لحظة المسرى ..

اللهم بارك لي في لقائك .. قالها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وهو يستقبل المسجد والقناديل قد خمد ضوؤها، فاعتلى المئذنة وعلا صوته بالأذان حتى نزل منها وجعل يسبّح الله ويقدّسه ويكبّره واتجه إلى محرابه وقام يصلي فتحرك إذ ذاك اللعين ابن ملجم ووقف خلفه وأمهله حتى صلى الركعة الأولى وركع وسجد السجدة الأولى منها ورفع رأسه، وما هي إلا لحظات حتى هوى اللعين بالسيف على رأسه الشريف فقال (عليه السلام): .. بسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله .

قبض بعض أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) على ابن ملجم وساقوه إلى موضع الإمام فقال له الحسن (عليه السلام): ( هذا عدو الله وعدوك ابن ملجم قد أمكن الله منه وقد حضر بين يديك)، ففتح أمير المؤمنين(عليه السلام)عينية ونظر إليه وهو مكتوف وسيفه معلق في عنقه، فقال له: ( يا هذا لقد جئت عظيماً وخطباً جسيماً.. أبئس الإمام كنت لك حتى جازيتني بهذا الجزاء؟؟ )، ثم التفت (عليه السلام) إلى ولده الحسن وقال له: ( اِرفق يا ولدي بأسيرك، وارحمه،وأحسن إليه، وأشفق عليه، ألا ترى إلى عينيه قد صارتا في أمّ رأسه، وقلبه يرتجف خوفاً ورعباً وفزعاً ) ، فقال له الحسن: ( يا أبتاه قد قتلك هذا اللعين وأفجعنا فيك.., وأنت تأمرنا بالرفق به ؟! ) فقال له: ( نعم يا بني نحن أهل بيت لا نزداد على المذنب إلاّ كرماً وعفواً، والرحمة والشفقة من شيمتنا لا من شيمته، بحقي عليك فأطعمه يا بني مما تأكله، واسقه مما تشرب، ولا تقيّد له رِجلا ، ولا تغلّ له يداً، فإن أنا متّ فاضربه ضربة بضربة ، ولا تمثل بالرجل، وإن عشت فأنا أولى بالعفو عنه، وأنا أعلم بما أفعل به، فإن عفوت فنحن أهل بيت لا نزداد على المسيء إلاّ عفواً وكرماً).

وجمع أمير المؤمنين أهله وولده وأوصى الحسن والحسين بوصيته الأخيرة المعروفة وكان يغمى عليه ساعة تلو الأخرى لشدة السم في جسده الشريف، فأدار عينيه في أهل بيته كلهم وقال : (أستودعكم الله جميعاً سدّدكم الله جميعاً ، حفظكم الله جميعاً ، خليفتي عليكم الله وكفى بالله خليفة)، ثم اردف قائلاً : (وعليكم السلام يا رسل ربي): (لِمِثْلِ هذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ) (إِنّ اللّهَ مَعَ الّذِينَ اتّقَوْا وَالّذِينَ هُم مُحْسِنُونَ) وعرق جبينه وهو يذكر الله كثيراً، وما زال يذكر الله كثيراً ويتشهد الشهادتين، حتى فاضت روحه الطاهرة (عليه السلام) بعد ليلتين من إصابته بضربة الغدر، فسلام عليك يا أمير المؤمنين ووصي رسول الله ورحمة الله وبركاته ..

اللوحة أعلاه من منجزات الفنان الإيراني فرهاد صادقي، وهو أحد مبدعي الرسم الحديث وفن المنمنمات في إيران، وهي تمثل لحظة غدر اللعين ابن ملجم بالإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في محرابه.

إذ وقف اللعين إزاء الإمام (عليه السلام)، فأمهله حتى أدى الركعة الأولى وركع وسجد السجدة الأولى منها ورفع رأسه، فعند ذلك أخذ السيف وضربه على رأسه الشريف، فوقع الإمام على وجهه الشريف ولم يتأوّه بل قال: (بسم الله.. وبالله.. وعلى ملة رسول الله)، ثم قال: (قتلني ابن ملجم، قتلني ابن اليهودية فزت ورب الكعبة، فزت ورب الكعبة) وأحاط الناس بأمير المؤمنين (عليه السلام) في محرابه وهو يشدّ الضربة ثم تلا قوله تعالى: ( مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى).

قدّم الفنان صادقي منظوره المبتكر وحساسيته الخاصَّةَ للألوان والأشكال ببراعة ودقة عاليتين ، فقد استخدم الفنان مخيلته الواسعة المستمدة مما ورد عن لحظة استشهاد أمير المؤمنين عليه السلام وإيمانه بليالي القدر المباركة لتصوير هيأة امير المؤمنين وهو جالس في محرابه وملائكة السماء تحفّ به من كل جانب والسماء بقمرها المنير في فضاء اللوحة وأبواب الرحمة الإلهية التي مثلها الفنان بالمحراب المفتوح على السماء، والأنوار المنبعثة منه وإليه.  

عمد الرسام في هذا التكوين الإبداعي وعبّر عن معالجاته البنائية ذات المنحى التعبيري الرمزي باستدراجه المشاهد المتأمل للوحة لتأكيد مبدأ حرية التعبير المباشر عن الحالة الذاتية بواسطة الألوان والأشكال الموزّعة على سطح اللوحة وبشكل مجاميع نصف دائرية موزّعة طولياً بما بتوافق واستطالة اللوحة، مما أعطى فرصة التخيّل وإعطاء مساحة واسعة وأبعاد معنوية للمشاهد، لتكون المحصلة أشكال روحية تحاكي نفس المتلقي وتحفّز نظام الإدراك لديه وتفتح الباب أمام تأملاته وتخيّلاته ليقترب من المعنى الروحي للوحة، بوصف المتلقي جزءاً من العمل لا يكتمل إلّا بحضوره .

سامر قحطان القيسي

الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة

المرفقات