كربلاء في تباشير الشعر

استقطبت كربلاء قمم الشعر العربي وقاماته على مدى أدواره وقرونه, فراحوا ينهلون من تلك الوقفة التي وقفها سيد الشهداء عظمة الإباء, وعظمة الثورة, كما كانت كربلاء عرقاً ينبض فيهم في كل زمان ومكان فصدحوا بها حتى في زمن الحكومات التي حاربت هذا الاسم أشد من حربها أعدائها.  

في حذو منهج السبق الزمني لذكر اسم كربلاء في الشعر العربي نجد قصيدتين يعود تاريخهما إلى نفس السنة ذكرت فيهما كربلاء قبل استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) فيها, حيث تشير المصادر التاريخية إلى أن اسم كربلاء دخل الشعر العربي لأول مرة سنة (12هـ/633م) عندما غزاها خالد بن الوليد فقتل رجالها وأسر وسبى نساءها (1), وأول شعر ذكر اسمها هو في قصيدة طويلة لـ (معن بن أوس المزني) يرثي بها كربلاء وما تعرضت له من كثرة القتل والسبي والأسر على يد خالد, وقد رجّح المؤرخون على أنه أول شعر ذكر هذه الأرض, كما ذكر ذلك الدكتور مصطفى جواد (2).

ومن الغريب أن هذه القصيدة الطويلة التي قالها معن والتي تعد أول ما قيل عن كربلاء في الشعر العربي كانت من ضمن قصائد (النوائح)!! وكأن هذه الأرض قد افتتحت حوادثها على الحزن المستديم منذ بواكيرها وأبت أن يفارقها هذا الحزن.

وإضافة إلى قصيدة معن فهناك أبيات ذُكر فيها اسم كربلاء يعود تاريخها إلى نفس العام أي (12هـ/633م) ولكن لم تسمِّ المصادر اسم قائلها سوى إنها: لــ (رجل من أشجع) كما ذكر ذلك الطبري (3).

معن بن أوس المزني

إذا هي حلت (كربلاء) فلعلعا   ***   فجوز العذيبِ دونها فالنوائحا

هذا البيت هو من قصيدة طويلة لمعن بن أوس بن نصر بن زياد المزني من مخضرمي الجاهلية والإسلام رحل إلى الشام والبصرة وكف بصره, فكان يتردد على عبد الله بن عباس, وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب, وعُمِّر حتى أدرك عصر عبد الله بن الزبير فصحبه, وقد ذكر ياقوت الحموي (4) البيت مع أبيات أخرى في (النوائح) و(المعبر)، كما ذكره أبو الفرج الأصفهاني وقال: وهي قصيدة طويلة، وقد ذكرها معن في غزو خالد بن الوليد كربلاء وسبي أهلها (5), وقال: ياقوت الحموي في كلامه على الكوفة ما نصه: (ثم توجه ــ أي خالد ــ إلى المدائن فلم يجد معابر فدلوه على مخاضة عند قرية الصيادين أسفل المدائن فأخاضوها الخيل حتى عبروا وهرب يزدجرد إلى أصطخر فأخذ خالد كربلاء عنوة وسبى أهلها) ومن هذه القصيدة الطويلة قول معن يصف هذه الحادثة:

إذا هي حلّت (كربلاءَ) فلعلعا   ***   فجوزُ العذيبِ دونَها فالنوائحا

فبانتْ نواها من نواك فطاوعت   ***   مع الشانئينَ الشانئاتِ الكواشحا

توهّمتُ ربعاً بالمعبَّرِ واضحاً   ***   أبتْ قرّتاهُ اليومَ إلا تراوحا

أربّتْ عليه رأدةٌ حضرميةٌ   ***   ومرتجزٌ كأنَّ فيه المصابحا

فقولا لليلى هلْ تعوّض نادياً   ***   له رجعة قال الطلاق ممازحا

فإن هي قالت: لا تقولا لها بلى   ***   ألا تتقينَ الجارياتِ الذوابحا

ويعد هذا الشعر هو أقدم شعر ذكرت فيه كربلاء.. وكأن طينتها قد عُجنت بماء الحزن فأبى أن يفارقها!!

ولمعن قصائد أخرى كثيرة, وهو صاحب لامية العجم التي مطلعها:

لعمرك ما أدري وإني لأوجلُ   ***   على أيّنا تعدو المنية أولُ

رجل من أشجع

لقد حُبستْ في (كربلاءَ) مطيتي *** وفي العينِ حتى عادَ غثاً سمينُها

رواه الطبري (6) وياقوت الحموي (7) مع بيتين في قصة غزو خالد بن الوليد العراق ونزوله كربلاء حيث أقام فيها أياماً فشكا إليه عبد الله بن وثيمة النصري الذباب فقال رجل من أشجع (ولم يسمِّه) فيما شكا ابن وثيمة:

لقد حُبستْ في (كربلاءَ) مطيتي   ***   وفي العينِ حتى عادَ غثاً سمينُها

إذا رحلتْ من منزلٍ رجعتْ له   ***   لعمري وإيها إنني لأهينُها

ويمنعُها من ماءِ كلِّ شريعةٍ   ***   رفاقٌ من الذبِّانِ زرقٌ عيونُها

ومع عدم الجزم بتقدّم القول الأول على الثاني في السبق الزمني أو بالعكس فإن هذين القولين هما أول شعر ذُكر فيه اسم كربلاء في تاريخ الشعر العربي.

ثم تبدأ مرحلة جديدة لكربلاء مع الشعر بعد أن حملت إرثاً عظيماً ضخماً، وأثراً عميقاً مدوياً، منذ اصطبغت أرضها بدماء الشهادة، واستوعبت تلك الروح الإنسانية الكبيرة التي حملت مبادئ السماء لتجسّدها تجسيداً كاملاً وبأروع صورة على أرضها، فبثت في الشعر روحه، وأسبغت عليه جوهره، ولقنته خلقه وإبداعه، وبالمقابل فقد استمدّ هو منها كنهه...

محمد طاهر الصفار

الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة

..............................................................................

1ــ ياقوت الحموي (معجم البلدان) ــ البلاذري (فتوح البلدان) (ص248ــ249)

2ــ (موسوعة العتبات المقدسة) ــ قسم كربلاء ــ ص10

3ــ حوادث سنة (12هـ)

4ــ معجم البلدان

5ــ الأغاني (ج12ص63)

6 ــ حوادث سنة (12هـ)

7ــ معجم البلدان ــ باب كربلاء

المرفقات

كاتب : محمد طاهر الصفار