لاريب ان الموضوعية هي الأساس الذي يحقق الشمولية والتعميم في نظم المعرفة العلمية ومن خلاله يكسب المنجز العلمي - نظرية قانون منهج ، منتج - الوجود الموضوعي إزاء ما هو فردي وذاتي، بحيث ينطبق على جميع الظواهر المتماثلة ، وبالتأكيد لابد ان يكون مقترناً بالصدق والثبات لتحقيق هدف المنجز المبتغى تحقيقه، متجاوزاً بذلك الذات للوصول إلى الفهم انطلاقاً من الهدف الأساسي للعلم الذي يعطينا تفسيراً صحيحاً ونهائياً عاماً بخصوص الحقيقة والواقع، وهذا ما يجعل المنهجية العلمية تتطور باستمرار في هذا السبيل، والموضوعية في العلم تزيح كل ما يرتبط بالذات من عناوين كالإحساس والعاطفة والوجدان وما إلى ذلك ... ما يجعلها أكثر قدرة على التنامي والتطور .
وبما إن الفن نتاج فردي أساسهُ الإنسان ومصدره المدخلات والمخرجات الحسية كمعطيات أساسية في تشكيل التجربة البصرية الفنية داخل حقل الوسائط المتمثل باللوحة وما يطرأ عليها من متغيرات في نمط الاتجاه الذي يشتغل علية الفنان، فإنه يحقق الذاتية المتفردة ضمن دوائر التخصص الفني من جانب، ومن جانب أخر فإن الفن صفة متعالية عن الموضوعي تصلنا عن طريق الوعي عبر المشاعر والخيال والحدس المرتبط بالوعي الأدائي، هذا ما يجعل النزعة الموضوعية أشد خطورة فهي تغفل عما هو أهم عند الفرد وهي الذات، متجاهلة المعطيات الأكثر تحققاً في التجربة الفنية لصالح ما هو مجرد وكلي وعام .
الموضوعية مرتبطة ارتباطاً حتمياً بحدود المعادلة- مدخلات ومخرجات - في حين يسعى الفن على عكس نظام المعادلات محاولاً تهميش كل ما هو عام لصالح ما هو خاص، وبالنتيجة صياغة قوانين خاصة لا تخضع لأي مبادئ وقوانين عامة وشاملة، هذا إذا ما عرفنا الإبداع بعده على انه ضرب من ضروب التحرر من قيود الزمان والمكان، ولا يعد الإبداع توسعاً وتحولاً للآفاق، لا لأنه يدحض ما هو مألوف ومعتاد ومستقر وثابت في القوانين العامة بل هو ينزع من التناقض صيغ متوازنة ومنسجمة ويجعلها أكثر قدرة على التفوق، من القوانين الموضوعة ضمن منطقة الإبداع والعرف الجمالي، فالذاتية نقطة البداية للعملية الإبداعية وهي الأساس الحقيقي للمعرفة الفنية بل أن العمل الفني هو حقيقة الذات موضوعة على السطح التصويري .
وينتج مما تقدم فإنه يمكن الاستنتاج ان الذاتية هي مجموعة من القيم المتحققة والمندمجة في واقعة ما، تشكل كلاً كاملاً متجاوزاً حدوده المكانية والزمانية ومؤسساً قوانين خاصة تتحول بتحول العاطفة والوجدان والقيم الاجتماعية، وإن المرجعيات البيئية والفكرية هي الأساس الذي تنطلق منه الذات المبدعة الحرة لتحقيق فعل الإبداع ليس بالمماثلة والمحاكاة بل بالتجاوز والانفلات بصياغة ما هو متناسب وقيمة العمل الفني .
فإذا كانت الموضوعية عملية مسيطرة عليها عقلياً متنحياً منها الجانب العاطفي والوجداني فالذاتية تتحقق باندماج العاطفي الحسي مع العقل التجريبي بحرية تحركها إرادة حرة غايتها الوحيدة إنتاج أثر فني يتفق وينسجم مع الذات الحرة وكأنه جزء منها، فالذات عبر المخيلة كثيراً ما تغير من نظم التركيب بما ينسجم ويتلاءم مع المتحول الآني على السطح التصويري بقصد تنحيه الموضوعي .
وعليه فالمفهوم الذاتي في المعرفة الفنية هو موضوعي من حيث نظمهِ المتحولة وإعادة الصياغة بقصد التفرد إلى الحد الأدنى من الخصوصية وهذا لا يتحقق إلا بقدرة وعي متعالية متفوقة تعي نظم العلاقات وآليات التحليل والتركيب وإعادة التركيب بما يضمن تحقق فعل الإبداع .
إن الذاتية والذاتي مصدر باعث وفاعل داخل العملية الإبداعية في حركات الرسم الحديث بشكل خاص، وهي ملازمة له فالذاتية ثابتة بوصفها مفهوماً ومتحولة بوصفها آلية اشتغال، وذلك بسبب التحولات في الأنظمة المشكلة لكل اتجاه ولكل ذات، فالمفهوم متداخل باختلاطه بالظواهر والوظائف والصور والدلالات التي يتوسطها بعلاقتهِ بالمرئي واللامرئي عبر المتخيل وعلاقته بالمفاهيم (الأنا ، الروح ، العقل ، النفس) التي تتداخل في إنشاء مفهوم يعمل في سياقات مختلفة، لذلك نجده أي الذاتي يتمظهر بأشكال مختلفة باستنادهِ للمنطلقات الجمالية والأسلوبية في الفن الحديث ومن هنا يتوضح لنا إن مفهوم الذاتي في العلوم الأخرى، وذلك لما يحمل من الظواهر وعلاقات واقعة ضمن مجال تأثيره، حيث يغدو تعبيراً تجريدياً موجزاً يشير إلى مجموعة من الحقائق أو الأفكار المتقاربة أو صور ذهنية يستطيع من خلالها الفنان أن يتصورها في موضوع الفن الحديث بمدارسه المختلفة.
لذلك تظهر الذاتية خارج قوانين الضبط والأحكام التي تتسم بها الموضوعية في العلم، فالعمل الفني لا يهتم بالصفة والأشكال المصطنعة أو المفروضة على ذات الفنان، كونها تأتي وتنبع من خارج الذات وهذا ما يراه كروتشيه من إن الأشكال المصطنعة لا تحمل الصدق الذي يحتاجه الفنان، فالعمل الفني خلق حر مصدره ذات الفنان غير المقيدة بقوانين، فالذاتية وحدها تستطيع أن تتقصى لاستخلاص الرائع أو الجميل، وبتجاوز الواقعي والعابر السريع الزوال وغير الثابت، فما هو جميل في الواقع إنما هو كذلك كون الذات تنظر إليه من وجهة نظر خاصة، مع إيماننا بأن الفن جدلاً قائماً على الاختلاف والاعتراض باستمرار من ذات الفنان وهذا ما يتفق ومفهوم الحداثة .
وعليه تكمن أهمية الذاتي كسمة من سمات المعرفة الفنية بأنها تجعل من النظام البنائي للعلاقات الشكلية يسير باتجاه معين عند كل تيار أو فنان، وهذا ما يجعل للعلاقات بين العناصر البصرية للشكل حياة وجدانية خاصة ، تحمل صفات المنتج وأهدافه الجمالية، وتتمثل عملية إيجاد آلية الذاتية والبنية التي تولدها مرتبطة بطبيعة معرفة الذات وانطلاقاتها الجمالية وتمركز بنيتها حول عنصر من عناصرها، وعلى هذا نجد إن مفهوم الذاتية والذاتي في الرسم الحديث يمثل قيمة معرفية وجمالية لا يمكن الاستغناء عنها في حقل المعرفة الفنية وحقل التشكيل بشكل خاص ومنه الرسم وإن اختلفت مظاهر الوعي وأساليب عمله في اتجاهات الفن الحديث .
سامر قحطان القيسي
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق