إنقاد أغلب الفنانين لتأثير التقنية والعلم بحثاً عن كل ما هو جديد من إمكانيات تزيد وسائط التأثير قوة وتوسع نطاق التلقي، وفي أغلب الأحيان تُستغل تلك الخواص التي لا يمتلكها الإنسان في أجهزة الحاسوب، فالسرعة والدقة من الصفات التي تمتلكها ماكنة الإنتاج المتسلسل النمطي- الحاسوب - وبأدق التفاصيل، فضلا عن قابلية تجميع عدد ضخم من المعطيات وتسجيلها في ذاكرة معينة يمكن استرجاعها والتصرف الحر بها .
فالعمل الفني كتركيب مدروس لعدد من العناصر البسيطة، تتذكره الماكنة وبصفات كل عنصر من هذه العناصر على حدة، ومن ثم تكون على استعداد لصياغة هذه العناصر في منظومة واحدة ووفق قواعد محددة خاضعة لبرنامج عمل، أي إن قرارات الحاسوب تُصنع وفق المعطيات أو البرامج التي يعدّها الإنسان، والماكنة كنتاج للإنسان لا تقدر على تخطي حدود مفاهيمنا وتصوراتنا ، وكما يقول هوفستاتر لا يمكن للكمبيوتر أن يتخطى نتائج المعطيات الإنسانية التي نُقلت إليه والبرنامج الذي يحدد مجال نشاطاته والوظائف التي يقوم بها، وبالاعتماد على عنصر المصادفة تستطيع الماكنة أيضاً أن تشترط القرارات بصورة متتالية، بنتيجة القرعة, فوظيفة المصادفة تتزامن مع كثير من حقول الفن المعاصر من خلال تكويناته العشوائية، حيث ينقاد الفنان إلى فوضى الانطباعات غير المرتبة والتي يقدمها المحيط، والفنان يريد طرح هذا البعد لوجودنا والعالم، وكما يقول جون كيج يقطع جذور الأستطيقا الغربية التي نشأت منذ عصر النهضة، وبذلك نقترب من الطبيعة وأسلوب عملها .
تخلى التشكيليون تدريجياً عن التنفيذ في الفن اليدوي وأخذوا يتكئوون على مبدأ الاختيار العشوائي لعناصر التأليف وعلى عامل المصادفة في النشاط الفني، وقد اعتبر مارسيل دوشامب الاختيار بحد ذاته عملية خلق ومنح الأشياء العادية، وحين نهضت البنائية في الرسم، أعلن غابو في البيان الواقعي عام 1920 بأن التشكيليين قادرون على إظهار القوى الخفية للطبيعة.
انتشر هذا الاتجاه الفني الحداثوي في أرجاء أوروبا أول الأمر وانتقل منها إلى الولايات المتحدة الأمريكية حيث أبدعوا في منح التشكيل الحركة وبعده اغتنت ساحة التشكيل بمنجزات التقنية.
لو تتبعنا الأعمال الفنية الحركية عبر تطورها نجد ان الفن الحركي كان له وجهتان تعارض إحداهما الأخرى وتعززها في الوقت نفسه أولاهما: ذات طابع استعراضي تقليدي، إذ أن كثير من الفن الحركي كان فناً للعرض، وطموحاته بيئية، وثانيهما: ذات طابع بحثي علمي وقد رافق ذلك تطلعات جديدة تسعى لأن تدخل هذا الفن في الحياة الاجتماعية المعاصرة، لكونه فناً عاماً قابلا للعرض، موجهاً لا لمخاطبة الحسية الخاصة بل اللاوعي الجمعي، وقد تحقق ذلك فعلاً فقد أدخل في نطاق الدينامية التشكيلية للعمارة وتخطيط المدن، فدفع المشاهد للمشاركة جسدياً ونفسانيا في العملية الجمالية، ولم يقتبس رواد البنائيـة في نتاجاتهم من التقنيـة أجـزاءً مـن الحواسيب فحسـب, بـل وضعـوا هدفـاً لهـم وهو اشتغالهم على عمليات الخلـق الفني الالكتروني ذاتـها، فصـار أنصـار التقنيـة المعاصـرة يبعثون بتصاميـم منحوتاتهم إلى المصـانع كـي يتم تنفيذهـا، والشيء نفسه يفعله المعماريون والسينوغرافيون والفوتوغرافيون وصانعوا الملصقات.
اهتم التشكيليون بالكومبيوتر، إذ يكفي تزويد الكومبيوتر بالإشارات الطباعية ليحصلوا على رسوم كما تفعل الآلة الكاتبة، مع توفر الأجهزة الملحقة التي يُربط بها الكومبيوتر لتوفِر إمكانيات أكبر في مجال رسم التصاميم، حيث يتحرك القلم راسماً المباني والجسور وطرق المواصلات، وبالإمكان استنساخ الأعمال الفنية أو تقديم أعمال كرافيكية، وأصبح في غاية البساطة برمجة الكومبيوتر لأغراض الخلق الفني، ومنذ عام 1968 نظم أول معرض للكرافيك الكومبيوتري بلندن حصل فيه تقدم كبير وصارت التصاميم ذات الأبعاد الثلاثية والتي ترسمها الماكنة أو تضيؤها على الشاشة ملهماً للنحاتين والمعماريين، أو حين تخلق أشكالاً وظائفية بأمكانها الربط بين المعايير الجمالية والمعطيات التكنولوجية، وما تقترحه علينا ماكنة التشكيل هذه الخفة والطلاقة والوظائفية والتنوّع الشكلي واللوني والتي نشأت من خلالها جماعات فنية صارت أعمالها تزيّن المصانع والمكاتب والمطارات، قادت فيما بعد إلى اتجاهات معاصرة كالفن البصري وما آلت اليه ابداعات الفن الرقمي اليوم .
سامر قحطان القيسي
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق