الملك الصالح.. طلايع بن رزيِّك

فارس الشعر والوغى

قلما جمع إنسان بين ميزتي السياسة والأدب ووُفق فيهما معاً دون ان تضر إحداهما بالأخرى، والتاريخ يحفل بكثير من الأسماء التي جمعت بينهما, لكن كثيراً منها ما إن اجتازت عتبة الأولى حتى تساقطت أمام أعتاب الثانية.

فهذا ابن المعتز الشاعر العباسي يتولى الخلافة ليوم واحد ليصبح مقتولاً، وكذلك كانت نهاية الفتح بن خاقان وزير المتوكل وغيرهما، وطالت هذه العدوى حتى من لم يتسلم خلافة أو وزارة سوى ما يمت عمله بصلة سياسية ومنصب بسيط في البلاط, كما حدث لعبد الحميد الكاتب وابن المقفع, وحتى قيل لو أن المتنبي تسلم إمارة لانتهى أمره كشاعر عظيم.

ولكننا نجد في مقابل هذا القليل ممن وفق فيهما كالصاحب بن عباد, ونصير الدين الطوسي وغيرهما, وإضافة إلى هذين العلمين نجد شاعراً كبيراً لمع اسمه في سماء الأدب العربي ألا وهو الملك الصالح طلايع بن رُزِّيك.

ورغم أن نهايته كانت قتلاً، إلا أن سيرته العادلة الفاضلة وأدبه الرفيع وعلمه الواسع يحكم بأنه قد حواهما معا دون ان يضرّ بأحدهما، فكما أبدى مقدرة كبيرة في مسؤوليته السياسية والاهتمام بشؤون الجيش وإعداده وتسيير شؤون البلاد وإدارة أموره الاجتماعية، حتى لُقب بـ (الملك الصالح) و(فارس المسلمين).

فقد حاز من العلوم والآداب ما لم يدانيه أحد في زمانه من الملوك والأمراء, فكان متكلماً شاعراً, وشجاعاً كريماً, وجواداً فاضلاً عظيم المنزلة في العلم والدين والدنيا، وقد أفصح عن نفسيته الكبيرة وشمائله الكريمة بقوله:

أبى الله إلا أن يديــــنَ لنا الدهرُ   ***   ويخدمُنا في ملكنـا العــزُّ والنصرُ

علمنا بأنّ المــــــالَ تُفنى ألوفهُ   ***   ويبقى لنا من بعــده الذكرُ والأجرُ

خلطنا الندى بالبأس حتى كأننا   ***   سحابٌ لديه الرعدُ والبرقُ والقطرُ

الملك الصالح

ولد الملك الصالح طلايع بن رُزِّيك - بضم الراء وتشديد الزاي المكسورة- في أرمينية بأذربيجان سنة 495هـ ونشأ نشأةً كريمة وتربّى على الفضل والأدب والكمال وكبر النفس وعلو الهمة وسمو الغاية وقوة العقيدة. (1)

فكان رجل وقته فضلاً وأدباً وسياسة وتدبيراً, وقد أهلته ملكاته النفسية والعقلية وفضائله وأخلاقه وشجاعته لأن يتولى الوزارة للخليفة الفاطمي الفائز عام 495هـ فأظهر من البطولة والسياسة والحنكة إضافة الى برّه وجوده وعلمه ما لم يحزه أحد قبله من الوزراء.

كما تميّز الملك الصالح بالتقوى والورع والعبادة. قال المقريزي في ترجمته: وكان محافظاً على الصلاة فرائضها ونوافلها، شديد المغالاة في التشيّع صنف كتاباً أسماه: الاعتماد في الرد على أهل العناد. جمع له الفقهاء وناظرهم عليه وهو يتضمن إمامة علي بن أبي طالب (ع)، وله شعر كثير يشتمل على مجلدين في كل فن في اعتقاده...

وكان شجاعاً كريماً, جواداً فاضلاً، محبّاً لأهل الأدب، جيّد الشعر، رجل وقته فضلاً وعلماً وسياسةً وعقلاً وتدبيراً، وكان مهاباً في شكله .... محافظاً على الصلوات فرائضها ونوافلها.

ثم ذكر مجموعة من أشعاره في ذلك. (2)

وقال شمس الدين السخاوي: جُمع له بين السلطنة والوزارة وكان مجاهداً في سبيل الله وهو الذي أنشأ الجامع تجاه باب زويلة المعروف الآن بجامع الصالح وهو بظاهر القاهرة.

وقال أيضاً: حاز الملك الصالح طلايع من العلوم والآداب ما لم يدانيه فيه أحد من الأمراء والملوك في زمانه وسمع من الشعر فأكثر، وكان متكلماً شاعراً أديباً عظيم المنزلة في العلم والدين والدنيا مع مسؤوليته السياسية والتفكير في شؤون الجيش وإعداده, وتأميم حياتهم الفردية والاجتماعية, وما يفتقرون اليه من العتاد والأسلحة والذخائر الحربية، وقد أجمع المؤرخون على فضله وعلمه وعظيم مواهبه. (3)

وقال الشيخ القمي: الملك الصالح فارس المسلمين كان وزير مصر للخليفة العاضد بعد وزارته للفائز ، وتزوج العاضد بابنته ، وكان فاضلاً سمحاً في العطاء محباً لأهل الأدب. (4)

قاد الملك الصالح حملات عديدة ضد الصليبيين ولم يترك الجهاد طيلة عمره الذي قضاه في تسيير الجيوش لقتالهم في البر والبحر، ولم يثنه كل هذا الجهاد في سبيل الله عن قيامه بواجبه تجاه العلم والعلماء، فقد كان يحمل في كل عام إلى أهل الحرمين بمكة والمدينة من الأشراف سائر ما يحتاجون إليه من الكسوة وغيرها حتى كان يبعث إليهم ألواح الصبيان التي يكتبون فيها والأقلام والمداد. (5)

كما كان مدافعاً صلباً عن المذهب الحق مذهب أهل البيت (ع) بيده ولسانه فكان يجمع الفقهاء ويناظرهم حول الإمامة.

سخّر طلايع أدبه وشاعريته لعقيدته الراسخة وولائه لأهل البيت (ع)، فقد حمل شعره طابع الولاء وتأرّج بعبق الولاية وله في مدح الأئمة الطاهرين ورثائهم قصائد مطولة كثيرة منها قوله:

آل النبيِّ بــــــــهم عرفنا مشكلَ الـــــــــــــــقرآنِ والتـــــــــوراةِ والإنجيلِ

هم أوضحوا الآيـاتِ حتى بيّنوا الـــــــــــــــغاياتِ في التحـريـــمِ والتحليلِ

عند التباهــــــــلِ ما علمنا سادساً   ***   تحتَ الكسا معهم سوى جبريلِ

فقد تفانى في حبه لهم (ع) وقد آلى على نفسه قتال أعدائهم:

آليــــــــــــت لا ألقى عداةَ أئمتي   ***   إلا بعضبِ الشفرتيـــنِ صقيلِ

ويقول في لامية أخرى:

فلا يطمعُ الأعـــــــــــــــــــداءُ فيَّ فأنني   ***   ليَ اللهُ بالنصـرِ المبيـــــنِ كفيلُ

أقول: لهم ميــــــــــــــــــلي إلى آلِ أحمدٍ   ***   وما أنا ميّـــــالُ الــــودادِ ملولُ

لأنَّ لهـــــم في كل فضــــــــــــلٍ وسؤددٍ   ***   فضولاً عليها العالمون فضولُ

ويسترسل في قصيدته حتى يصل إلى مقتل الحسين (ع) فيقول:

علامَ قتـــــــــــــــــلتمْ بضعةً من نبيكمْ   ***   وتدرونَ إن الــــرزءَ فيه جليلُ

ضحكتمْ وأظهرتــــــــمْ سروراً وبهجةً   ***   بيومٍ به نجلُ البتـــــــــولِ قتيلُ

قتيلٌ شجى الأمـــــــــــلاكِ ما فعلوا به   ***   وأظهرَ أسحانُ الجيادِ صهيــلُ

ومن حقّهم أن تخســــفَ الأرضَ للذي   ***   أتوه ولكــــن ما الحكيمُ عجولُ

وفي عينية مبكية يتعرض إلى الحوادث والآلام التي جرت على أهل البيت (ع) يقول فيها:

يا فعلةً جــــــــــــاءوا بها في الغدرِ فاضحةً شنيعَه

خابَ الذي أضـحى الحسين لطولِ شقوتهِ صريعَه

أفذاكَ يرجو أن يكــــــــــــــــونَ محمدٌ أبداً شفيعَه

وفيها يقول:

تحتَ السقيــفةِ أضمرتْ ما بالطفوفِ غدت مذيعَه

فلذاك طـــــــــاوعت الدعيَّ وكثّرتْ منه جموعَه

بجيوشِ كفرٍ قد غــــــــــدا ذاكَ النفاقُ لها طليعَه

وقد حملت أغلب قصائده واقعة الطف وما جرى على سبط الرسول الاكرم (ص) يقول في نونيته:

في كربلاء ثــوى ابنُ بنتِ رسولِ ربِّ العالمينا

قفْ بالضريحِ ونادهِ يا غاية المتوسلـــــــــــــينا

مولايَ جسمكَ ضرَّجته دماً سيوفُ القــاسطينا

لهفي عليكَ وحسرتـــــي تبقى على مرِّ السنينا

وشعره فيهم (ع) يحتاج إلى دراسة مطولة لكثرته وجودته، وقد طبع له ديوان ضخم.

وبلغ مدى إيمانه وعقيدته وصدق ولائه وحبه لأهل البيت (ع) أنه لما زار مشهد الإمام علي بن أبي طالب (ع) مع أصحابه قبل أن يتولى الوزارة، ما روي عنه هذه القصة:

أنهم باتوا هناك فرأى السيد ابن معصوم إمام المشهد آنذاك، ــ وكان سيداً شريفاً جليلاً عظيم الشأن ــ  أمير المؤمنين (ع) في المنام وهو يقول له: قد ورد عليك الليلة اربعون فقيراً من جملتهم رجل يقال له: طلايع بن رزِّيك من أكبر محبينا فقل له: إذهب إلى مصر...

فقص عليه السيد ابن معصوم رؤياه، وفي الحال نفذ بن رُزّيك الأمر ورحل إلى مصر، وهناك حصل أن قتل نصر بن عباس الخليفة الظافر اسماعيل فاستثارت نساء القصر لأخذ ثاراته بكتاب في طية شعورهن، فحشّد طلايع الناس لقتل الوزير القاتل، فلما اقترب من القاهرة فرّ نصر ودخل طلايع المدينة بسلام، وخلعت عليه الوزارة ولقب بالملك الصالح وبيّن هذه الحادثة في قوله:

بحبِّ عليٍّ أرتقي منكبَ العلى   ***   وأسحبُ ذيلي فوقَ هامِ السحائبِ

إمامي الذي لما تلفظتُ باسمه   ***   غلبتُ به من كان بالكثرِ غـــالبي

تولى الملك الصالح الوزارة للخليفة العاضد بعد وفاة الفائز وتزوج العاضد من ابنته، و روي عن الملك الصالح الحادثة المشهورة مع رأس الحسين (ع). فقيل إنه لما أمر يزيد أن يُطاف بالرأس الشريف في البلاد وانتهى إلى عسقلان فدفنه أميرها بها، فلما غلب الافرنج عليها افتداه منهم الصالح طلايع وزير الفاطميين بمال جزيل ومشى إلى لقائه من عدة مراحل ووضعه في كيس حرير أخضر على كرسي من الأبنوس وفرش تحته المسك والطيب وبنى عليه المشهد الحسيني المعروف بالقاهرة وهذا القول من جملة أقوال عديدة حتى قيل:

لا تطلبوا رأسَ الحسيــنِ فإنه   ***   لا في حمى ثـــــاوٍ ولا في وادِ

لكنّما صـــــــفو الولاءِ يدلكمْ   ***   في أنه المقبـــــورُ وسط فؤادي

وإضافة إلى شعر طلايع الولائي فله شعر كثير في المحاججات والمناظرات مع المخالفين كقوله

يا أمة سلكت ضــــــلالاً بيـــّنا   ***   حتى استوى إقرارُها وجحودُها

قلتم ألا أن المعاصيَ لـــم تكن   ***   إلّا بتقديرِ الإلــــــــــــه وجودُها

لو صحَّ ذا كانَ الإلهُ بزعمـكم   ***   منعَ الشريعةَ أن تقامَ حــــدودُها

حاشا وكلا ان يكــــــون إلهُنا   ***   ينهى عن الفحشاءِ ثم يريـــــدُها

قضى الملك الصالح عمره كله بين الجهاد في سبيل الله والدفاع عن المذهب ودحض شبهات المخالفين ورعاية العلم والعلماء حتى حيكت حوله الدسائس والمؤامرات فأرسلت له عمة الخليفة العاضد من قتله بالسكاكين غيلة!

ولم يمت من ساعته وحُمل إلى بيته وأرسل يعتب على العاضد فاعتذر وحلف إنه لم يكن يعلم بما دُبِّر له، ثم مات طلايع في 19 من شهر رمضان سنة 556هـ ودفن بالقاهرة وتولى ابنه العادل الوزارة مكانه للخليفة العاضد.

ورُوي إنه لما كانت الليلة التي قتل في صبيحتها قال: هذه الليلة ضرب في مثلها الإمام أمير المؤمنين (ع)، وأمر بقراءة مقتل أمير المؤمنين (ع) واغتسل وصلى مائة وعشرين ركعة احيا بها ليله وخرج في الصباح ليركب فعثر وسقطت عمامته واضطرب لذلك فأصلح عمامته فقال له رجل:

إن هذا الذي جرى يُتطيّر منه، فأن رأى مولانا أن يؤخّر الركوب. فقال: الطيرة من الشيطان وليس إلى التأخير سبيل، ثم ركب فكان من أمره ما كان (6) وبكاه الناس كثيراً, ورثته الشعراء منهم الفقيه عمارة اليمني فكان من رثائه:

أفي أهلِ ذا النادي عليهم أُســـــائله   ***   فإني لما بيَ ذاهبُ اللبِّ ذاهله

سمعتُ حديثاً أحسدُ الصـــمَّ عنده   ***   ويذهلُ داعيهِ ويخــــرسُ قائله

فهلْ من جوابٍ يستغيثُ به المنى   ***  ويعلو على حقِّ المصيبةِ باطله

.......................................................................................................................

1 ــ أدب الطف ــ السيد جواد شبر ج 3 ص 257

2 ــ المواعظ و الاعتبار بذكر الخطط و الآثار  المعروف بخطط المقريزي  ج 4 ص 8

3 ــ وجيز الكلام في دول الإسلام ص 10

4 ــ الكنى والألقاب ج 3 ص 197

5 ــ خطط المقريزي ج 4 ص 8

6 ــ أدب الطف

gate.attachment

: محمد طاهر الصفار