المرئي واللا مرئي في الفنون الإسلامية ..

يلاحظ في الحضارة الإسلامية ، بروز مظاهر فكرة التوحيد في الفن والفكر والتي وجدنا مظاهرها الفنية عند العرب والمسلمين – فنون العمارة على وجه الخصوص فضلاً على فنون الزخرفة الهندسية على وفق نزعة تصاعدية ، تعبيرا عن اللامرئي المطلق ، فقد طورت الزقورات الآشورية ( المعابد ) فيما بعد ما يعرف اليوم بـ ( المآذن) والتي منها ما يشبه الزقورات تماماً كما في مئذنة الملوية ومئذنة جامع احمد بن طولون بالقاهرة ..، فضلا عن ارتباط المآذن بأبراج الكنائس ولا سيما في بلاد الرافدين وبلاد الشام ؛ حيث تحولت الكنائس ودور العبادة المسيحية إلى مساجد واستثمرت الأبراج وطورت الى مآذن ، وخير مثال ما حدث في كنيسة" آيا صوفيا " في اسطنبول وتحولت الى مسجد كبير بعد الفتح الإسلامي لبلاد الاناضول ، فضلا عن مساجد الشام (المسجد الأموي) وغيرها من مساجد الأندلس .

 

إذ يعلل اغلب المنظرين في هذا الظاهرة ومنهم الاستاذ عفيف بهنسي بأنها نزعة تصاعدية وجدت عند العرب كما الأقواس والقباب فقد كانت تعبيراً عن فكرة اللا متناهي وعن الكرة الكونية كما يقول الباحث والمؤرخ الالماني " أوسفالد اشبنغلر " صاحب كتاب " انهيار الغرب " والذي يوحي دائماً بالانطلاق نحو السماء ويبدو ذلك واضحاً عند مقارنته بطراز العمارة الإغريقية المتمسك بفكرة المرئي .

هذه النزعة التصاعدية ، المتعالية على الواقع المرئي ، نجدها قد نضجت عند الفنان المسلم على  وفق جدلية ذهنية متسامية في الفن ، بعد ان واجه عالم المرئيات وتناول عناصره الأولية ، فوجده عالماً فانياً ، فقام بإعادة تركيبه بعد تفكيكه وتحليله إلى عناصره الأولية ومن ثم تشكليه في صياغة جديدة .

فهو لم يفكر في محاكاة المرئي محاكاة حرفية  ولم يهدف إليه كغاية ولم يعنيه الظاهر ، بل نجده يخالف صورة المرئي من اجل إبداع أشكال جديدة متخيلة تحاكي الباطن ، أشكالا  لا نظير لها في الطبيعة المرئية ، وهنا نجد ارتباطاً واضحاً بين الأسطورة الشعبية وبين فنون التشكيل من حيث معالجة الأشكال الحيوانية المركبة أو الخرافية مستعينا بخياله الخصب لمعالجة المظاهر المرئية .

ان الحس الديني ، أوجب على الفنان المسلم الفصل بين الجمال المرئي والجمال الروحي اللا مرئي ، ليتحول باتجاه الجمال المطلق المجرد الذي يشكل بالنسبة إليه مساراً عقائدياً توحيدياً قبل ان يكون ميلاً ذاتياً ، فقد اتجه ومن خلال فكرة التوحيد إلى البحث الرياضي والهندسي في الفن الإسلامي بكل مفاصله ،  ليسهم في إتقان وإحكام عناصر الصورة في استحداث بنية مكانية تصويرية تقترب من المطلق واللا نهائية ،  كما في حنيات أماكن العبادة وجدرانها في تشكيلات المقرنصات الجصية أو المعدنية أو المرايا الزجاجية .

 

فقد أبدع الفنان الشرقي المسلم في الفنون المعمارية والزخرفية والتطبيقية ، فجعل الهندسة لغة للنحت ومن الزخرفة جمالاً مستمراً بانسجام شديد وإيقاع حي يشهد على خيال وذهن متأمل ، قادر على ضبط الأشكال وربط علاقاتها الجدلية بدقة متناهية في مجال قناعاته وإيمانه المطلق بالقيم الواضحة المعالم المنطلقة اساساً من فكرة التوحيد.

فالتوحيد في الفن بشكل عام والفن الإسلامي بشكل خاص هو ربط الكل بالجزء ربطاً متكاملاً ، وهو يعطي لكل عنصر من عناصر البناء مفاهيمه ويعطي لكل زاوية من الزوايا حديثها ، فهو يصمم ويبدع الأماكن التي يسكنها ، كما يحقق أقصى درجات الفن في بناء المساجد التي يقترب فيها من روحه بقبابها ومآذنها وأعمدتها المزخرفة والمنقوشة بالكتابات الجميلة والمذهبة ، ليؤلف منها تكوينات سيمفونية بصرية متفردة منقطعة النظير .

 ولو نظرنا الى نتاجات الفنان المسلم لوجدناها قائمة على أساس من الإيقاع ومن ثم الحركة فهو يقدم التفرد في الوحدة الهندسية فضلا على التنوع في تعدد الوحدات والألوان ثم التلاحم في تداخل الوحدات مع بعضها البعض ، من هذه المفاهيم نلمح فكرة التوحيد الذي ينبثق من الوحدة الهندسية المترابطة بمثيلاتها من بقايا الوحدات أو المغايرة لها والمكونة للسطح المرئي ..

إذ ان تقسيم الفنان المسلم للسطح التصويري إلى مساحات ذات أشكال هندسية متباينة ووضع في داخلها الوحدات الزخرفية المستمدة من العناصر النباتية أو الأشكال الهندسية أو الحيوانية أو الكتابات الحروفية ، والتي قد تجتمع في المساحة الواحدة كل هذه الأنواع الزخرفية ،، جعله  ينتقل بالمرئي من عناصر ايقونية طبيعية الى عناصر زخرفية ذات طبيعة خاصة ومن ثم إلى أشكال مركبة من الحيوان إلى أشكال الأزهار ومن الحيوان إلى الارابسك ومن الخطوط الهندسية المستديرة إلى الخطوط المستقيمة وهكذا .

 

وقد تضمن القرآن الكريم في الكثير من الآيات الكريمة دعوات إلى النظر في المرئيات (الموجودات) أي التفكر في خلق الخالق ، كما في قوله تعالى : " ان في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب " ، وقوله جل وعلا : " فاعتبروا يا أولي الأبصار" .. ومن هذه الآيات الكريمة وغيرها من آي الذكر الحكيم ، نجد صفة الإطلاق على عنصري الزمان والمكان واضحة ، فالفنان المسلم ينظر إلى الحياة الأخرى اللا مرئية على إنها امتداد للحياة الدنيوية المرئية ، فعمل الإنسان في دنياه  له جزاء عند الله تعالى في الحياة الاخرة ، بمعنى ادق ان صح التعبير ان القرآن الكريم جعل من الحياة الدنيوية المرئية  والحياة الأخرة اللا مرئية حياة متواصلة من حيث حدودهما الزمانية والمكانية المرتبطان باللا محدود  واللا تناهي .

 

 

 ولهذا نجد ان الفنان المسلم ، قد ابتعد من فكرة التجسيم ( المرئي ) فيما أبدع من أعمال فنية ؛ لأنه     لا يستهدف العمق او البعد الثالث في الصورة الفنية كما هو في الفنون الغربسة بشكل عام ، كي يبتعد من مسألة التحريم ، وليبحث عن عمق آخر أو جدل آخر وهو العمق الوجداني أي الجدل التصاعدي المتعالي ، بينما في فنون الزخرفة نلاحظ تواجد الوحدات الزخرفية على الأبواب وخاصة زخارفه ذات الأطباق النجمية التي تحيل المتلقي إلى اللامرئي ، فتقودنا هذه بدورها إلى زخارف ثالثة وهكذا وبما يوحي للرائي انه ينقل من مستوى فكري إلى مستوى فكري آخر.

اذ يرى كثير من الباحثين في هذا المجال ..  ان الفنان المسلم يسمو بالمرئي نحو اللامرئي بالتجريد ، تأكيداً لمدلول اللا محاكاة واللا تمثيل من خلال تجريده لمشاهد حية في الطبيعة من خلالها ، فلا يبقى منها إلا خطوطها الهندسية المحددة ، فالفنان المسلم كان وما يزال ينظر إلى الوجود المرئي وكأنه وجود روحي يقع خارج مديات بنيتي الزمان والمكان على وفق رؤية دينية إسلامية .. تجعل من الفن وسيلة للكشف عن الجوهر برؤية حدسية ، كونه لم يرسم او ينحت او يهندس او يزخرف لأجل إمتاع الحس أو حتى العقل ، بل من اجل إمتاع الروح لأنه عندما يرسم لأجل الإمتاع بمعنى انه يقدم دعوة إلى الانجذاب إلى المرئيات  والغور في مسألة القبح والحسن الماديين الزائلين ... فهو يرسم اللا متناهي بنظرة تحولية مستعيناً باسلوب التسطيح من اجل إيصال فكرة العمل الفني إلى الحقيقة المطلقة  خارج حدود الجمال العقلي الحسي ، باعتبار ان الصورة الإسلامية الفنية أصالة في الفكر والخيال وهي تربط بين صانعها وجملة المرئيات في وحدة وجودية مطلقة انطلاقاً من فكرة التوحيد وبأسلوب جمالي خلاق .. فهو تجسيم حي للتفاعل والتجاذب بين الفن والكون .الذي هو من خلق المصور جل وعلا .

ومن الجدير بالذكر في هذا الموطن ان الفن الإسلامي ينظر إلى الأشياء من حيث هي مرئيات  مجزأة في ظاهرها وموحدة في أصولها وحقيقتها ، مما يؤول إلى فكرة الشمول الكوني والارتباط الكامل بين مختلف مظاهر الوجود ... ومن جانب آخر نلمس ان الفنان المسلم قد وفق بين التحريم الفقهي والفن عن طريق اعتماده لجملة من الأساليب والتقنيات التشكيلية التي ترمي إلى الابتعاد عن نقل الواقع المرئي كما هو إلى صورة من أهمها  :

1.    إهمال بعض المظاهر الحسية في العمل الفني .

2.    تجنب خداع النظر والمنظور .

3.    عدم استعمال الظلال والأضواء ، كونها تدل على بنية تجسيمية .

4.    إثبات بعض العناصر الوهمية أو المستحيلة . هنا وهناك كاستعمال الألوان بطريقة لا واقعية .

إذ تنطوي هذه الأساليب وغيرها على ما يسمى مبدأ الاستحالة  وهو ما يسمح للفنان المسلم بان يثبت صدق نيته في انه لا يروم البته إلى التشبيه أو محاكاة المرئي .

 

جمع وتحرير

سامر قحطان القيسي

الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة