعلى القصر، والله العالم.

وأما ما ورد في الفتوح ـ أيضاً ـ ومقتل الخوارزمي ومناقب ابن شهرآشوب من أنّ مالكاً أو عبد الله بن يربوع التميمي  وجد عند عبد الله بن يقطر كتاباً يخبر فيه مسلم الإمام الحسين علیه السلام  بأن أهل الكوفة قد بايعوه، وسلّم هذا الكتاب إلى عبيد الله بن زياد، مع عبد الله بن يقطر ما تسبب في استشهاده[72]، فإننا سبق وقلنا: إن عدم وصول هذا الكتاب إلى الإمام الحسين علیه السلام  مخالف للمشهور، وكون الرسول هو عبد الله بن يقطر أيضاً يعدّ خبراً شاذاً لا نعوّل عليه، فلربما بعث مسلم بن عقيل ـ أو غيره ممن أوصاهم ـ شخصاً آخر حاملاً كتاباً يطلب فيه من الإمام عدم مواصلة السير والقدوم إلى الكوفة بعد انقلاب الأوضاع، وهو مضمون الرسالة الخامسة بترتيبنا، والتي تقدم الكلام عنها.

 

يقين وصمود وشهادة

قد لا يستغرب المرء من مواقف الشهيدين السعيدين، حين يعلم أنهما خرّيجا مدرسة الإباء والثبات والتفاني في سبيل المبدأ، هذه المدرسة التي وضع منهجها واختط طريقها الإمام الحسين علیه السلام .

فمَن أراد أن يتعرف على بعض عطاءات النهضة الحسينية، فليأت إلى ما قدّمه لنا هذان الشهيدان من دروس وعبر عديدة، نأخذ منها درسين في غاية الأهمية:

الدرس الأول: اليقين الراسخ بالمبدأ والعقيدة

فالشهيدان ـ وبغض النظر عمّا حدث من ملابسات تاريخية في بيان مهمتيهما ـ علَّما الأجيال درساً في علاقة الإنسان المؤمن بعقيدته ومبدئه، القائمة على أساس الإيمان الراسخ، والاعتقاد الجازم غير المتزلزل، مهما داهمته الخطوب والملمات؛ فحين يُقبض على أحدهما، ويُرسَل إلى عبيد الله بن زياد، ويعاين الموت المحقق لا نراه يهتز أو يرتعد، بل يواجه الطاغية بكل جبروته وطغيانه بصلابة الإيمان، ولما يأمره بسبّ الحسين وأباه، يصعد القصر الذي صيّره منبراً لإبلاغ رسالته على أتم وجه، وبعد أن يحمد الله سبحانه ويُثني عليه، يقول: أيُّها الناس، إن هذا الحسين بن علي خير خلق الله بن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله ، وأنا رسوله إليكم؛ فأجيبوه. ثم يلعن ابن زياد وأباه، ويستغفر لعلي علیه السلام  ويصلي عليه، فيأمر به عبيد الله؛ فيرمى من فوق القصر إلى الأرض[73].

وفي نَصٍّ آخر، ورد في حق الشهيد قيس، يكشف فيه هذا الشهيد عن إيمان يُطاول الجبال الراسيات في ثباته وقوته، فلا يتردد من إجابة الطاغية الفرعوني حين يسأله عن هويته: مَن أنت؟ فيُجيبه ـ جواب الواثق المطمئن ـ: أنا رجل من شيعة أمير المؤمنين الحسين بن علي. ومن ثم يسأله عن سبب خرقه للكتاب فيجيبه قائلاً:خوفاً؛ حتى لا تعلم ما فيه. إنه جواب كالصاعقة التي  أفقدت ابن زياد توازنه.

كم نحن بحاجة ـ في زماننا وفي كل زمان ـ إلى مثل هؤلاء الأماثل الأفذاد؛ لنرتشف من أكف عطائهم معاني التمسك بالمبدأ والعقيدة.

الدرس الثاني: الصمود والثبات على المبدأ حتى النهاية

لا ريب في أن رسوخ الإيمان بالعقيدة وتجذُّره يُثمر عن ثبات لا يتغير رغم كل شيء، وهذا ما حصل فعلاً في قصة استشهاد الشهيدين قيس وعبد الله، فلم يُرهبهما وقوعهما في الأسر وما أيقنوه من نهاية حتمية؛ فلذا لم يُبال أحدهما في ردّة فعل الطغاة، بل راح يحثُّ الناس على نصرة الإمام علیه السلام ، ويُثني على أهل البيت علیهم السلام ، ويلعن ابن زياد وأباه، وهذا حال مَن يخطو إلى بلوغ درجات الشهادة العالية بكل عنفوان وشمم.

 

سمو الشهيدين وخسّة الأعداء

لعل هناك مقولة ـ ربما يسندها الواقع التاريخي ـ: تفيد أنه كلما علت مكانة الشهيد وسمت منزلته، كلما كان قاتله متسافلاً ومنحدراً من الجهة الأخلاقية والاجتماعية والقيمية، فالشهيدان مع ما لهما من علو المكانة وسمو الروح وسلامة الطوية وصفاء النفس، نجد قتَلَتهم وأعداءهم على درجة من الخسة والانحطاط، فعبيد الله بن زياد لا يحتاج إلى عناء الحديث عن ظلمه وجوره، وخروجه عن ربقة الإنسانية، فضلاً عن الدين والتقيّد بتعاليمه.

وأما مَن تولى ذبح أحد الشهيدين ـ بعدما رمي به من القصر وتكسرت عظامه وبقي فيه رمق ـ فهو رجل يقال له: عبد الملك بن عمير اللخمي والذي عيب عليه حينما أقدم على هذا الفعل الشنيع، قال: أردت أن أُريحه!![74].

وسِجِلُّ هذا الرجل طافح بالإجرام والانحراف عن سبيل الحق، قال عنه الشيخ المفيد: «فأما عبد الملك بن عمير، فمن أبناء الشام، وأجلاف محاربي أمير المؤمنين علیه السلام ، المشتهرين بالنصب والعداوة له ولعترته، ولم يزل يتقرّب إلى بني أُمية بتوليد الأخبار الكاذبة في أبي بكر وعمر، والطعن في أمير المؤمنين علیه السلام  حتى قلّدوه القضاء، وكان يقبل فيه الرُّشا، ويحكم بالجور والعدوان، وكان متجاهراً بالفجور والعبث بالنساء...»[75].

ولشناعة ما فعله بالشهيدين ـ أو أحدهما من الإجهاز عليه وهو لا زال حياً ـ أراد بعض أن ينفي الفعلة عنه ويلصقها بشخص آخر، فقد رأوها لا تليق بقاضي الدولة الأُموية وراوية أحاديثهم، فجاء في تاريخ الطبري عن «هشام حدثنا أبو بكر بن عياش عمن أخبره، قال: والله، ما هو عبد الملك بن عمير الذي قام إليه فذبحه، ولكنه قام إليه رجل جعد طوال يُشبه عبد الملك بن عمير»[76].

وستبقى هذه المعادلة سارية المفعول في كل زمان وفي كل جيل، فحلبة الصراع بين الحق والباطل لم يأن لها أن تتوقف بعد، حتى يرث الله الارض ومَن عليها

 

تأبين الإمام الحسين علیه السلام  للشهيدين

يستطيع الباحث في سيرة هذين العلمين أن يتعرف على علو قدرهما وحُسن عاقبتهما ـ بالإضافة إلى ما سجله التاريخ من عظيم إيمانهما ورفعة منزلتهما ـ من خلال ما قاله الإمام الحسين علیه السلام  عنهما مؤبناً لهما بعبارات تدل على المكانة التي يحظيان بها عند الإمام الذي لم يكتف بإطلاق تلك الكلمات فحسب، بل مزجها بدموعه الكريمة، فلما يصله خبر استشهاد أحدهما مع ما عليه من يقين راسخ وبصيرة نافذة تترقرق عينا الحسين علیه السلام ، ولا يملك دمعه فيقول: «منهم مَن قضى نحبه، ومنهم مَن ينتظر وما بدلوا تبديلاً. اللهم اجعل لنا ولهم الجنة نُزلاً، واجمع بيننا وبينهم في مستقرٍّ من رحمتك، ورغائب مذخور ثوابك»[77].

وورد في خبر آخر أن الحسين علیه السلام  حين يبلغه نبأ استشهاد قيس بن مُسهَّر  الصيداوي يستعبر باكياً، ثم يقول: «اللهم، اجعل لنا ولشيعتك منزلاً كريماً عندك، واجمع بيننا وإياهم في مستقر رحمتك، إنك على كل شيء قدير»[78].

 فهنيئاً لهذين الشهيدين السعيدين هذا التأبين والإطراء والدعاء من إمام الأُمة وسيد شباب أهل الجنة. فسلام عليهما يوم ولِدا، ويوم استُشهدا، ويوم يُبعثان حيين مع محمد وآله الطاهرين.

 

الكاتب: د. السيد حاتم البخاتي

مجلة الإصلاح الحسيني – العدد الرابع

مؤسسة وارث الأنبياء للدراسات التخصصية في النهضة الحسينية

________________________________________

[48]    الدينوري، ابن قتيبة، الأخبار الطوال: ص246.

[49]    ابن سعد، ترجمة الإمام الحسين علیه السلام  من طبقات ابن سعد: ص68.

[50]    البلاذري، أنساب الأشراف: ج3، ص166.

[51]    الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الطبري: ج4، ص297.

[52]    الرازي، أحمد بن محمد مسكويه، تجارب الأُمم: ج2، ص60.

[53]    ابن شهرآشوب، مناقب آل أبي طالب: ج3، ص245.

[54]    الحلي، ابن نما، مثير الأحزان: ص30.

[55]    ابن الأثير، الكامل في التاريخ: ج4، ص41.

[56]    البلاذري، أنساب الأشراف: ج3، ص168.

[57]    الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الطبري: ج4، ص300.

[58]    ابن الصباغ، الفصول المهمة في معرفة الأئمة: ج2، ص806.

[59]    اُنظر: الطوسي،  رجال الطوسي: ص103. العلامة الحلي، خلاصة الأقوال: ص192.

[60]    اُنظر: المفيد، الإرشاد: ج2، ص75. الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الطبري: ج4، ص301. البلاذري، أنساب الأشراف: ج3، ص168.

[61]    المفيد، الإرشاد: ج2، ص70.

[62]    الفتال النيسابوري، روضة الواعظين: ص177.

[63]    الطبرسي، إعلام الورى بأعلام الهدى: ج1، ص446.

[64]    الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الطبري: ج4، ص359.

[65]    ابن حبان، الثقات: ج2، ص310.

[66]    ابن الجوزي، المنتظم في تاريخ الأُمم والملوك: ج5، ص340.

[67]    ابن كثير، البداية والنهاية: ج8، ص206.

[68]    ابن طاووس، إقبال الأعمال: ج3، ص346.

[69]    اُنظر: الحلي، ابن نما، مثير الأحزان: ص30–31.

[70]    اللهوف في قتلى الطفوف، السيد ابن طاووس: ص46.

[71]    انظر: الفتوح، أحمد بن أعثم الكوفي: ج 5 ص 82 – 83.

[72]    اُنظر: الكوفي ابن أعثم، الفتوح: ج5، ص45، والخوارزمي، مقتل الحسين علیه السلام : ص293ـ 294. وابن شهرآشوب، مناقب آل أبي طالب: ج3، ص243.

[73]    المفيد، الإرشاد: ج2، ص70ـ72.

[74]    المصدر السابق: ج2، ص71.

[75]    المفيد، الإفصاح: ص220.

[76]    الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الطبري: ج4، ص300.

[77]    المصدر السابق: ج4، ص306.

[78]    الكوفي، أحمد بن أعثم، الفتوح: ج5، ص83.

 

المرفقات