قبر الامام الحسين في عصر الموفق العباسي

قام المتوكل بهدم قبر الإمام الحسين (عليه السلام) أربع مرات في الأعوام (233) و(236) و(237) و(247هـ) وجهد على إخفاء معالم القبر على الناس ولكن رغم التشدّد في منع الناس من زيارة القبر ووضع الجنود على مفارق الطرقات إلا أن القلوب الوالهة لم تنقطع عن زيارته في أشد الظروف وأقساها وقد وضع بعض الشيعة المخلصين علامات على القبر الشريف لكي لا يضيع أثره كما روى أبو الفرج الأصفهاني عن محمد بن الحسين الأشناني حيث يقول: (بعد عهدي بالزيارة في تلك الأيام خوفاً ثم عملت على المخاطرة بنفسي فيها، وساعدني رجل من العطارين على ذلك فخرجنا زائرين نكمن بالنهار ونسير بالليل حتى أتينا نواحي الغاضرية، وخرجنا منها نصف الليل، فسرنا بين مسلحتين وقد ناموا حتى أتينا القبر فخفي علينا فجعلنا نتسمّته ونتحرّى جهته حتى أتيناه وقد قلع الصندوق الذي كان حواليه وأحرق وأجرى الماء عليه فانخسف موضع اللبن وصار كالخندق فزرناه وأكببنا عليه .... ثم ودعناه وجعلنا حول القبر علامات في عدة مواضع فلما قتل المتوكل اجتمعنا مع جماعة من الطالبيين والشيعة حتى صرنا إلى القبر وأخرجنا تلك العلامات وأعدنا إلى ما كان عليه...) (1)

وتاريخ هذا البناء هو في نفس السنة التي قتل فيها المتوكل أي في عام (247هـ) فما إن تولى المنتصر العباسي الخلافة بعد أبيه المتوكل حتى بُني القبر الشريف يقول السيد محمد حسن الكليدار آل طعمة: (ولما بلغ خبر استخلاف المنتصر إلى العلامة محمد بن الحسين الأشتياني توجه من ساعته إلى كربلاء ومعه جماعة من الطالبيين والشيعة فلما وصلوا قبر الإمام الحسين أخرجوا تلك العلامات وأعادوا للقبر معالمه القديمة, فعند ذلك أمر المنتصر العباسي ببناء قبر الإمام الحسين ووضع على القبر سارية لإرشاد زوار القبر وعاد إلى كربلاء عهد الطمأنينة والسلام) (2)

ويستعرض السيد عبد الجواد الكليدار بالتفصيل عهد المنتصر الذي عاش فيه الشيعة عصراً من الحرية والرخاء وازدهرت فيه المراقد المقدسة في النجف وكربلاء حيث يقول: (ففي تلك المدة القصيرة من حكمه ــ أي حكم المنتصر الذي دام ستة أشهر ــ تلافى المنتصر أخطاء أبيه ويحدثنا التاريخ بما أسداه من الخدمات الجليلة نحو البيت الطاهر وشيعتهم ومن العناية والاهتمام بقبر الحسين والإمام علي (عليهما السلام) وعدم التعرض لقبور الأئمة ولقبور آل أبي طالب بصورة مطلقة) (3).

ويقول السيد أمير علي (لم تنفرج الكربة عن كربلاء إلا بقتل المتوكل وقيام المنتصر وكان المنتصر بخلاف أبيه ورعاً عادلاً عفيفاً أميناً يحرص كل الحرص على توفير أسباب السعادة والرفاهية للشعب فشيّد من جديد قبر علي والحسين وأطلق أوقاف أهل البيت التي كان المتوكل قد صادرها كما منع التعرض للذميين، ولكنه توفي لسوء الطالع بعد حكم لم تطل مدته غير ستة أشهر...) (4)

لكن هذه الـ (ستة أشهر) كانت فترة استثنائية في العهد العباسي الدكتاتوري المظلم الذي استخدمت فيه سياسة الإرهاب مع الشيعة, فتنفس الشيعة الصعداء في حكم المنتصر وأصبحت قبور الأئمة معالم شاخصة للزوار وأصبح الناس يتهافتون عليها من كل مكان يقول السيد محسن الأمين: (وبنى ــ أي المنتصر ــ على المرقد الشريف ميلاً عالياً يرشد الناس إليه وشجع الناس على زيارته) (5)

وبقي بناء المنتصر هذا حتى عام (283هـ) عندما سقطت القبة على الزوار في عهد الموفق ابن المتوكل بصورة مفاجأة وقد صادف سقوطها يوم زيارة عرفة في التاسع أو العاشر من ذي الحجة وهو يوم يكثر فيه الزوار, أما سبب سقوطها فلا يعرف بالضبط هل كان طبيعياً أم أن يداً خفية كانت وراء ذلك ؟ غير أن هناك مؤشرات تدلّ على أن سقوط القبة على الزائرين كان مدبراً كما يقول السيد عبد الجواد الكليدار حيث يثير العديد من الأسئلة حول هذا السقوط المفاجئ فيقول: (غير أن بناء المنتصر هذا لم يعش أكثر من ربع قرن لسقوطه وانهياره مرة واحدة في ذي الحجة سنة (273هـ) على عهد الموفق ابن المتوكل الأمر الذي يدل ــ حسب القرائن ــ على أن تلك السياسة الجائرة والخطة القاسية التي كان قد ارتسمها المتوكل في عهده تجاه قبر ريحانة الرسول الأكرم وزائريه كانت تطبق بحذافيرها طوال هذه المدة وإن كانت قد تبدلت أساليبها أو تغيرت أشكالها وعناوينها.

ولوقوع هذا الحادث الفجائي الغريب لحرم الحسين (عليه السلام) أهميته التاريخية إذ نستدل منه مبلغ ما كان يكمن قلوب كثير من العباسيين من بعد الرشيد والمتوكل من الغيظ وعدم الإرتياح لما كان يحيط بقبر الحسين (عليه السلام) من الجلال والعظمة, ومن التقديس له في نفوس المسلمين لا سيما وإن الموفق من هذه الناحية كان على شاكلة أبيه لم يتورع عن ارتكاب مثل هذه الجريمة ولذلك أسدل التاريخ الستار على هذا الحادث دون أن يدخل في التفاصيل...) (6)

ولا يوجه الكليدار أصابع الإتهام إلى السلطة العباسية في سقوط القبة دون دليل تاريخي وقرينة بيّنة رغم أن شخصية الموفق العدائية لأهل البيت تدعم بقوة الرأي الذي ذهب إليه وهو ضلوعه المباشر في سقوط القبة حيث يذكر الرواية التي تثبت ذلك والتي روتها كثير من المصادر المعتبرة وهذه الرواية يرويها أبو الحسن علي بن الحسن بن الحجاج يقول فيها: (كنا جلوساً في مجلس ابن عمي أبي عبد الله محمد بن عمران بن الحجاج وفيه جماعة من أهل الكوفة من المشايخ... وكانوا قد حضروا يهنئونه بالسلامة لأنه حضر وقت سقوط سقيفة أبي عبد الله الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) في ذي الحجة سنة (273هـ) فبينما هم قعود يتحدثون إذ حضر المجلس إسماعيل بن عيسى العباسي فأحجمت الجماعة عما كانت فيه وأطال إسماعيل الجلوس...)

وفي هذه الرواية دليل ساطع على أن سقوط القبة كانت بأمر من الموفق فسياسة العباسيين مع أهل البيت كانت في جميع مراحلها ــ سوى فترات ضئيلة ــ متساوية في المنهج العدائي وكانوا يقتلون على التهمة والظنة وكانوا يزرعون الجواسيس بين الناس وخاصة على العلويين وقد ذكر هذه الرواية التي نقلها الكليدار السيد ابن طاووس (7) والشيخ المجلسي (8) والسيد الأمين (9)

وينوّه الكليدار إلى أن الصمت الذي رافق هذه الحادثة كان بسبب أجواء الخوف والرعب التي سادت في عهد الموفق الذي كان يخوض حرباً مع صاحب الزنج وقد نهب النفائس التي كانت موجودة داخل القبر الشريف ليستعين بها في حربه وقد رأى الناس وحشيته وهمجيته في تعذيب وقتل أسرى صاحب الزنج أمامهم وقد نقلت المصادر صوراً من عمليات وأساليب هذا التعذيب ما تقشعر له الأبدان وتشمئز منه النفوس (10) فمن الطبيعي أن يحاط حديث سقوط القبة بأسوار التكتم والصمت.

يقول الكليدار: (ولعل كثير من المسائل أيضاً ستبقى مجهولة إلى الأبد على هذا النمط لعدم إمكان الجهر والتصريح بها في حينها نظراً لما يحيط الرأي العام من ظروف وأحوال سياسية خاصة. ولذلك فلا يعرف اليوم عنها شيء وهل كان سقوط السقيفة في الحقيقة أمراً طبيعياً لم يكن للسياسة أي دخل فيه ؟ أم كان للسلطة الحاكمة يد في الأمر كما سبقت نظائره على عهد المنصور والرشيد والمتوكل بصورة علنية مكشوفة ؟ وإنما أتى الهدم في هذا الدور بتلك الكيفية الغامضة وبشكل أفظع من ذي قبل لأنه كان في عين الوقت هدماً للقبر المطهر وقتلاً للنفس البريئة ممن أتوا في مثل هذا الوقت لزيارة الحسين (عليه السلام) وهذا ما يجعل الباحث يتردد في قبول الأمر من الوجهة الطبيعية لأن الفرض الأول من أن الحادث كان طبيعياً لوجود بعض الخلل في أسس البناء نفسه لا يثبت أمام الحقائق التاريخية لأن البناء كان حديث العهد إذ ذاك ولم يتجاوز عمره يوم انهياره خمسة وعشرين سنة فلا يعقل والحالة هذه إن بناءً جديداً ينهار من تلقاء نفسه وبتلك الصورة الفجائية وبلا سابق إنذار على رؤوس الزائرين....)

ثم يستشهد الكليدار برواية ابن الحجاج التي تثبت رأيه. كما ينوّه إلى محاولة عباسية أخرى لهدم قبر أمير المؤمنين (عليه السلام) من قبل داود العباسي ابن عم إسماعيل بن عيسى العباسي الذي حضر مجلس ابن الحجاج فسكت الحاضرون خشية منه فيقول: (ولو أخذنا بنظر الاعتبار ما جاء في ذيل الخبر المتقدم بسنده عن إسماعيل بن عيسى العباسي من إن ابن عمه داود العباسي كان قد حاول في مثل هذا الوقت هدم قبر أمير المؤمنين (عليه السلام) سراً تنكشف لنا حقيقة الأمر في حادث سقوط السقيفة على رؤوس الزائرين في حرم الحسين (عليه السلام) على عهد الموفق الذي كان يسير على سيرة آبائه وإن الحادث لم يكن طبيعياً بوجه من الوجوه وإن للسلطة الحاكمة كان دخل في تدبير الأمر...)

وبقي القبر الشريف مكشوفاً لمدة عشر سنوات حتى قام ببنائه الداعي الصغير محمد بن زيد بن الحسن بن محمد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد بن الحسن المجتبى بن الحسن بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) ملك طبرستان وذلك عام (283هـ): (فشيد قبة عالية على القبر لها بابان ومن حول القبة سقيفتين ثم عمَّر السور وبنى المساكن حول القبر....)  

..............................................................................

1ــ مقاتل الطالبيين ص 204

2ــ مدينة الحسين ج 2 ص 147

3ــ تاريخ كربلاء ص 146

4ــ تاريخ العرب ص 248 ــ 249

5ــ أعيان الشيعة ج4 ص 350

6ــ تاريخ كربلاء ص 193

7ــ فرحة الغري ص 61

8ــ البحار ج 9 ص 679 ــ 680

9ــ أعيان الشيعة ج 3 ص 588 ــ 590

10ــ ثورة الزنج / الدكتور فيصل السامر ص 123

كاتب : محمد طاهر الصفار