السيد نصر الله الحائري... رحلة العلم والشهادة

(كان مجموعة كمالات، وآية من الآيات، ودعامة من دعائم الدين، وركناً من أركان الشرع المبين) بهذه الكلمات العميقة الدلالة ترجم الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء سيرة السيد المجاهد نصر الله الحائري..

حقاً إن من يستقرئ السيرة العظيمة للسيد نصر الله قراءة وافية ويستعرض حياته والأحداث التي عاصرها ودوره المؤثر والفاعل فيها ليحس أن مصادر التاريخ والأدب التي تعرّضت لترجمته لا تفي بالمرام فهي مفردات مكررة وكلها تستقي من موارد قليلة، وعن هذه الموارد القديمة القليلة أخذ من كَتَب عن السيد نصر الله مُستنداً الى الكلمات (الضخمة) التي أطلقها القدماء عليه ولم يحاولوا تسليط الضوء أكثر على حياته ومواقفه المشرفة وفق التحليل والاستنتاج.

فحياة هذا العلم الخفّاق على قصرها ــ 50 عاماً ــ قد حفلت بالكثير من المآثر والمناقب وتحتاج إلى دراسات عديدة ومراجعات طويلة لسبر غورها. كما أن ديوانه بحاجة إلى من يشرحه شرحاً وافياً ويخرجه من زوايا التاريخ ففيه ما يخلد صاحبه في أذهان كل شاعر وأديب.

وربما يأتي من يلقي أنواراً على ظلمات التاريخ ويرجع وفي جعبته مرآة العلم الصادقة والنقد الصحيح، ورغم يقيننا أن هذا المقال لا يفي بالغرض الذي قصدناه إلا إننا توخينا فتح نوافذ هذه السيرة، وتخطينا أحجار القنوط في سلوك جزء من الغاية طبقاً لقاعدة (مالم يدرك كله لا يترك جله).

هو عالم وفقيه وشاعر ومجاهد كبير آثر ترك ترف الحياة وميسورها وألِف حياة الصعاب والجهاد بالكلمة والحقيقة في الدفاع عن الإسلام الحق المتمثل بأهل البيت (عليهم السلام)، وكان يحسّ إنه قد خُلق لها فكان من أقطاب الحركتين العلمية والأدبية في كربلاء والعراق والعالم الإسلامي ومن أساطين العلماء وكبار المجاهدين الشهداء.

أفنى عمره في خدمة الدين وترحّل في البلدان الشاسعة لبث الحقيقة ونصرة المذهب وإقامة الحجة,  بالتأليف والخطابة والنثر والشعر فكان من كبار الشعراء الذين تفانوا في مدح العترة النبوية الطاهرة ورثائهم، فجمع بين الفضيلتين وبرع فيهما وحاز الإكبار والإجلال بكل جدارة واستحقاق, فكما اتسع نطاق بحثه العلمي حتى أهّله لأن يتصدّر المناظرة مع علماء بغداد في النجف الأشرف حين جمعهم السلطان (نادر شاه), فقد أبدى مقدرة أدبية فذّة وشاعرية كبيرة، فتجد ديوانه شاهداً على ذلك لما فيه من التفنّن في الوصف والتنوّع في البديع دلّ على سعة اطلاعه في أبواب الأدب وأمثال العرب.

هو أبو الفتح عز الدين نصر الله بن الحسين بن علي بن يونس بن جميل بن علم الدين بن طعمة بن شرف الدين بن نعمة الله بن أبي جعفر أحمد بن ضياء الدين يحيى بن أبي جعفر محمد بن شرف الدين أحمد المدفون في عين التمر والمعروف بـ (أحمد بن هاشم) بن أبي الفائز محمد بن محمد بن أبي الحسن علي بن أبي جعفر محمد خير العمال بن أبي فويرة علي المجدور بن أبي عاتقة أبي الطيب أحمد بن محمد الحائري بن إبراهيم المجاب بن محمد العابد بن الإمام موسى الكاظم (عليه السلام).

ولد في كربلاء المقدسة حوالي عام (1100هـ) ودرس على يد كبار العلماء الأعلام وأجازوه بالرواية والاجتهاد لما عرفوا منه من النبوغ, وتفيد تواريخ بعض الاجازات إلى أن السيد نصر الله حاز الاجتهاد وهو حدث السن وممن أجازه بهذه الشهادة من العلماء الأعلام الشيخ محمد باقر النيسابوري، والسيد محمد بن علي العاملي المكي، وأبو الحسن الشريف العاملي، والسيد نعمة الله الجزائري، والشيخ علي بن جعفر بن علي البحراني وغيرهم، وقد تصدى السيد نصر الله للتدريس وتتلمذ على يديه مجموعة كبيرة من العلماء منهم السيد محمد بن أمير الحاج، والشيخ علي بن أحمد العاملي، والشيخ أحمد بن حسن النحوي، والسيد حسين بن مير رشيد الرضوي الذي جمع ديوانه.

يقول المحقق السيد حسن الصدر في كتابه (تكملة أمل الآمل) بعد أن يذكر الكثير من الأعلام الذين يروي عنهم السيد نصر الله: (وأما من يروي عنه فجماعة كثيرة أكثر من أن يحصوا يعرفهم الواقف على الإجازات)، وقال عنه السيد محسن الأمين في (الحصون المنيعة) بعد أن أثنى عليه وذكر ترجمته وأسفاره: (كان آية في الفهم والذكاء وحسن التقرير وفصاحة التعبير مقبولاً عند المخالف والمؤالف) ويقول عنه السيد عبد الله التستري: (السيد الجليل النبيل المحقق المحدث نصر الله بن الحسين الموسوي الحائري المدرس بالروضة المنورة الحسينية ــ قدس سره ــ كان آية في الفهم والذكاء وحسن التقرير وفصاحة التعبير شاعراً أديباً له ديوان حسن وله اليد الطولى في التاريخ والمقطعات وكان مقبولاً عند المخالف والمؤالف) الى أن يقول: (وكان يدرس الاستبصار ويجتمع في مدرسته جمع غفير من الطلبة إعجاباً منهم لحسن خلقه ومنطقه), كما ترجم له عصام الدين العمري الموصلي في (روض النظر) فقال ما نصه: العلامة السيد نصر الله الحائري:

وحيدٌ أريــــبٌ في الفضائلِ واحدٌ   ***   غدا مثل بسمِ اللهِ فــهو مقدَّمُ

إذا كان نورُ الشمسِ لازمَ جرمَها   ***   فطلعتُه الزهراءُ نورٌ مجسّمُ

واسطة عقد بيت السيادة, وإكليل هام النجابة والسعادة, تجسم من شرف باهر, وكرم سعى إليه الظلف والحافر...الخ).

سافر السيد نصر الله إلى قم المقدسة سنة (1142هـ) واتصل به علماؤها فقضى هناك فترة من الزمن وفيها نال إعجاب العلماء والعارفين, وللسيد نصر الله تصانيف كثيرة منها كتاب (الروضات الزاهرة في المعجزات بعد الوفاة)، وكتاب (سلاسل الذهب المربوطة بقناديل العصمة الشامخة الرتب)، ورسالة في (تحريم التتن) وذكر الحجة الكبير الشيخ المحقق أغا بزرك الطهراني في (الكواكب المنتثرة) في ترجمة السيد نصر الله فقال بعد أن ذكر نسبه الشريف: (المدرس الشهيد قبل سنة (1168) للهجرة وله تقريظ الكرارية لناظمها الشيخ شريف بن فلاح الكاظمي).

وإضافة الى هذه الكتب فللسيد نصر الله ديوان حافل بفنون الشعر وهو شاهد صدق على علو منزلته الأدبية وقد نهج فيه على نهج الشاعر صفي الدين الحلي الذي عرف بفنونه الأدبية من البديع والجناس و التورية وإلى غير ذلك من أنواع البديع، ففي قصيدة المناجاة في مدح الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الكرام (عليهم السلام) يلتزم في سائر قوافيها جناس القلب يقول فيها:

أيا ربِّ (بالمختــــــــــارِ) صفوتِك الذي   ***   به فرقةُ الإسلامِ في الحشرِ نـــاجيهْ

و (بالمرتضى) السامي الذي من كلامِه   ***   جميعُ الورى زهرُ المعــارفِ جانيهْ

وبالبضعةِ (الزهــــــرا) التي أمَّة الهدى   ***   شفاعتُها يوم القيـــــــــــــامةِ راجيهْ

و (بالحسنِ) الطهرِ الــزكيِّ الـذي غدتْ   ***   مودتُه في أبحـــــــرِ الخطبِ جاريهْ

وبالطاهرِ الزاكي (الحسينِ) الـذي غدتْ   ***   عليه كلابٌ للغــــــــــــــوايةِ عاويهْ

وبالعابدِ (السجَّادِ) ذي الثفنـــــــــاتِ من   ***   له إذنُ نقرٍ للمـــــــــــــــلائكِ واعيهْ

و (بالباقرِ) العلمِ الذي كلمــــــــــــــــاته   ***   لألبابِ أربابِ الجهـــــــــــالةِ شافيهْ

و (بالصادقِ) القولِ الجزيلِ الندى الذي   ***   فضائلُه بين البــــــــــــــــريةِ فاشيهْ

و(بالكـــــــــاظمِ) الغيظِ العليمِ الذي عدا   ***   عليه الغويُّ الكلبُ (فليـــــدعُ ناديهْ)

وبالماجدِ المــــولى (عليّ الرضا) الذي   ***   قطوفُ نداهُ للمــــــــــــــــؤمَّلِ دانيهْ

وبالناسكِ البَرِّ (الجــــــــوادِ) الذي غدا   ***   بطيبِ شذاهُ مرخصـــــــــاً كلَّ غاليهْ

وبالزاهدِ (الهادي) إلى الـــــرشدِ الذي   ***   بمجلسِه لم تسمـــــــــــعِ الأذنُ لاغيهْ

وبالعسكريِّ المجتبى (حســـــن) الذي   ***   مناقبُه بالأنجمِ الزهرِ هــــــــــــــازيهْ

و(بالقائمِ) المهديِّ ربِّ البــــــها الذي   ***   به روضةُ الإيمـــــــــانِ تصبحُ زاهيهْ

أجرنا من النيرانِ يومَ معـــــــــــادنا   ***   فما أمَّ من يهوى الأئمـــــــــــــة هاويهْ

وله قصيدة عصماء تعد من غرر قصائده في حق أمير المؤمنين (عليه السلام) قالها عند تذهيب القبة الشريفة للمرقد العلوي الطاهر ولجودتها فقد خمسّها تلميذه الشاعر الشيخ أحمد النحوي يقول فيها:

إذا ضامكَ الدهرُ يوماً وجارا   ***   فلُذْ بحمى أمــــنع الخلقِ جارا

عليُّ العليُّ وصــــــــنوُ النبيِّ   ***   وغيثُ الوليِّ وغوثُ الحيارى

هزبرُ النزالِ وبحرُ النــــوالِ   ***   وبدرُ الكمالِ الــذي لا يُوارى

وفي رثاء الإمام الشهيد الحسين (عليه السلام) يقول:

هلّ المحرمُ فاستهلَّ دمــوعي   ***   وأثارَ نارَ الوجدِ بين ضلوعي

وأماتَ سلواني وأحيا لوعتي   ***   وأطالَ أحزاني وروّعَ روعي

ثم يقول:

أتموتُ عطشــــاناً وكفكَ سحبُها   ***   كمْ أنبتتْ للنـــــاسِ زهرَ ربيعِ

لو كنتَ مثلي ذاتَ حزنٍ صادقٍ   ***   لأفضتَ دمــعَ العينِ كالينبوعِ

يامن تباكى مثل مــن يبكي دماً   ***   (فضحَ التطبّعُ شيمةَ المطبوعِ)

وله قصيدة يجاري فيها قصيدة الشريف الرضي المقصورة في رثاء سيد الشهداء (عليه السلام) يقول فيها:

واوحيــداً لم يغمِّــــــــــض طرفَه   ***   كفُّ ذي رفقٍ به في كربلا

وا شهيداً دمُـه كالمــــــــــسكِ في   ***   طيبةٍ قد أفعــــمَ الجوَ شذى

وا صريعاً أوطــــــــــــأوا خيلَهم   ***   أيّ صدرٍ منه للعــلمِ حوى

واطريحاً في الثرى وهو أبن من   ***   قابَ قوسينِ من الله دنـــــا

ويقول أيضاً في مدينته ((كربلاء)) التي تشرفت بالأجساد الطاهرة للإمام الحسين وأهل بيته وأصحابه:

يا بقـاعَ الطفوفِ طابَ ثراكِ   ***   وسقى الوابلُ الملثُّ حماكِ

وحَمـاكِ الإلهُ من كل خطبٍ   ***   فلقد أخـجلَ النجومَ حصاكِ

وتمنّــــــى الهلالُ لو جعلوه   ***   طاق إيوان مشهدٍ بكِ زاكي

ووجوهُ الـملوكِ تحسدُ فرشاً   ***   تحتَ أقــــــدامِ زائرٍ وافاكِ

كما ضم الديوان عدّة تخاميس ومجاراة منها قصيدته التي خمس بها القصيدة الميمية الشهيرة للفرزدق في حق الإمام زين العابدين (عليه السلام) يقول فيها:

هذا الذي ضــمنَ القرآنُ مدحتَه   ***   هذا الذي ترهـبُ الآسادُ صولتَه

هذا الذي تحسدُ الأمطارُ راحتَه   ***   هذا الذي تعرفُ البطحاءُ وطأتَه

والبيتُ يعرفه والحلُّ و الحرمُ

هذا ابنُ من زيَّنــوا الدنيا بفخرِهمُ   ***   وأوضحوا دينَنا في صبحِ علمهمُ

وأخصبوا عيشَنا في قطرِ جودِهمُ   ***   هذا ابنُ خيرِ عبــــــــادِ اللهِ كلهمُ

هذا التقيُّ النقيُّ الطاهرُ العلمُ

ويقول في مدح الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام):

كهفُ الحجى الزاكي عليّ الرضا   ***   نورُ الهدى الساطعُ خيرُ العبادْ

سليـــــــــــلُ موسى آية اللهِ و الهــــــــــــــادي الى الحقِّ وبــــابُ الرشادْ

بحرُ نــــــــــــوالٍ قد غـدا ضامناً   ***   لزائريــــــــهِ الفوزَ يومَ المعادْ

كما احتوى الديوان على بعض التشطيرات والبنود والأراجيز وأغراض الشعر الأخرى.

كان السيد نصر الله مصداقاً لقوله تعالى "والذين جاهدوا فينا لنهديهم سبلنا" فقد أفنى عمره في خدمة الدين والمذهب حتى مضى شهيداً في سبيل ذلك، سافر إلى قم المقدسة سنة (1142هـ) واتصل به علماؤها فقضى هناك فترة من الزمن وفيها نال إعجاب العلماء والعارفين، وكان يدرّس فيها كتاب الاستبصار، ثم سافر منها إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة حتى استشهاده في (إسلامبول) في سبيل الدعوة إلى الحق، وقصة استشهاده كما يرويها المؤرخون إنه زار النجف الأشرف سلطان إيران (نادر شاه) سنة (1156) للهجرة فجمع علماء المذاهب على أن يحققوا بأن الإسلام يبتني على خمسة مذاهب فعقدوا الاتفاق على ذلك وأقاموا الجمعة والجماعة في مسجد الكوفة يؤمّهم ويخطبهم السيد نصر الله، ثم أرسله السلطان مع هدايا وتحف إلى الحرمين الشريفين إتماماً لذلك الأمر فذهب ورجع ثم زار السلطان النجف الاشرف مرة ثانية وأجتمع بالسيد نصر الله وأرسله سفيراً إلى (القسطنطينية) في أيام السلطان محمود العثماني لإمضاء الاتفاق المتقدم الذكر ولكن الوشاة والحاقدين دبّروا مؤامرة دنيئة وحاكوا خيوطها وأوغروا صدر السلطان على السيد نصر الله فأغتاله هناك فسقط شهيداً محتسباً ودفن هناك.

محمد طاهر الصفار                  

المرفقات

: محمد طاهر الصفار