هل تدرك الحواس وجود الله ؟

 

امتازت الكثير من المخلوقات ببعض الحواس التي تستجيب للتغيرات المحيطة بها من قبل البيئة وظواهرها المادية و الفيزيائية، وكان  للانسان نصيبا من تلك الحواس التي لم يتم الوقوف على عددها تماما ولكنه ادرك ببداهة العقل خمس حواس وهي الباصرة والسامعة والذائقة واللامسة والشامة ، واصبحت هذه الحواس هي المجسات او العوامل الوحيدة المدخلة للمعلومات لدى العقل كما ظن البعض ، ولكن بعدها تم اكتشاف حواس اخرى لدى الانسان مثل الاحساس بالتوازن المسؤول عنه الاذن الوسطى من تركيبة الجهاز السمعي لدينا ، وايضا الاحساس بالجوع والعطش وغيرها.

وللاشارة ..يرى الباحثون في علم النفس ان للحواس الاهمية البالغة في التاثير على الانسان في السلب والايجاب ولذلك افردت كاختصاص لما امتلكته من هذه الاهمية واعطوها صفة علم نفس الحواس و يرتكز هذا العلم على قاعدة أساسية مفادها أن الحواس هي المستقبلات الأساسية للعوامل و المؤثرات المتنوعة التي يتلقاها الإنسان من البيئة التي يعيش فيها و تؤدي تلك المؤثرات بعد وصولها الحواس إلى العديد من التغيرات العصبية التي يصاحبها تغيرات و مظاهر سلوكية متنوعة .

والسؤال هنا: هل يمكن للحواس ان تثبت لنا وجود الله تعالى؟

للإجابة على هذا السؤال يجب علينا عبور ثلاث حواجز مهمة  لكي نتمكن من الاجابة وهي:

 نسبية الحواس، وعجزها، وامكان خداعها:

اولا: نسبية الحواس:

يقصد بنسبية الحواس ان الحواس لدى الانسان لها امكانية محدودة وليس مطلقة وتتطبع مع البيئة المحيطة بها على حسب قوة رصد الحاسة لها ، فان النسبية في الحواس هي قضية حتمية وبديهية لدى الانسان وقد اثبتت التجارب المبسّطة صحة ما ذكر ومثال ذلك:

عند الجلوس في غرفة متوسطة الإنارة ومن ثم النظر الى ضوء ساطع من خارج هذه الغرفة فبعد زوال هذا الضوء الساطع يرى الناظر ان الغرفة اصبحت شبه مظلمة، وكذلك ان اغلق الناظر عينيه لمدة زمنية قليلة وبعد فتحها فانه سيرى الغرفة منيرة اكثر؛ وذلك لكون العين تطبعت على حالتين مغايرة للحالة الواقعية لضوء الغرفة، وان العين احست بظلام الغرفة بالنسبة لشدة سطوع الضوء عليها ، واحست بزيادة ضوء الغرفة بالنسبة الى ما تطبعت عليه من الظلام، فالعين هنا غيرت من طبيعة استشعارها للضوء.

مثال اخر:

عند جلب ثلاث اواني مملوءة بالماء الحار والبارد والدافئ، فان وضع اليد داخل الماء الحار ثم ادخالها في الماء الدافئ ستشعر ان الماء الدافئ بارد ، وعند وضع اليد داخل الماء البارد ثم وضعها داخل الماء الدافئ ستشعر ان الماء الدافئ حار ؛ وذلك ايضا للإحساس النسبي لحاسة اللمس، وكذلك الامر لبقية الحواس .

ثانيا: عجز الحواس:

ان عجز الحواس من ممارسة اكبر من مهامها هو امر بديهي ايضا فلو قلنا ان العين يجب ان ترى كل شيء! وبالتالي تثبت لنا التجربة انها تعجز عن تنفيذ ذلك فهذا عجز جسيم بها والامثلة على ذلك كثيرة ، ومنها ان العين لا يمكنها رؤية الاشياء الصغيرة جدا مع قربها منها ولا يمكنها رؤية الاشياء الكبيرة جدا مع بعدها عنها.

مثال اخر: ان حاسة السمع يمكنها سماع موجات الصوت المنحصرة بين تردد 20 هرتز الى 20000 وما دونهما في الزيادة والنقصان لا تسمعه حاسة السمع كما ثبت ذلك علميا، وكذلك الامر لبقية الحواس.

 

ثالثا:امكان خداع الحواس:

اصبحت قضية خداع الحواس من ابسط الامور في عصرنا الحالي فانه تم ابتكار طرق عديدة لخداعها ومن ذلك:

 يوجد الكثير من تداخل العوامل الفيزيائية التي تعطي صورة للعين وهمية ولكن العين تراها على حقيقتها الوهمية وليس الاصلية مثل وضع القلم في قدح  مملوء بالماء فان العين ترى انكسارا في القلم مع كون القلم في الواقع  ليس مكسورا .

وللإشارة..من مقولات رينيه ديكارت المشهورة " الحواس تخدع من آن لآخر، ومن الحكمة ألا تثق تماما فيما خدعك ولو مرة واحدة

"

وبعد عدم تمكننا من اجتياز هذه المراحل الثلاث هل يمكننا اثبات وجود الله تعالى بالحواس وان لم يمكننا اثباته بالحواس فكيف اثبتناه؟!

قبل الخوض في الجواب اقرب الصورة اكثر عن طريق حوارية رائعة مقتبسة من كتاب "هل تحب معرفة الله"

قال شخص لاحد العلماء: الحواس خمس:

1: الباصرة.

2: السامعة.

3: الذائقة.

4: اللامسة.

5: الشامة.

وكل شيء في العالم لابد وأن يدرك بإحدى هذه الحواس:

فالألوان، والأشكال، والحجوم.. تدرك بالباصرة.

والأصوات، والألحان، والكلام.. تدرك بالسامعة.

والطعوم، والمذوقات، والأطعمة.. تدرك بالذائقة.

والخشونة، واليبوسة، والرطوبة، والحرارة.. تدرك باللامسة.

والروائح، والمشمومات، والعطريات.. تدرك بالشامة.

فمن أين نثبت وجود الله؟

والحال إنا لم نره.. ولم نسمع صوته.. ولم نذق طعمه.. ولم نلمس جسمه.. ولم نشم ريحه..

فصنع العالم كرتين إحداهما من حديد، والأخرى من خشب، وصبغهما ثم أتى بهما إلى السائل، وقال:

أنا أخبرك بأن إحدى هاتين الكرتين حديد، والأخرى خشب.. أنظر وعيّن!

نظر السائل.. وعجز عن التعيين بالنظر.

قال العالم: فأصغ وعين.

أصغى السائل.. وعجز عن التعيين بالسمع.

قال العالم: ذق وعين.

ذاق السائل.. وعجز عن التعيين باللسان.

قال العالم: اشمم وعين.

شمهما السائل.. وعجز عن التعيين بالأنف.

قال العالم: ألمس وعين.

لمسهما السائل.. وعجز عن التعيين باللمس.

ثم وضعهما العالم في يد السائل، وحينذاك أدرك أن الأثقل الحديد، فقال: هذا هو الحديد. وهذا الأخف هو الخشب.

قال العالم: من أخبرك أن الأثقل الحديد، والأخف الخشب؟

قال: عقلي هو الذي أرشدني إلى ذلك.

قال العالم: فليست المعلومات منحصرة بالحواس الخمس، وإن للعقل حصة مهمة من العلوم. والله الذي نقول به، إنما هو معلوم للعقل، وان لم يكن مدركاً بالحواس..

وهنا يظهر لنا عنصرا ثالثا وهو العقل الذي يختص بادراك العلّية -دون العلة والمعلول- مجنبا للحواس فيها كما ذكر ذلك السيد محمد باقر الصدر(رحمه الله)في موضوع نظرية الحواس التي يقول فيها:

..."إنما تبرهن –نظرية الحواس- علمیا على أن الحواس هي الینبوع الأساسي للتصورات ؛ فلولا الحواس لما وجد تصور في الذهن البشري ، ولكنها لا تسلب من العقل تولید معان جدیدة لم تدرك بالحس ویمكننا أن نوضح فـشل هـذه النظریة وذلـك في محاولة إرجاع جمیع المفاهیم البشریة على ضوء دراسة عـدة من المفاهیم مثل : العلة والمعلول ، الجوهر والعرض ، الإمكان ، والوجوب ، الوجود والعدم ، وما إلى ذلك من مفاهیم وتصورات.

فنحن جمیعا نعلم أن الحس إنما یقع على ذات العلة وذات المعلول ؛ فندرك باللمس حرارة الماء حین یوضع على النار . ففي هذا المثال نحس بظاهرتین متعاقبتین ولا نحـس بـصلة خاصـة بینهمـا ، هـذه الـصلة التـي نـسمیها بالعلیـة ؛ ونعنـي بهـا تـأثیر إحـدى الظاهرتین بالأخرى ، وحاجة الظاهرة الأخرى إلیها لأجل أن توجد . فنستطیع بوضع المـاء على النار أن نحس بحرارة الماء ، وتـضاعف حرارة الماء حتى یـصل إلى الغلیان ، فلا یدرك بالحس سوى هاتین الفكرتین أما فكرة العلیة فهي فكـرة ثالثة تقوم بینهما ولا یمكن أن تدرك بالحس وانما تدرك بالعقل".

وقال تعالى  في كتابه الكريم:

{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (البقرة164

وقال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ}  (آل عمران 190).

فان التعاقب في الليل والنهار والخلق هن فكرتين محسوسات اما فكرة العلّية في اصل منشأ هذه الظواهر فهي من استنتاجات العقل فقط ولا يمكن للحواس ادراك المعنويات وتاسيس قواعد عامة، فبدأت الآيات الكريمة في وصف ما تحس به حواسنا من ظواهر العلة والمعلول وتركت الحكم في العلّية للعقل.

والنتيجة ان الحواس لا تدرك او تمتلك القدرة على رؤية الله تعالى او الاحساس به عن طريقها، اذ يتبين لنا ان للعقل الحكم الاخير بطريقة الاستنتاجات المنطقية التي يعتمد فيها على  المقدمات- المعلومات- الواردة من الحواس ليولد قواعد عامة ويكوّن قالبا فكريا رصينا لتشكيل منظومة استنتاجات يقينية مادية ومعنوية والتي من شانها اثبات وجود الله تعالى.

قال تعالى في سورة الانعام:

 {ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ  لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ  خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ  وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ 

وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)

  يقول العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي قدس سره في كتابه الميزان في تفسير القران:

وأما قوله: (لا تدركه الابصار) فهو لدفع الدخل الذي يوهمه قوله: (وهو على كل شئ وكيل) بحسب ما تتلقاه أفهام المشركين الساذجة والخطاب معهم، وهو أنه إذا صار وكيلا عليهم كان أمرا جسمانيا كسائر الجسمانيات التي تتصدى الأعمال الجسمانية فدفعه بأنه تعالى لا تدركه الابصار لتعاليه عن الجسمية ولوازمها، وقوله: (وهو يدرك الابصار) دفع لما يسبق إلى أذهان هؤلاء المشركين الذين اعتادوا بالتفكر المادي، وأخلدوا إلى الحس والحسوس وهو أنه تعالى إذا ارتفع عن تعلق الابصار به خرج عن حيطة الحس والمحسوس وبطل نوع الاتصال الوجودي الذي هو مناط الشعور والعلم، وانقطع عن مخلوقاته فلا يعلم بشئ كما لا يعلم به شئ، ولا يبصر شيئا كما لا يبصره شئ فأجاب تعالى عنه بقوله: (وهو يدرك الابصار) ثم علل هذه الدعوى بقوله: (وهو اللطيف الخبير) واللطيف هو الرقيق النافذ في الشئ، والخبير من له الخبرة، فإذا كان تعالى محيطا بكل شئ بحقيقة معنى الإحاطة كان شاهدا على كل شئ لا يفقده ظاهر شئ من الأشياء ولا باطنه، وهو مع ذلك ذو علم وخبرة كان عالما بظواهر الأشياء وبواطنها من غير أن يشغله شئ عن شئ أو يحتجب عنه شئ بشئ فهو تعالى يدرك البصر والمبصر معا، والبصر لا يدرك إلا المبصر.

واما ما ورد في سورة القيامة اية (22)-(23) فان معناها ليس مغاير لما ذكر اعلاه، قال تعالى:

{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (22) إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)}سورة القيامة

فإن الآية لم تصرح بالرؤية المادية, بل هي قابلة للتأويل من حيث احتمال النظر إلى آلاء الله تبارك وتعالى أو ثوابه وما شابه ذلك, وبما أن الأدلة العقلية الدالة على استحالة طروّ المواصفات المادية على الباري عزوجل هي أدلة ثابتة ومسلمة، فيجب صرف ظهور معنى (الرؤية ) في الآية إلى المعاني التي لا تنافي تلك الأدلة العقلية من رؤية أمر الله أو نعمه أو عظمته وأمثال ذلك.

وهذا التفسير والتأويل متفق عليه عند الشيعة، وعليه علماء المعتزلة من أهل السنة .

قيس العامري

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصادر:

1-         كتاب هل تحب معرفة الله

2-         علم نفس الحواس

3-         مركز الابحاث العقائدية

4-         الميزان في تفسير القران

المرفقات