تزخر الفنون الإسلامية بنماذج مختلفة من المنمنمات التي لها مداخلها ومخارجها وأنماط تدليلها، ففي كل منها نص كغيره من نصوص الفنون الأخرى التي تتحدد باعتبارها تنظيماً خاصاً لوحدات دلالية متجليّة من خلال الرموز والإشارات والعلامات وأوضاعها المتنوعة، وإن أشكال حضورها في الفضاء والزمان كفيلة بتحديد العوالم الدلالية التي تكتنزها، ومن هذه الرؤية لا يمكن للمنمنمة أن تتحول إلى نص إلا من خلال عملية انتقاء مزدوجة بين الرموز والعلامات والإشارات التي يجب أن تظهر وانتقاء ما يجب أن تختفي منها.
إن عملية فهم وتأويل صور المنمنمات باعتبارها نشاطاً معرفياً لم يعد يقف في حدود النصوص الأديبة المرافقة لها, بل تعدّى ذلك إلى النصوص البصرية كونها تؤدي ذات الدور الذي تبثه أنواع أخرى من النصوص، وهو في نفس الوقت يمثل نشاطاً ضرورياً تستند إليه العديد من العلوم الإنسانية من أجل فهم أفضل للقيمة التراثية والحضارية للمنمنمة .
وعلى الرغم من أن مفهوم التأويل شديد الارتباط بالتصوّر الذي نملكه عن دلالات المنمنمات وعن شروط وجودها وأشكال تحققها الأولية في مجال الصورة الذهنية على الأقل ، فإن الملامح الأساسية في تكوينها والمعتمدة على أنواع خاصة للخط العربي ، تشير إلى أن هذه الخطوط لا تقف في حدود دلالاتها اللغوية وإنما تجاوزت ذلك إلى قيمتها الجمالية التي تسهم في إعادة صياغة التكوين الفني الذي بدأه الفنان ولم يتمه، ليضيف بعد ذلك المزخرِف مفردات وإن استقلت في ظاهرها عن الموضوع إلا أنها تمثل جزءاً أساسياً من بيئة تلك المنمنمة التي لا تستغني عنه، فالمعاني التي تحملها تلك الخطوط ودلالاتها اللغوية تسهم بشكل فاعل في تحديد المعنى والموضوع في آن معاً ، وهنا قد تكون أبسط التعابير الدالة على التأويل وضروراته هو ما تجتمع عليه كل تلك العناصر في التكوين رغم تعدد دلالاتها المنفصلة، سواءً تعلّق الأمر بأشكال الخطوط المستخدمة أو طرز مختلفة من الزخارف النباتية أو الهندسية أو الحيوانية، أو الرسوم التشخيصية التي تحتفي بها اللوحة كالمشاهد الطبيعة والأشكال التي تدخل في تكوينها.
إن المبدأ الذي تشكلت منه المنمنمات والمتضمّن أشكالاً تعبيرية ووظيفية أبدع في تكوينها الرسام والخطاط والمزخرِف في إنتاج دلالاتها، هي في الحقيقة لا يمكن تأويلها خارج بيئتها الزمانية والمكانية، فإن إمكانية وجود ثوابت لهذا الفن وعلى مستوى دلالة الشكل تحدِّدُه ماهية العناصر ذاتها، وهي بالتأكيد نفس العناصر التي لا يمكن التصرّف بها دون أن يؤدي ذلك إلى المساس بجوهر المنمنمة كظاهرة مرئية، وإن عملية إنتاج الدلالات المرتبطة بخصوصية التكوين الفني للوحة ضمن بيئتها الثقافية والاجتماعية هو وجود يشير إلى المعنى المباشر الذي يمكن اعتباره قاسماً مشتركاً لكل الدلالات التي تتبنّاها أية تكوينات بصرية على اختلاف مكوناتها الفنية، في حين يمكن التعامل مع المعاني باعتبارها قيمة مضافة تعدّ نتاجاً للقيمة البلاغية للمنمنمة.
وعلى الرغم من أن المناهج النقدية الحديثة طوّرت التصوّرات الغربية عن التأويل والذي يطلق عليه اليوم الهرمنيوطيقا فإن هذا السياق يمثل استقطاباً ثنائياً يجمع بين أكثر من دلالة في تأويل المنمنمة .. أحداهما معنى مباشر يتعلق بجماليات التكوين الفني والمشهد الحكائي المنشود، أما الثانية فتتعلّق بالصورة الذهنية التي يحيلها ذلك التكوين إلى البيئة الاجتماعية حيث تحمل مفرداتها سرّ تأويلها ووجودها ، وفي ضوء ذلك يُعاد تأويل نصوص المنمنات بأوجه مختلفة تبعاً لقراءة معانيها المختلفة .
جمع وتحرير
سامر قحطان القيسي
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق